علمني الهدهد.. 9 دروس مستفادة من طائر سليمان

قصة الهدهد مع سليمان فيها دروس جليلة في مجال الدعوة إلى سبيل الله، تُظهر لنا كيفية توظيف الموارد المتاحة لنشر رسالة الإسلام. هذه الدروس تجسد نموذجًا رائعًا في إظهار العزة والكرامة أمام غير المؤمنين، حيث تؤكد على أهمية التمسك بالمبادئ دون تقديم تنازلات أو تساهلات، بل إن هذا النهج يشدد على ضرورة الإصرار على الحق والثبات عليه بكل قوة وعزم. هذا الموقف الراسخ والثابت هو ما يثير إعجاب الطرف الآخر بالحق الذي نحمله، مما قد يؤدي في النهاية إلى استسلامه لهذا الحق واعتناقه كما وقع مع مَلِكة سبأ.

وقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام في هذا المقطع القرآني من سورة النمل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)}، علمتني الدروس الآتية:

كن مسارعًا ومُستبقًا إلى الخيرات

لقد شاهد الهدهد إبان طيرانه، قومًا يعبدون الشمس، شاهد هذا المنكر العظيم، فماذا فعل يا ترى؟ إنه لم يقف موقفًا سلبيًّا، وإنما ذهب، وتحرك وتقَصَّى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)}، وألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام، باذلًا بذلك كل وسعه في تغيير المنكر، وضاربًا بذلك أروع المثل في الإيجابية العملية.

«إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي ما نفتقده اليوم في كثير من شباب الصحوة اليوم، فهم -إلا من رحم الله- لا يكادون يبادرون إلى عمل، أو يسارعون إلى بذل، ولا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف بعينه وشخصه، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ، ويبطئ في الأداء».1

ودعا الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى المسارعة إلى الخيرات فقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. كما حثهم على المسابقة في ذلك فقال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة: 148]. قال الشيخ السعدي: «والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر».2

وكان صلى الله عليه وسلم يحث أمته على المبادرة إلى فعل الخيرات، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [صحيح مسلم: 118]. قال الإمام النووي في شرح الحديث: «مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَعَذُّرِهَا وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُتَرَاكِمَةِ كَتَرَاكُمِ ظَلَامِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ لَا الْمُقْمِرِ».3

لا تحتقر نفسك

فالهدهد لم يقل ماذا عساي أن أصنع، وسليمان يحكم الأرض، وتخدمه الجن، وهذا الخبر لن يكون مهمًا عنده، خاصة مني وأنا الطير الصغير الضعيف؟! بل تقدم بين يدي سليمان، لِيُقدم ذلك الخبر المهم، مُلفتًا جميع أنظار المملكة.

إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي ما نفتقده اليوم في كثير من الأشخاص، لا يكادون يبادرون إلى عمل، أو يسارعون إلى بَذْل، ولا يتحرك أحدهم إلّا حين يُكلَف بعينه، وشخصه، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ، ويبطئ في الأداء!

وهؤلاء الصنف من الناس غالبًا ما يطول انتظارهم، وتَقِلُّ فعاليتهم، وتضعف إنتاجيتهم. 

التضحية من أجل الهدف

فقد قطع الهدهد مسافة اثني عشر ألف كيلو ذاهبًا وآيبًا، بين أرض الشام وسبأ، وقيل إن تلك المسافة كان يقطعها الهدهد في ثلاثة أيام ذاهبًا، ومثلها آيبًا، مُتَحَمِّلًا قرص الشمس، ومقاساة الأنواء، متغلبًا على الجوع والعطش، فيا لله أي تضحية قام بها الهدهد لإنقاذ أمة بأكملها!!4

مهارات الخطاب

لقد كان في خطاب الهدهد لسليمان العديد من المهارات والإبداعات التي يحسن بالإنسان المسلم أن يتعلمها، وهو يخاطب الآخرين.

