حرب الخرطوم تهدد الذكرى المئتين لاختيارها عاصمة
هيمنت الخرطوم منذ اختيارها عاصمة للسودان في 1824م ثقافيًا وعسكريًا ومدنيًا وخدميًا على باقي القطر، خلا أربع عشرة عامًا انتقلت فيها العاصمة إلى أم درمان في عهد الدولة المهدية، وطيلة القرن السابق وبالرغم مما ممر بالسودان من تعقيدات سياسية وثورات شعبية وحروب قبلية اندلعت في أجزاءه، لم يسجل تاريخ السودان الحديث حربًا أعنف وأشد وأعظم تأثيرًا من التي يشهدها السوداني اليوم في قلب عاصمته، هذا المقال لا يناقش الأوضاع السياسية للجيش والدعم السريع وحقائق الصراع بينهما، لكن يركز على الجانب الإنساني لهذه الحرب وتأثيرها الحالي والقادم على العاصمة وسكانها.
اختيارها عاصمة للإنجليز
ذكر المبارك إبراهيم أن ميلاد المدينة كان في 1824م، وقال إن المصريين قد أبقوا على سنار -وهي عاصمة دولة الفونج التي أسقطها الحكم التركي المصري- لقربها من جبال شنقول حيث كانوا يأملون أن يجدوا بها كميات وافرة من الذهب.
ولما ذهبت آمالهم أدراج الرياح وأبت الجبال أن تعطي الذهب فقدت سنار مؤهلها، ولما كان جوها سيئًا، وتفشت الملاريا والدوسونتاريا في الجنود حتى بلغ عدد الضحايا في 16 أبريل من عام 1821م 15000 دفينا… وبقى في الجيش 500 جندي قد انصرفوا إلى الخرطوم واتخذوها مقرًا لرئاسة الحكومة، ومرت الخرطوم بمراحل متفرقة:
ففي المرحلة الأولى كانت أحراشًا وغابات، وفي المرحلة الثانية اتخذها أربابا العقائد -وهو زعيم ديني صوفي معروف- مركزًا لخلوته وبدأ بها العمار، وفي المرحلة الثالثة بنى بها عثمان جركس نقطة عسكرية، وفي المرحلة الرابعة أصبحت هذه النقطة العسكرية عاصمة لكل السودان[1]
جغرافيا العاصمة
في البدء سنفرق بين الخرطوم العاصمة والولاية، فعاصمة السودانيين تتكون من ثلاث عواصم متعانقة بأذرع النيل، وهي العاصمة الوحيدة في العالم المكونة من ثلاث مدن؛ نبدأ بمدينة أم درمان التي تقع على طول الضفة الغربية لكل من نهر النيل والنيل الأبيض قبالة مدينة الخرطوم وغرب مدينة الخرطوم بحري، وهي أكبر مدن العاصمة والسودان ، ورابع أكبر مدينة في إفريقيا، وتعد أم درمان عاصمة السودان الثقافية، أنشأها الإمام محمد أحمد المهدي عام 1886م بعد نجاح ثورته على الاستعمار التركي المصري وقتله للحاكم العام وقتها، وسيطرته على الحكم، وقد اختلفت الأقوال حول سبب اختيارها عاصمة للدولة الناشئة، أرجحها أن الإمام نفر من أسلوب حياة الأتراك والإنجليز في الخرطوم وأراد أن يختار لنفسه ولدولته الفتية عاصمة جديدة خالية من أدران الخرطوم التي أنشئها المحتل، وكثر فيها الأجانب من غير المسلمين فقطع جانب النيل الغربي مع أنصاره حاملين معهم الطوب ومواد البناء من الخرطوم التي دمروها أثناء الفتح، وشيدوا بها عاصمتهم الجديدة.
ثاني العواصم هي الخرطوم بحري العاصمة الصناعية؛ وهي تقع شمال مدينة الخرطوم، وقد نشأت بحري نتيجة تركز الصناعات وثكنات الجيش فيها، وهي آخر الإضافات لولاية الخرطوم حيث وطنَّ الجيش المصري عتادة فيها سنة 1899م، وأسموها بحري نسبة لكونها تقع شمال الخرطوم، وبحري في اللهجة المصرية تعني شمال، وهي جاذب سياحي للأجانب بسبب جوها.
أما العاصمة الإدارية فهي الخرطوم المدينة، ويقع فيها القصر الجمهوري وقيادة القوات المسلحة السودانية وكل السفارات والقنصليات، ومطار الخرطوم الدولي، وهي تقع عند نقطة التقاء النيل الأزرق والنيل الأبيض مشكلين بالتقاءهما نهر النيل، أطول نهر في العالم، وهي تقع جغرافيًا في قلب القارة، وهي أكثر مدينة يدور الصراع حولها حاليًا في هذه الحرب نظرًا للمواقع الإستراتيجية التي بها.
