الأكراد: بحث عن الخلاص في مسالك الغرب الفاسدة
الأكراد… اسم ارتبط بالبطولة والفداء، بالعزم والتضحية، بعبقرية صلاح الدين الأيوبي في صد الصليبيين والباطنيين، وتسطير الانتصارات الماجدة، وفتح بيت المقدس، ارتبط بوفاء الأكراد لسلطان الخلافة الإسلامية على مر العصور منذ صدر الإسلام الأول، بعدما استجابوا لنداء الهداية وأقبلوا بكلهم يرددون الشهادتين، ويسابقون لخدمة الدين بالنفس والنفيس، وقد خرج من صلبهم العلماء والقادة الأجلاء، فكان الأكراد جزءًا لا يتجزأ من وحدة كاملة تجمع المسلمين -أيًا كانت أصولهم- تحت سقف أمة الإسلام العظيم.
تاريخ الإحباط الكردي
ويرجع تاريخ الإحباط الكردي إلى تاريخ انهيار الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وإلى تمزق جسد الأمة الإسلامية باختراق قوى الغرب لسلطان الخلافة، وتقسيم التركة بين الأوروبيين، حين سجل التاريخ قائمة من المعاهدات والاتفاقيات الماكرة؛ التي تصب أهدافها في سياسة تفتيت الغرب لأمة عاشت طيلة حياتها تحت ظل خلافة واحدة، جامعة، لا فرق فيها بين عربي وأعجمي، ولا أبيض وأسود. فأصبح العلماني مصطفى كمال أتاتورك -بفضل دعم الحلفاء الأوروبيين له- يحكم قبضته على الأكراد في تركيا الجديدة؛ التي تقلصت مساحتها من إمبراطورية مترامية الأطراف إلى حدود بلاد ما يعرف اليوم بتركيا، وكان هذا أقصى طموح لعلمانية أتاتورك -العميل، الوفي للغرب-.
تاريخ من المآسي
ويسجل التاريخ للأكراد العديد من المواجهات الدامية، والمآسي، والمجازر في تركيا منذ عهد كمال أتاتورك، وكذلك في إيران والعراق -أين سطرت مجازر الكيماوي ودفن الأكراد أحياء-، ولم يكن حال الأكراد أفضل في سوريا -أين عانوا لعقود طويلة من سياسة التهميش والاضطهاد التي مارسهما بحقهم النظام البعثي-.
كل هذا التاريخ الطويل من المعاناة مع أنظمة وظيفية أقامها الغرب؛ ليقمع شعوبها، ويخمد روح الأخوة والدين في أنفسهم، نال الأكراد ما نالهم من عواقب قمعها وحربها على الإسلام، كما نال بقية الشعوب المسلمة، وهم يدينون دينًا واحدًا، وينتمون لمذهب واحد؛ هو مذهب أهل السنة.
عزم لم يقطعه فشل
ويسجل التاريخ عزم الأكراد المستمر على إنشاء دولة مستقلة، وفي ظنهم أنها الخلاص لجميع مشاكلهم ومآسيهم، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل، وكان آخرها: الاستفتاء الذي شارك فيه نحو خمسة ملايين نسمة في إقليم كردستان شمال العراق بتاريخ 25 من سبتمبر 2017، والذي خرج بأغلبية ساحقة فاقت 92% من الأصوات المؤيدة للاستقلال عن الحكومة المركزية في العراق، وأجري في محافظات الإقليم الثلاث (أربيل، والسليمانية، ودهوك)، إضافةً إلى كركوك المتنازع عليها.
وتعزو حكومة الأكراد اللجوء لهذا الاستفتاء -رغم كونها تحكم إقليمًا، شبه مستقل، ويتمتع بصلاحيات الحكم الذاتي- إلى عدم احترام الحكومة المركزية في بغداد، والتي يهيمن عليها الشيعة، حقوق الحكم الذاتي الذي حصل عليه الإقليم بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003.
معارضة دولية شديدة
ولكن هذا الاستفتاء الذي نادى الأكراد بمشروعيته لاقى معارضة شديدة من حكومات بغداد وأنقرة وطهران المجاورة؛ خشية أن تنتقل عدوى الانفصال إلى سكانهم الأكراد. خاصة تركيا التي تقاتل “التمرد” الكردي، وتصفه بالإرهاب في جنوبها الشرقي منذ عام 1984. ولم تكن المناورات العسكرية التي أجرتها مع إيران إلا رسالة واضحة بأن عواقب الإصرار على الانفصال؛ ستؤدي لحرب طاحنة في المنطقة.
المعارضة للاستفتاء لم تقتصر على دول الجوار؛ التي تخشى على أمنها القومي، ولكن أيضًا شملت الولايات المتحدة؛ التي أظهرت ردود فعل متباينة بين رئيسها ترامب الذي أعلن أنه يقف على مسافة واحدة من بغداد وكردستان، في حين أعلن وزير خارجيته ريك تيلرسون أنه يساند حكومة بغداد ولا يرى مصلحة في الاستفتاء، أيضًا تعارض هذا الاستفتاء الأمم المتحدة خشية أن يشغل القوى عن حرب تنظيم الدولة الإسلامية، وعارضته دول أوروبية؛ خشية تأثيره على مشاريع انفصال غربية تستعر اليوم في كتالونيا وغيرها.