فنلحظ أولًا إيجازه للخطاب مع سليمان، فقد جمع في أسطر معدودة، قصته الطويلة مع هذه المَلكة التي تعبد وقومها الشمس. والإيجاز مظهر للبلاغة؛ «قَالَ رَجُلٌ لِلشَّافِعِيِّ: “يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا الْبَلَاغَةُ؟” قَالَ: “الْبَلَاغَةُ أَنْ تَبْلُغَ إِلَى دَقِيقِ الْمَعَانِي، بِجَلِيلِ الْقَوْلِ”».5

وقد أدرك الهدهد أنه يخاطب ملكًا، وأن الملوك أوقاتهم حافلة بالمسؤوليات. فهم لا يملكون الوقت للاستماع إلى التفاصيل الدقيقة. لذا؛ ركز الهدهد على جوهر الأمور، فقدّم رسالته بإيجاز وبلاغة، مختصرًا الكلام في أهم نقاطه.

لذلك عند مخاطبة الناس ينبغي إيصال ما تريد بخطابٍ يراعي أحوال المخاطبين، وعدم التقعر في الحديث، وقول ما لا يفيد، فقد ذكر الهدهد القصة كلها بإيجازٍ في كلماتٍ معدودة.

استفتح الهدهد خطابه لسليمان بشيء عجيب، إذ قال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، «إنه يعرف حزم الملك وشدته؛ فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له: أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبإ بنبأ يقين.. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ}؟!»6

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}: «في هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتى ما لا يصل إليه أقواهم؛ لتتحاقر إلى العلماء علومهم، ويردوا العلم في كل شيء إلى الله».7

قال ابن قيم الجوزية: «خاطبه خطابًا هَيَّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه، فقال أحطت بما لم تُحط به، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة، بحيث أحطت به، وهو خبر عظيم، له شأن، فلذلك قال {وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإ يَقِينٍ}، والنبأ هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين، لا شك فيه، ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ، استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر، وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه، ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال، وخطاب التهييج، ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد، فقال {إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ}، ثم أخبر عن شأن تلك المَلكة، وأنها من أجَلِّ الملوك، بحيث أوتيت من كل شيء، يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها، بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم، ثم أخبره بما يدعوهم إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال {وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ}».8

قال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: «وَفِيهِ اسْتِدْعَاءٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَطْلَعِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْمَمَالِكِ وَالْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعْنَى بِهِ مُلُوكُ الصَّلَاحِ، لِيَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ بِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهَا، وَلِتَكُونَ مِنْ دَوَاعِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلْمَمْلَكَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّافِعِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهَا، وَالِانْقِبَاضِ عَمَّا فِي أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَلَلِ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا».9 

لذا على الإنسان أن يتحلى بالفطنة في خطابه، خاصة عند مخاطبة ذوي المكانة الرفيعة. فليصُغْ كلامه بحكمة، مستهدفًا شد انتباه مستمعه. بهذا الأسلوب الذكي، يزيد من فرص إيصال رسالته بنجاح وتأثير.

تحدث عن قضيتك بكل ثقة وشجاعة

تأمل في الهدهد، ذلك الطائر الصغير الذي وقف أمام سليمان عليه السلام -النبي والملك العظيم- بكل ثبات وجرأة. رغم تأخره وتهديده بالعقوبة، لم يفقد رباطة جأشه ولم يتردد في كلامه. بل قدم رسالته بوضوح وثقة.

حين أخبر الهدهد سليمان عليه السلام بخبر بِلقيس وقومها وكفرهم بالله، لم يقل لسليمان: اذهب فأمرهم بالتوحيد والسجود لله، وإنما قال: {أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ}، قال ابن كثير في تفسيره للآية: «وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يَجْرِي فِي تُخُومِ الْأَرْضِ وَدَوَاخِلِهَا».10

قال الزمخشري صاحب الكشاف في نفس الآية: «هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته، ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جَلَّت قدرته، ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظّار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في رُوائه».11

كما نهج الهدهد أسلوبًا لبقًا في عرض أفكاره. فبدلاً من إملاء الحلول، اكتفى باقتراحها والإشارة إليها برفق.