التنوع الأثني في العاصمة
يمكن القول أن الخرطوم الولاية هي سودان مصغر، بسبب كثرة التنوع العرقي والقبلي فيها، والسودان به حوالي 570 قبيلة تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة [2] وهذا التنوع كله موجود في العاصمة التى بها أكثر من ثمانية مليون مواطن، وتوجد أحياء معينة سميت باسم قبائل معينة مثل حي الجميعاب والفتيحاب وحي السلمانية وحي بري المحس وغيرهم الكثير.. نسبة لأولى القبائل التي سكنت بها لكنها ليست محصورة على تلك القبائل اليوم، وعلى عكس مناطق كثيرة في السودان فإن قلة قليلة من سكان العاصمة هم سكانها الأصليون، فغالبية سكان العاصمة هم من ولايات السودان الأخرى جاءت بهم ظروف المعيشة وطلب الرزق أو حتى الفرار من الحروب التي تنشأ في مناطق السودان الأخرى للاستقرار في العاصمة، قلل هذا التنوع والخلفية الأسرية لسكان العاصمة من حصول المشاكل والنعرات القبلية التي تحصل في بقية السودان، لذا فإن العنصرية التي اتخمت بها هذه الحرب التي افتعلتها مليشيات تتبع لأسر وقبائل معينة أمر غير مقبول بل وقد يكون صادمًا لأغلب مواطني العاصمة الذين يتجاورون في السكن وتتداخل أسرهم الآتية من جميع أرجاء السودان بسلام ومودة ومنذ عقود.
حرب الخرطوم
قبل الخوض في الحرب يجب أن نناقش الأوضاع السياسية في السودان قبل 2018م، قامت في ديسمبر 2018م ثورة في السودان ضد نظام (الإنقاذ) الذي حكم لمدة 30 عام برئاسة عمر البشير وشلة من المنتمين لجماعة الأخوان المسلمين حينها، وكان حكمًا ديكتاتوريًا عسكريًا على نمط الديكتاتوريات التي عرفتها دول الجوار، فقامت ضده ثورة تشبه ثورات الربيع العربي.
بدء نظام الحكم وسياسته بالتفكك والتحلل منذ انفصال الجنوب في 2011م بعدما قضى السودان منذ استقلاله في حروب ضد الحركات المسلحة في الجنوب والغرب سنواتٍ طويلة ومواردًا ضخمة، وارتكبت في تلك الحروب مجازر فظيعة في حق المواطنين من قبل الجيش والحركات المسلحة على حد سواء ولأسباب مختلفة، وتم بسببها وضع السودان ضمن قائمة الدولة الراعية للإرهاب، مما عطل وصعّب الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، فاضطر جزء كبير منهم للسفر خارج البلاد لتأمين مستقبل أسرهم، أضعفَ هذا كاهل الشعب وفرَّق كثيرًا من مكوناته الاجتماعية، وهجر عددًا كبيرًا من المواطنين من مناطق سكنهم إلى العاصمة لأجل خدمات الصحة والتعليم وحتى الخدمات الأساسية؛ مما زاد من حجم العاصمة من جهة وأسهم في تعميرها، إلا أن هذا الأمر عنى أيضًا وجود عدد من الظواهر السالبة من قبيل السكن العشوائي وقلة الانضابط الأمني وغيرها.
تداخلت هذه العوامل كلها وعلى رأسها صعوبة الأوضاع الاقتصادية فأنتجت ثورة ديسمبر، استمرت الثورة مدة 5 أشهر قبل السقوط في 6 أبريل 2019م، حصل بعد السقوط ببضعة أسابيع فض الاعتصام الذي كان القشة الذي قسمت ظهر النظام، وقد كان اعتصام القيادة العامة للجيش في الخرطوم اعتصامًا مهيبًا، احتمت فيه الجماهير المتظاهرة بقيادة الجيش القومي لينصرها ويحقق عدالتها، إلا أن الاعتصام الذي اجتمعت فيها ألوف مؤلفة فُضَّ بطريقة عنيفة ووحشية من قبل قوات الدعم السريع، وقتل واعتقل واغتصب عدد كبير جدًا من الثوار وذلك في نهار رمضان، ولم يتدخل الجيش لإنقاذ المواطنين الذين كانوا يقتلون أمام بوابته، تغيرت بعد هذه الواقعة علاقة الجيش بالثوار وازدادت توترًا.
