الرحمة والعفو سمة الأقوياء… دروس من فتح مكة

الرحمة خلق رفيع، وطبع حميد، لا يتصف به إلا كبار النفوس، ألا يكفي أن منه اشتُق اسم الرحمن الرحيم، ألا يكفي أنه منهاج النبوة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وهو خلق الصحب رضوان الله عليهم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، فالرحمة والعفو سمة كل مؤمن، وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))¹، فكيف تمثلت الرحمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كانت رحمته يوم فتح مكة؟ وكيف قابل النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء قريش بعد أن تمكن منهم؟

الرحمة مفتاح النجاة وخلق الأولياء 

إن ما يميز المؤمنين عن غيرهم تراحمهم فيما بينهم وتوادُّهم وتعاطفهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: ((مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى))²، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم «المؤمنين» دلالة على أن درجة الرحمة لا يبلغها منافق أو كافر، وإنما ينالها من صدق قلبه وقوي إيمانه، فالمؤمن رقيق القلب، رحيم الخُلق، فهو يحن على الفقير والمسكين، والقريب والبعيد، متذكرًا بأن الرحمة مفتاح الفوز بالجنة والنجاة من النار، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ))³. 

وكم هي القصص التي تروى عن مؤمنين فازوا بالجنة برحمتهم، ومن ذلك أن مسكينة مرت على أمنا عائشة ذات يوم، وكان بجوارها ابنتاها، فأطعمتها أمنا عائشة ثلاث تمرات، فأعطت الأم كل ابنة تمرة، وهمت أن تأكل تمرتها، غير أن ابنتيها طلبتا التمرة، فحنَّ قلب الأم فقسمت التمرة قسمين وأعطت كل ابنة قسمًا، فتعجبت عائشة مما رأت، فلما أتت النبي صلى الله عليه وسلم حدثته بالخبر، فما كان منه إلا أن قال: ((إنَّ اللهَ قد أوجَب لها الجنَّةَ وأعتَقها بها مِن النَّارِ))⁴، يا الله أبتمرة اشترت نجاتها! وبرحمة نالت الجنة! حقًا إن الخاسر من زهد بالرحمة واستغنى عن العفو والمغفرة، فلربما ما رغب عنه كان سر نجاته يوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا عتاب، إلا من أتى الله بقلب خاشع أوَّاب! 

مقدمات فتح مكة

صلح الحديبية 

وقع صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين متوجهًا إلى مكة معتمرًا، سائقًا معه الهدي؛ إشارة إلى أنه لم يخرج محاربًا وإنما خرج زائرًا لبيت الله ومعظمًا له، لكن قريشًا لم ترض بدخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكةَ، فأرسلت رسولً إليه ليعقد بينهم صلحًا، على أن تكون مدته عشر سنين لا سرقة ولا خيانة فيها، وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش دخل ومن أحب أن يدخل عهد النبي دخل، فقالت خزاعة: «نحن في عقد محمد وعهده»، وقال بنو بكر: «نحن في عقد قريش وعهدهم». 

خيانة قريش… بدايةٌ لفتح مكة

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية نحو ثمانية عشر شهرًا، إلى أن صدر من قريش تصرفٌ أحمق أظهر غدرهم بالعهد ونقضهم لميثاق الصلح، حيث أعانت قريش حلفاءها من بني بكر على قتل رجال من خزاعة حلفاءِ المسلمين، معتقدين أن الخبر لن يصل إلى النبي، فأعانوا بني بكر على خزاعة بالخيل والسلاح والرقيق، لكنَّ ظن قريش خاب، فقد بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليهم أنهم بالخيار؛ إما أن يدفعوا دية قتلى خزعة أو أن يتبرؤوا من حلف بني بكر أو القتال، فلما وصلهم الخبر اختاروا القتال.

ندم قريش

ما لبث زعماء قريش أن ندموا على قرارهم واختيارهم قتال رسول الله، فلم يكن أمامهم إلا أن يخرج أبو سفيان زعيم قريش للمدينة ليشد العقد ويزيد مدة الصلح، فلما بلغ أبو سفيان المدينة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، لكن النبي لم يرد عليه، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يزد الصديق على أن قال: «ما أنا بفاعل»، ثم أتى عمر فكلمه، فأجابه الفاروق: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به»، وبقي حال أبي سفيان على ذلك إذ لم ينل من المسلمين كلمة واحدة تحمل معنى من معاني الأمن، فهمّ عائدًا إلى قريش يقص عليهم الخبر، وما زادهم إلا ندمًا على ندمهم. 

تجهيز جيش فتح مكة

مع خروج أبي سفيان من المدينة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لقتال قريش، وأرسل إلى القبائل الضاربة حول المدينة من أسلم وجهينة وأشجع وسليم بالتجهز أيضًا، وأكد عليهم التزام كتمان الخبر، وسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمي على قريش خبره حتى يباغتهم. 

انطلاق جيش الفتح 

انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، يقود جيش الفتح إلى مكة، وما لبثت القبائل أن التحقت بجيش النبي صلى الله عليه وسلم، فوصل ألف من مزينة، وألف من سليم وغيرها، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود جيش الفتح إلى أن وصل لمشارف قريش، وقريش غافلة عن الخبر، وعندها قسم النبي الجيش إلى ميمنة وقلب وميسرة، وجعل على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة الزبير بن العوام، وجعل على الرجالة أبا عبيدة بن الجراح، وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض ورايته سوداء. 

فلما وصل الخبر إلى قريش جمعت جموعًا شتى من قبائل متفرقة لتحمي نفسها، قائلة إن أحرز هؤلاء نصرًا كفوها وإلا صالحت المسلمين عند الهزيمة، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكسر شوكة القبائل، فأصدر أوامره بقتال كل من يعترض زحف جيش المسلمين. 

ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة، وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من كُدى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كداء، وهو جبل بأعلى مكة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة كداء من فوق الثنية من الأعلى، فأما خالد فاصطدم في جنوب مكة مع نفر من قريش يقودهم عكرمة وسهيل وصفوان، ودار قتال استطاع فيه خالد أن يكسرهم، وأن يرسل منهم إلى الموت أربعة وعشرين رجلًا. 

تغمد فتح مكة بالعفو والرحمة 

عندما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على الدخول إلى مكة طأطأ رأسه تواضعًا لله العظيم، الذي ذلل له النصر وقهر الطغاة الذين عاثوا في البلاد فسادًا وتجبروا وظلموا واستكبروا على الوحي ونبي رب العالمين. 

فلما فتحت مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين أن يكفوا السلاح والقتال إلا خزاعة من بني بكر، فأذن لهم حتى صلاة العصر، ثم قال لهم: «كفوا السلاح». 

ولما تيقن زعماء قريش أن مكة قد فتحت على أيدي المسلمين، خرجوا وتجمعوا حول الكعبة؛ ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وهم يبصرون قدرته بإصدار أمر لأصحابه بقتلهم لو أراد، وكانوا قد أذاقوه هو وأصحابه من قبلُ أشد ألوان الأذى وأصناف التعذيب والتنكيل، فقال لهم وهم صامتون: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وفي رواية أخرى، قال «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم».

العفو والصفح عند التمكن سمة الأقوياء 

قُتل يوم أُحد من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين خمسة سادسهم حمزة، ومثلت قريش بقتلى المسلمين، فقالت الأنصار: «لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر لنُرْبِينَّ عليهم، أي لنزيدن عليهم في التمثيل»، فلما كان يوم فتح مكة، نادى رجل من القوم لا يعرف: «لا قريش بعد اليوم»، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وإن عاقبتم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عوقبتم به وَلَئِنْ صبرتم لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}، فمجرد نزول هذه الآية أصبح الأمر بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شاء عاقب وقتل وإن شاء عفا عمَّا سلف، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة اختار أصعب الخيارين، اختار العفو عند التمكن.

ولو أنه صلى الله عليه وسلم اختار القتل لكان الحق معه، ولَمَا خالفه به أحد، لكنه علم بحكمته أنه بالعفو والرحمة سيتألف قلوب قريش والعرب، فاختار ما هو أحب لله بإسلام الناس أفواجًا على الانتصار لنفسه بقتل من آذاه، فصلى الله وسلم على معلم الناس الرحمة والعفو.  

الرحمة لا بد لها من الحكمة

لربما ظنَّ المطَّلع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التناقض في أوامر رسول الله، فهو عندما تمكَّن عفا، ولكنه في ذات الوقت أطلق الأمر بقتال كل من واجهه عند الفتح وسمح لخزامة بقتال بني بكر، وكذا الحال يوم الخندق؛ يوم أمر بقتل بني قريظة بعد خيانتهم، أفي هذا تناقض؟

الحقيقة أن هذا هو عيْن الحكمة، فلا يمكن لقائد عظيم أن يتخذ منهجا واحدا في سياسته وإلا لما هابه الناس، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن بني قريظة بعد خيانتهم لعادوا لخيانته مرة أخرى، ولربما انكشفت بيضة المسلمين فطعنوهم في ظهورهم، وأما قرار النبي صلى الله عليه وسلم بقتال كل من واجهه يوم فتح مكة فكان لكسر شوكة الكفر وصناعة هيبة للإسلام والمسلمين، فلا يظنن أحد أن شأن مسلمين هين فتسول له نفسه مواجهتهم وقتالهم طامعًا برحمتهم إن هُزم.

المسلم لباسه الرحمة وخلقه العفو

من اطلع على حال المسلمين يوم عذَّبتهم قريش، واطلع على عفو النبي ورحمته يوم فتح مكة، لتعجَّب كل العجب، كيف لمن ذاق أشد ألوان العذاب أن يعفو هذا العفو، لكن الحقيقة أن هذا هو جوهر الرحمة التي بعث بها النبي: الرحمة عند القوة، فهو لم يرسل رسولَ قتل وتهجير، وإنما أرسل رسول رحمة وعفو صلوات ربي عليه.

لم تكن رحمته يوم فتح مكة بالأمر الغريب عليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيما في كل أمره، فمن رحمته أنه دخل ذات يوم على حائط رجل من الأنصار، فإذا بجمل يركض باتجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذرفت عيناه من الدمع، فمسح النبي سنامه وذفريْه، فسكن الجمل، ثم قال النبي: ((من رب هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك إياها، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه_أي تتعبه))⁵، فصلى الله عليك وسلم يا معلم الناس الرحمة في كل شي، فقد قلت: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))⁶.

 في الختام، يجب على المسلم أن يتصف بسمة الرحمة في كل شيء، قدوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعليه أن يتذكر دومًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَضَعُ اللهُ رَحْمَتَهُ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ)). قالوا: يا رسول الله، كلنا يرحم، قال: ((لَيْسَ بِرَحْمَة أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً))⁷.

المصادر

• السيرة النبوية على منهج الوحيين القرآن والسنة الصحيحة، الدكتور مأمون حموش.
• مختصر كتاب المنهاج في شعب الإيمان، الإمام الحليمي.

1. رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني ↩︎
2. أخرجه البخاري ومسلم ↩︎
3. أخرجه مسلم ↩︎
4. أخرجه مسلم ↩︎
5. أخرجه أبو داود ↩︎
6. أخرجه مسلم ↩︎
7. صححه الألباني ↩︎