فالهدهد هنا ألمح بالحل، ولم يأمر به، اقترح ولم يفرض، عرض ولم يُصرّح بالتكليف. وبمثل هذا الأسلوب، يمكن أن نكسب الناس.

لذا، من الحكمة عند إرشاد الآخرين ونصحهم أن نتجنب الأسلوب الآمر المباشر. بدلاً من ذلك، يُستحسن اللجوء إلى طرح الأفكار بصيغة العرض اللطيف والاقتراح المرن.

إنكار المنكر

إنكار المنكر من الهدهد

الهدهد وملكة بِلقيس: «كَانَ اسْمُهَا بِلْقِيسَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، مِنْ نَسْلِ يَعْرِبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، قَدْ وُلِدَ لَهُ أَرْبَعُونَ مَلِكًا هُوَ آخِرُهُمْ، وَكَانَ يَمْلِكُ أَرْضَ الْيَمَنِ كُلَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفُؤًا لِي، وَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَ فِيهِمْ، فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ السَّكَنِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ».12

لكنّ كثيرًا من العلماء كذّبوا هذه القصة، وهذا الخبر، قال الإمام القرطبي: «وَيُرْوَى أَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ، وَيَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَلِدُونَ، كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ».13 كما أن الحديث الذي يُروى في هذا الشأن ((أحدُ أبوَيْ بِلقيسُ كان جنِّيًّا)) حديث ضعيف.14

والهدهد قد ساءه ما رأى من عبادة بِلقيس وقومها للشمس، فَتَمَعَّر وجهه لذلك وحمي أنفه، ومازال بهم وبسليمان عليه السلام حتى دخلوا جميعًا في الإسلام وزال هذا المنكر.

فهل نجد في واقعنا صدىً لهذه الخصلة؟

إن إنكار المنكر -وللأسف- صار لا يشكل جزءًا من هَمِّنا، ولا من تربيتنا. والمؤمن ينبغي أن يكون صالحًا في نفسه، ومُصلحًا لغيره. 

التركيز على الأصول وأهمها التوحيد

التوحيد هو جوهر رسالة جميع الأنبياء، فقد جاءت الكتب السماوية لترسيخه، وكُلف البشر بتطبيقه في حياتهم. ولا يمكن تحقيق القوة أو العزة أو النجاة إلا من خلال الإيمان بوحدانية الله.

وقد عَلِم الهدهد هذا؛ فأول ما أنكر عليهم هو إشراكهم بالله تعالى: {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)}، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ إِلَى قَوْلِهِ (الْعَظِيمِ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَيُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْنَى شَرْعٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ عَنِ الْقَوْمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ [قَوْلِ] اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَهُوَ الثَّابِتُ مَعَ التَّأَمُّلِ».15

الإحاطة في نقل الخبر

انظر إلى قول الهدهد: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِ}، قال الشوكاني: “«عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْإِحَاطَةُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ».16

ويقول الطاهر ابن عاشور: «وَالْإِحَاطَةُ: الِاشْتِمَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَجَعْلُهُ فِي حَوْزَةِ الْمُحِيطِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِاسْتِيعَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ».17

لم يكتفِ الهدهد بمعلومات سطحية عن بِلقيس وقومها، بل سعى للإحاطة الشاملة بأخبارهم. هذا النهج يعكس دقةً ملحوظةً وضبطًا في جمع المعلومات.

والإحاطة هي العلم بالشيء من جميع جهاته: في بحثك أو دراستك، أو تخصصك، أو في مسألة رغبت في البحث عنها، اسْبُر أغوارها، وأحِطْ بتفاصيلها، ما لم تفعل ذلك فلن تستفيد، ولن تُفيدَ، فالهدهد أحاط بتفاصيل الملكة ومملكتها، وعملها وديانتها، وديانة قومها، وعرشها، وأرضها.. إلخ.18

فلنحرص دائمًا على الإحاطة الكاملة بالموضوع قبل إبداء الرأي أو اتخاذ القرار، متّبعين في ذلك نهج الهدهد في دقته وشموليته.