الحرب
سمع سكان العاصمة بمدنها الثلاث في صبيحة سبت 15 أبريل 2023 الموافق ال25 من رمضان؛ دوي المدافع وأزيز الرشاشات، صدرت هذه الأصوات من الجيش والدعم السريع تجاه بعضهما، ونظرًا لوجود هذه القوى المتصارعة داخل العاصمة وفي قلب المدن، راح ضحيتها عدد من السكان منذ ساعاتها الأولى، وبعد مضي أسبوع أو أكثر بقليل على بدء الحرب، التي اتضح في أوقات لاحقة أن الدعم السريع خطط لها لتكون انقلابًا على قادة الجيش[3]
بدأ سكان العاصمة يعايشون انتهاكات الدعم السريع تجاه المواطنين، إما بدخول بيوتهم عنوة ونهبها واغتصاب حرائرها بل وتصوير هذه الأفعال كلها ونشرها على مواقع التواصل ليبثوا الرعب في قلوب الناس ومن ثم الجيش، نشط إثر ذلك هاشتاق يبين حجم الدمار الاقتصادي والنفسي الذي حل بالسكان نتيجة هذه الاعتداءات وهو (#الدعم_السريع_ يستبيح_ بيوتنا)، هذا وقد اعتدى الدعم على الخدمات الأساسية من محطات مياه وكهرباء وبنزين، وقطع الطرق وأرهب السكان، واستولى على المستشفيات، وحرر السجناء ليعيثوا فسادًا في شوارع العاصمة، كل هذا دفع بالسكان لمغادرة العاصمة مكرهين وقد نزح في هذه الحرب %73 من سكان العاصمة، ولأن أغلبية من ترك بيته تركه على عجل خرج بعضنا بلا شيء سوى الملابس التي كانت على ظهره، حيث نزح السكان تجاه دول الجوار وبقية ولايات السودان المستقرة منها، فالدعم السريع قد مارس هذه البشاعة نفسها في ولايات السودان الغربية مثل دارفور وكردفان، وقد بلغ السوء في هذه الولايات أن توفي في مدينة الجنينة كل مرضى الكلى بسبب الحصار المفروض على المدينة من قبل قوات الدعم السريع.
وهذا العنف والوحشية ليست غريبة على (جنجويد) الدعم السريع، ذلك أن عقيدة هذه القوات القتالية ومنذ إنشائها تتمحور حول الولاء المطلق للقبيلة والعمل والقتال من أجل النهب، حتى أن كلمة جنجويد آتية من الفعل (جنجد) وتعني النهب والسرقة.
أنشأت قوات الدعم السريع من قبل النظام البائد وهي تتكون من مليشيا الجنجويد، واستخدمتها الحكومة السودانية كحرس للحدود، ولمحاربة تفلتات الحركات المسلحة في دارفور وكردفان، وكانت تتبع في قيادتها بصورة غير مباشرة للقوات المسلحة السودانية، وهي تأتمر بأمر قائدها العام محمد حمدان دقلو المعروف بـ (حميدتي) الذي صار بعد سقوط نظام الإنقاذ نائب رئيس المجلس العسكري في السودان، وكانت قوات الدعم السريع حتى أبريل 2023م تتمتع بالشرعية وفق القانون السوداني، إلا أنها أصبحت قوات متمردة منذ بدء الحرب.
هذه الحرب الحالية هي حرب تحديد مصير للسودان ولدول الجوار، ذلك لما يمتلكه السودان من موارد ضخمة وتأثير اقتصادي بهذه الموارد على الاقتصاد الإفريقي، وهي إما أن تنتهي بانتصار المظلومين على الظلم الواقع عليهم، أو بانتصار مليشيا قبلية تأمل أن تجعل السودان مملكة متوارثة لأسرة واحدة، وهي بذلك حرب ونزاع على الهوية السودانية ومقوماتها فدرج كثير من النشطاء والفاعلين السياسيين على تسميتها (حرب الكرامة)، الثابت الوحيد المتأكد منه في هذه الحرب أنه وبعد انتهائها لن ترجع الخرطوم ذاتها التي كانت عليها قبل 15 أبريل 2023، لا معماريًا ولا سكانيًا، نحن الآن في ارتقاب خرطوم جديدة في ذكراها ال200 التي ستحل علينا بإذن الله بعد بضعة أشهر.
الهوامش:
[1] محمدأبوسليم، تاريخ الخرطوم، ص18-19 [2] Independent alarabia. [3] تسجيل صوتي للصحفي السياسي محمد ميرغني