سياسة التخبط والتيه
مشهد المعارضين لهذا الاستفتاء كان يجب أن يرسخ لدى الأكراد أن فكرة الحل والخلاص بإنشاء دولة مستقلة، صغيرة، مرهون بقاؤها برضا جيرانها والمجتمع الدولي مشروع فاشل، ولن يقدم أكثر مما قدمته سايكس بيكو للمسلمين من هيمنة، واستعباد، ونهب للأموال والثروات لصالح الغرب، ثم كيف نسلك نفس المسالك التي يتيحها الغرب لنا بحجة خلاصنا، وقد ثبت فسادها؟
وبالنظر للعقلية التي يفكر بها الساسة الأكراد: فإنهم أبعد ما يكونون عن السبيل الأنجح لمعالجة جراحاتهم، والوصول إلى تحقيق المستقبل الأفضل -الذي ينشدونه-حين عزلوا أنفسهم -كشعب مسلم- عن محيطهم الإسلامي، وتشبثوا بدعاوى العلمانية والنعرات الجاهلية.
فتناسوا تاريخهم -المرتبط بتاريخ أمة الإسلام الماجد-، والذي لن يعود من جديد إلا إذا ساهموا هم أيضًا بنصيبهم من البذل والعطاء والتضحية في سبيل عودة الوحدة الإسلامية، ومشروع الخلافة الكبرى؛ التي تحفظ للمسلمين عزهم وقوتهم في ظل عالم لا يرحم الصغار، ولا ينجو فيه الأقزام؛ الذين تفرقوا شذر مذر، وغرتهم أماني الديمقراطية والعلمانية المهترئة.
فصب هذا التخبط والتيه كله في صالح القوى الكبرى، والنظام الدولي المهيمن، وكانت صورة نقية للاستعباد الجاهلي في عصرنا الحديث حين تُسَخر القوى الصغرى لخدمة قوى الشر الكبرى، وتدفع لها الجزية.
وتكفي ردود الحنق والغضب، ولغة التهديد والوعيد، وإجراءات الحزم والحصار التي رافقت إعلان الاستفتاء؛ ليتأكد للأكراد أنهم مجرد قوة معزولة صغيرة، تفترسها الدول المحيطة بها في أي لحظة -مهما حاولت أن تظهر من عزم وحزم أو شرعية قانونية في تناول مسألة الاستقلال، ومهما أغرتها ثقة زائدة بحلفائها الأمريكان تتبدل مع تبدل المصالح-.
البارازاني ضحية طموحه
لكن إصرار مسعود البارازني على المضي قدمًا في هذا الاستفتاء، وحصوله على تشجيع من بعض القوى على رأسها إسرائيل، ودول الخليج كلّفه -لاحقًا- ثمنًا باهظًا، وأضحت المناطق التي سيطرت عليها قوات البشمركة الكردية -خلال حربها على تنظيم الدولة الإسلامية- في قبضة الحشد الشعبي، بقيادة الرافضي -قاسم سليماني-، وسجلت فيها أبشع الانتهاكات الإنسانية؛ التي هي سمة مشهورة عند كتائب هذا الحشد، وانتهت المغامرة الجريئة بقصة فشل مريرة.
فعلى رأس هذه المناطق خسر البارازني كركوك؛ المدينة المتنازع عليها، والمشهورة باحتياطيات نفطية كبيرة، وتصدير النفط الخام من خلال خط أنابيب عبر البحر المتوسط يمر من إقليم كردستان العراق وتركيا. وتنتج حقول كركوك لوحدها حوالي 150 ألف برميل من نحو 650 ألف برميل نفط يوميًا، تنتج باسم إقليم كردستان. أي أن حقوق كركوك لوحدها تنتج 15% من إجمالي الإنتاج العراقي. ونحو 0.7% من إنتاج النفط العالمي، ولا يشك عاقل في أن النفط هو الثروة التي تدخل بكل تأكيد في سياسات الهيمنة، والمساومات الدولية.
هروب من المأزق
وبهذا فشل الاستفتاء الذي أعلن رغبة الشعب الكردي في الاستقلال من تحقيق أي من مطالبه، ووجه البارازاني أصابع الاتهام لجزء من الأكراد الذين وصفهم بـ”الخونة”؛ كونهم باعوا الحلم الكردي لحكومة بغداد، وأعلن بعدها تنحيه عن الرئاسة، وعدم رغبته في الاستمرار في جولة جديدة في الحكم بعد انتهاء مدة صلاحيته -ما ترجمه البعض بالفرصة الأخيرة لحفظ بعض ماء الوجه والخروج بدبلوماسية من الورطة الكبيرة التي وضع فيها الأكراد-.
وفي هذه الأثناء لجأت السلطات الكردية إلى توزيع صلاحيات البارزاني -بسبب عدم ظهور أي منافس كفء له- على كل من البرلمان، والحكومة، والمجلس القضائي؛ والتي يعتبر بعض المراقبين أنها خطوة فاشلة، ستؤدي إلى مزيد من تأزيم الوضع الداخلي الكردي، وربما انفجار البرلمان الكردي والكتل السياسية داخله، ما يهدد مصالح وحدة الأكراد تجاه قضاياهم المصيرية.
الانقسام الكردي
ويجدر الإشارة إلى أن أغلب الأحزاب المهيمنة على الساحة السياسية الكردية؛ هي أحزاب علمانية. ويظهر الانقسام الكردي مع كل أزمة يتعرض لها الأكراد، وقد تكون نتائجه مثخنة، كما حصل في العراق عندما خاض أبرز فصيلين كرديين “الاتحاد الوطني الكردستاني”، و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” حربًا أوقعت نحو ثلاثة آلاف قتيل بين 1994 و1998، ثم تصالحا في عام 2003.
ويبدو أن صفحة استفتاء الأكراد المثيرة للجدل قد طويت اليوم واتجهت إلى التهدئة، في حين بدأت مرحلة التراشقات بين الأكراد أنفسهم، فهذه أصوات تصنف قرار الانفصال بالنكسة الحقيقية، وأخرى بالنتيجة المأساوية والمدمرة بسبب سياسات البارزاني الخاطئة، وأخرى بالمناورة الفاشلة؛ لفشل الوعود الخارجية الكاذبة، وغيرها بالخيانة القاتلة من الداخل الكردي، وهلم جرا.
واتفق الأكراد على ألا يتفقوا! كل هذا بفضل الأمراض التي نخرت في المجتمع الكردي كغيره من مجتمعات إسلامية بتوظيف العلمانية والديمقراطية؛ لتزيد من عمق معاناة المسلمين وتشتتهم، وتفرقهم، وتشرذمهم، فكانت العصبية المنتنة، وكان الخلاف المحتوم.
قراءة في المشهد
وفي الواقع، بالنظر للمراحل التي مر بها قرار الاستفتاء، والضجة الإعلامية التي أثارها وجملة الردود المختلفة التي رافقته وأعقبته، بدا واضحًا ذلك التواطؤ الإقليمي الدولي ضد رغبة إقليم كردستان في الاستقلال، يوازيه تواطؤ عربي إسرائيلي، وشراكة أميركية جزئية؛ لدفعه لاتخاذ قرار الانفصال، وإن تعارض الاتجاهان إلا أن كلاهما يصب في مصلحة عزل الأكراد عن مفهوم أمة الإسلام الواحدة، وتغذية نعرات القومية والوطنية والعلمانية البائسة.
خشية أن تتوطد أحلام الأكراد مع أحلام المسلمين في العالم، وتتحد جهودهم في سبيل النهوض بأمتهم من جديد، والعمل على الحل الجذري لكل مشاكلهم بدل التخبط في اجتهادات فردية مبتورة الأصل، لا تزيد إلا من مزيد سيطرة وهيمنة غربية؛ هي منتهى المنى بالنسبة للساسة الأمريكيين، والأوروبيين، والروس، واليهود، وكل من دخل في دائرة العداء للإسلام.
ثم مع هذا كله انكشف الستار عن الدور الأمريكي المتناقض مع القضية الكردية؛ بحيث تدعم واشنطن بقوة قوات سوريا الديمقراطية (الكردية)، وتسمح لها بالسيطرة على مساحات شاسعة في الشمال السوري، وهي تعلن بلا تردد عن عزمها إنشاء دولة فدرالية كردية -رغم الرفض التركي الصارم إزاء هذا المشروع-، وبين رفضه لاستفتاء إقليم كردستان، وبالتالي الاستقلال الكردي، وإنشاء دولة كردية!
وإن حاولت التحليلات تبرير السياسات الأمريكية المتناقضة، فلا أوضح من استغلال أمريكا للأكراد؛ لتحقيق مشاريعها في بلاد الشام بتوظيف رغبتهم في الاستقلال، وإنشاء دولتهم الكردية أبشع استغلال؛ إذ أن جميع المؤشرات وخاصة تلك التي تطلقها ساحة الصراع في سوريا، تشير إلى أن الملف الكردي لن يُطوى بسهولة في وقت قريب، وأن المستقبل يخفي لنا الكثير من المفاجآت في ظل لعبة الأمم الكبرى.
ومحورين يتنازعان النفوذ (روسي وأمريكي)، وفي وقت أضحى مشروع تفتيت سوريا وتقسيمها على طريقة سايكس بيكو القديمة على الطاولة، بينما بقي اسم الأكراد مرتبطًا بقومية وطنية بحتة، ونسيت معه أمجاد البطل الكردي المسلم -صلاح الدين الأيوبي-، وفتح بيت المقدس، ووحدة الأمة الإسلامية؛ التي لو سعى لعودتها الأكراد، لكانت إنجازاتهم أفضل بكثير من تاريخ مثقل بالإحباطات، والفشل المتوالي.