سلطان العلم

{فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِ} «أيْ: أنْتَ مِنِ اتِّساعِ عِلْمِكَ وامْتِدادِ مُلْكِكَ. والإحاطَةُ: العِلْمُ بِالشَّيْءِ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، وفي هَذِهِ المُكافَحَةِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ أضْعَفَ الخَلْقِ قَدْ يُؤْتى ما لا يَصِلُ إلَيْهِ أقْواهم لِتَتَحاقَرَ إلى العُلَماءِ عُلُومُهم ويَرُدُّوا العِلْمَ في كُلِّ شَيْءٍ إلى اللَّهِ»19، قال ابن القيم: «وَهَذَا الْخطاب إِنَّمَا جرّأه عَلَيْهِ الْعلم، وَإِلَّا فالهدهد مَعَ ضعفه لَا يتَمَكَّن من خطابه لِسُلَيْمَان مَعَ قوته، بِمثل هَذَا الْخطاب، لَوْلَا سُلْطَان الْعلم. وَمن هَذَا الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة أن بعض أهل الْعلم سُئِلَ عَن مسألة، فَقَالَ: لَا أعلمها، فَقَالَ أحْدُ تلامذته أنا أعْلَم هَذِه الْمَسْأَلَة، فَغَضب الأستاذ، وهَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ أيها الأستاذ، لست أعْلَم من سُلَيْمَان بن دَاوُد، وَلَو بلغت فِي الْعلم مَا بلغت، وَلست أنا أجهل من الهدهد، وَقد قَالَ لِسُلَيْمَان أحطت بِمَا لم تحط بِهِ فَلم يعتب عَلَيْهِ، وَلم يُعَنِّفْه».20

وهناك دروس وعبر أخرى يمكن أن تُستفاد من التفكر في قصة الهدهد، ونكتفي بهذا القدر خوفًا من الإطالة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من ورثة العلم، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش

  1. عادل باناعمة، في صحبة الهدهد، http://saaid.org/aldawah/157.htm. ↩︎
  2. عبد الرحمن السعدي،  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420هـ -2000م، ص 72. ↩︎
  3. النووي شرف الدين، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392هـ، ج3/133. ↩︎
  4. عامر الخميسي، شكرا أيها الهدهد،  https://tinyurl.com/276wxmsd. ↩︎
  5. الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه، لفقيه والمتفقه، دار ابن الجوزي – السعودية ج2/66. ↩︎
  6. سيد قطب، في ظلال القرآن، ج5/2638. ↩︎
  7. تفسير البقاعي= نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ج14/150. ↩︎
  8. ابن قيم الجوزية، كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل دار المعرفة، بيروت، لبنان: 1398هـ/، 1978م، ص 71. ↩︎
  9. التحرير والتنوير، ج19/249. ↩︎
  10. تفسير ابن كثير، ج6/169. ↩︎
  11. الزمخشري محمود بن عمر بن أحمد،  الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج3/362. ↩︎
  12. انظر معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي، ج3/499. ↩︎
  13. القرطبي أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ هـ – 1964م، ج13/182. ↩︎
  14. ذكره الألباني في السلسة الضعيفة، وقال: وهذا إسناد ضعيف؛ سعيد بن بشير؛ مختلف فيه، ج12/608، رقم الحديث 5778. وأخرجه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال، ج4/416. وقال ابن كثير: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، البداية والنهاية، ج2/21. ↩︎
  15. القرطبي أبو عبد الله، جامع لأحكام القرآن، ج13/187. ↩︎
  16. الشوكاني محمد بن علي، فتح القدير، ج4/153. ↩︎
  17. التحرير والتنوير، ج19/250. ↩︎
  18. عامر الخميسي، شكرًا أيها الهدهد، https://tinyurl.com/276wxmsd. ↩︎
  19. البقاعي برهان الدين، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ج14/150. ↩︎
  20. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ج1/173. ↩︎

د. لحرش عبد السلام

أستاذ باحث، وكاتب ومُدوِّن مغربي، دكتوراه في الدراسات الإسلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى