رحلة “يوهان شيلتبرغر” إلى بلاد الإسلام وأهميتها
تحرير: عبد المنعم أديب
أنا “يوهانز شيلتبرغر”، بارحت موطني الكائن بالقرب من مدينة ميونخ في بافاريا، في الوقت الذي توجه فيه ملك هنغاريا (زيغموند) إلى ديار المسلمين. كان ذلك في عام 1394 من ميلاد المسيح، برفقة لورد يدعى “لاينهارت ريخار تينغر”، ثم قفلت عائدًا من جديد من أرض المسلمين، في عام 1427 من ميلاد المسيح. وكل ما شهدته في أرض المسلمين من حروب -وهي بدورها رائعة-، والمدن والبحار المهمة التي رأيتها وزرتها، تجد وصفها فيما يأتي. قد لا يكون وصفًا كاملًا، إذ كنت أسيرًا لا حرًّا؛ إلا أنني كنت قادرًا إلى حد ما على الفهم والملاحظة، لذا دوَّنت أسماء البلاد والمدن كما تدعى في بلدانهم، وسأعرف وأبين فيما يأتي العديد من المغامرات الممتعة والغريبة، التي تستحق الاستماع إليها…
هذه كانت مقدمة تلك الرحلة الماتعة للرحَّالة “يوهان شيلتبرغر” التي سوف نبحر معها في مقالنا هذا. يأتي الكتاب من الحجم الوسط في مجلد، عدد أوراقه 413. أول ما يطالع الباحث فهرس الكتاب، ثم مقدمة المحقق وعمله في الكتاب، ثم نماذج لبعض صور مخطوطات الكتاب وبعض صور طباعات الكتاب القديمة، ثم تأتي (بيبليوغرافيا) الكتاب ومخطوطاته، ووصفها وأماكن وجودها ثم مقدمة أخرى.
ثم تأتي أول الرحلة، إلى أن ينتهي من رحلته يكون معنا في آخر الكتاب التعليق على الهوامش التي أجَّلها المحقق إلى هذا الموضع، وهي من الكثرة بمكان وهي ذات أهمية كبرى؛ إذ فيها استدراكات من المحقق وتنبيهات توضيحات على مواضيع في الرحلة.
فائدة كتب الرحلات
وقبل أن نبدأ رحلتنا لا بد أن نطلع على بعض فوائد كتب الرحلة وخدمتها للتاريخ؛ فالرحلة هي قراءة في صفحة الدنيا ووسيلة من وسائل المعرفة في زمن كانت الجياد فوق الأرض الصلبة، والجمال عبر الصحراء وفوق رمالها، والسفن الشراعية فوق مياه الأنهار، أو بين أمواج البحار؛ أسرع وسائل المواصلات والاتصالات.
لقد كانت الرحلة -ولا تزال- وسيلة ناجعة يتوسل بها الإنسان إلى العلم والمعرفة إذا ما كان يبحث عنها. وعلى الرغم من أنه كانت -ولا تزال- هناك جوانب مشينة ومظلمة للرحلة -مثل التجسس من أجل الغدر والعدوان وسرقة مقدرات وثروات الأمم-؛ إلا أن هناك إشراقات إيجابية للرحلة قدمت خدمات عظيمة للإنسانية.
الرحلة هي الأب الشرعي للجغرافيا، وهي عين الجغرافيا المبصرة. فلولا الرحلة لظلت معارف الإنسان عن العالم الذي يعيش في رحابه رهن الأساطير والخيالات والأوهام. الرحلة لها إسهاماتها المهمة في كافة أنواع العلوم.
الرحلة حالة يتعرف بها الإنسان على الآخر فهي نشاط إنساني ثقافي يختلف عن أي نشاط آخر يمارسه الإنسان، الرحلة قنطرة الهواة بين الشرق والغرب؛ ومنها يصير الطريق البري مألوفًا والبحري مطروقًا. يقول المسعودي عن فوائد الرحلة: “ليس من لزم جهة وطنه، وقنع بما نما إليه من الأخبار من إقليمه؛ كمَن قسم عمره على تطلع الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه”.
الرحلة تعليم للصغار، وخبرة للكبار. الرحلة مرآة للأعاجيب وقسط من التجاريب، ولها دوافع وأغراض. وقد اختلفت دوافعها وتنوعت أغراضها بقدر ما اختلفت وتنوعت أهداف الإنسان ومقاصده من وراء الرحلة؛ فقد عرف الإنسان قديمًا الرحلة الاختيارية، والرحلة الإجبارية تحت وطأة الظروف المعاكسة، كما عرف الرحلة الفردية، والرحلة الجماعية والتي اتخذت شكل الهجرة. رحلة اليوم ما هي إلا حلقة من حلقات سلسلة طويلة منظومة بالرحلات التي توافدت على الشرق؛ فقد ألَّف كثيرون كتبًا تروي رحلاتهم، ورحلتنا هذه ما هي إلا لؤلؤة معقودة في ذلك العقد المنظوم.
ترجمة الرحَّالة يوهان شيلتبرغر
ولد رحَّالتنا “يوهان شيلتبرغر” في عام 1380 لعائلة بافارية نبيلة، ولم يتمكن الباحثون من تحديد موطنها، ونسبها بعضهم إلى ميونخ. وقد عانى ربقة الأسر والعبودية طويلًا؛ حيث أسره المسلمون في أعقاب معركة (نيقوبوليس) الفاصلة. ثم عاد رحَّالتنا من فترة أسره الطويلة في المشرق، وذلك في حدود عام 1427. وترك لنا حول فترة أسره كتابًا فريدًا اعتُبر من أهم كتب أدب الرحلة الألماني. أما تاريخ وفاته فبقي مجهولًا لفترة طويلة رغم اشتهار كتابه، والذي تعارف عليه العلماء حاليًا أنه كان بحدود عام 1440.
تعريف بالرحلة وأهميتها
رحلة اليوم نجد فيها قصة قضاء رحَّالتنا في أسر العثمانيين، ثم المغول لفترة زادت على 32 سنة. طاف فيها بلدانًا عديدة في أوربا وآسيا وأفريقيا (مصر والشام والعراق والجزيرة) فيما بين سنوات 1394/ 1472، تلك الفترة العصيبة التي كان فيها اجتياح (تيمورلنك) لبلاد العرب، الاجتياح الثاني للمغول. وعاصر أيضًا المراحل الأولى من تأسيس دولة المماليك البرجية في مصر.
“… ووقع آخرون من قادة عظماء وفرسان وجنود مشاة في الأسر، وأنا أيضًا وقعت في الأسر … وأخذتُ إلى قصر الملك التركي، وأجبرت هناك لمدة ست سنوات على العَدوعلى رجليَّ مع الآخرين حيثما ذهب؛ إذ جرت العادة بأن يقتني الأمراء أناسًا يركضون أمامهم. وبعد ست سنوات نلت أحقية السماح لي بالركوب، فركبت معه ستة أعوام. وبذلك ظللت معه اثني عشر عامًا. وكان من الجدير ملاحظة ما يفعله الملك التركي المذكور (بيازيد) خلال الاثني عشر عامًا؛ الأمر الذي دوَّنته فيما يلي خطوة خطوة”.
ونجده عند ذكر تيمورلنك يقول: “…وهكذا أصبحت أسير تيمورلنك وقام باصطحابي إلى بلده. وبعد هذا ركبت وراءه…”. ونجده عند ذكر المماليك وسلطانهم: يلقب السلطان المملوكي بـ”الملك السلطان” إشارةً إلى كونه يجمع بين الخلافة المتمثلة في الخليفة العباسي الذي ليس له منها إلا الاسم فقط ويجمع معها السلطنة. نجده أيضًا يعدد أسماء سلاطين المماليك. ويقول: ينبغي أن تعلم وتدرك عدد الملوك السلاطين خلال الفترة التي كنت هناك … كان السلطان الأول يدعى برقوق…”.
تأتي هذه الرحلة لتصف حال العالم العثماني والمغولي. وذلك لكونه وقع في الأسر لمدة طويلة؛ لذا تحتل هذه الرحلة أهمية قصوى لما فيها من تفاصيل لم تأتِ في المصادر الأخرى. فعلى الرغم من وجود القليل من الأخطاء التاريخية والجغرافية؛ إلا أنه يبقى هذا الكتاب أثرًا نفيسًا من تاريخ جغرافية القرون الوسطى. نجد يذكر البلدان التي زارها “… وبعد أن وصفت المعارك والحروب التي دارت خلال الوقت الذي كنت فيه مع المسلمين؛ سأذكر أيضًا أسماء البلدان التي كنت بها منذ أن غادرت بافاريا”. وكذلك نجد البلدان التي زارها، والتي تقع بين الدانوب والبحر. ويمدنا بفائدة في هذا الفصل؛ أنه يوجد ثلاث مدن جميعها تدعى بلغاريا، ثم يبدأ بوصفها وكيفية العبور إليها. ونجد وصفًا لقلاع كثيرة مرَّ عليها أو سمع بها.
أهمية هذه الرحلة
تأتي أهمية هذه الرحلة من كون صاحبها شاهد عيان يمتاز بالعفوية والصدق؛ فنجده يصور ما سمع ورأى وشاهد، أو ما وصل إليه مشافهةً، تصويرًا حيًّا شائقًا. فهو ليس كغيره من الكثيرين الذين جابوا مشرقنا بغرض الرحلة؛ فهو لم يختر مصيره بيده، بل عانى الأسر والعبودية طويلًا. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يتحفنا بنص مرجعي ثمين لا غنى عنه لمن يبحث في أحداث تلك الفترة، ورسوم دولها وأحداث ملوكها وقادتها.
نجده كثيرًا يقول: وما قمت بوصفه حدث خلال الوقت الذي كنت فيه مع بايزيد… / وكل ما دُون سابقًا حصل خلال السنوات الست التي قضيتها مع تيمورلنك كما كنت شاهدًا عليها … وكنت حاضرًا حينها وشهدت هذا … ولقد زرت جميع البلاد المذكورة أعلاه وخبرت صفاتها.
هذه الرحلة وروايتها تكمل لنا ما بين أيدينا من نصوص لمؤرخين مسلمين تناولوا أحداث هذه الفترة. على سبيل المثال لا الحصر: ابن تغري بردي المؤرخ الذي عاصر دخول العثمانيين مصر، ابن قاضي شهبة، ابن عربشاه، وغيرهم كثير ممن استفاض برواية الغازي “تيمور لينك”.
فنجد عنده ذكرًا لأسباب وفاة تيمورلنك، ويعلل ذلك بثلاث أسباب. يقول: يتوجب ملاحظة، أن هناك ثلاثة أسباب أدّت إلى انهيار تيمورلنك، وهي التي أصابته بالمرض، ومن جرائه الموت. السبب الأول الحزن على تابعه الذي فر بالجزية -وكان ذلك عندما عاد تيمورلنك من الهند فأرسل أحد تابعيه يدعى (شيباك) لمدينة سلطانية ليحضر له الجزية-، والسبب الآخر الذي لوحظ؛ هو أن لتيمورلنك ثلاث زوجات، والأصغر منهن سنًا، والتي كان يحبها كثيرًا، كانت على علاقة بأحد تابعيه عندما كان بعيدًا … ولما عاد أخبرته إحدى زوجاته بهذا … فقتلها وحاول أن يقبض على الخائن، ولكنه هرب”.
اهتمامه بالجوانب الثقافية والاجتماعية
ما رواه صاحبنا يعد مصدرًا تاريخيًّا أصيلًا؛ فهو لم يقتصر على ذكر الأحداث السياسية والحروب فقط، بل تعدّى الأمر إلى رصد الأحوال والعوائد الاجتماعية للشعوب التي عاش في كنفها مدة طويلة، وذكر الطبائع الثقافية والدينية. وهذا ما يسمى “الأنثروبولوجيا الثقافية للعصور الوسطى”. نجده عند كلامه ووصفه للمسلمين يقول: “وعندما يقرب أحد منهم زوجته، لا يجوز له دخول المسجد حتى يغسل جسده كاملًا. وهذا يماثل الاعتقاد نفسه عندنا نحن المسيحيين بالاعتراف بخطايانا … وعندما يريدون دخول المسجد يخلعون أحذيتهم ويدخلون حفاة ولا يجوز لهم إدخال أية أدوات أو أسلحة جارحة ولا يسمحون بوجود أية امرأة في المسجد طالما هم بالداخل … ومن الجدير ذكره أنه لا يترك باب المسجد مفتوحًا … وليس لديهم رسم أو لوحة في الداخل، فقط كتاباتهم أو رسوم نباتاتهم، ولا يسمحون بدخول المسيحيين”.
ونجده عند كلامه على التتار يقول: “…ومن عادات البلد التي يجدر ذكرها … لا يأكلون الخبز ولا يشربون النبيذ، لكن يشربون حليب الأفراس والنُّوق، كما يأكلون لحم الجمال والخيول … كما شهدت ذهابهم في رحلات طويلة، فيأخذون قطعة من اللحم، يقطعونها لشرائح ويضعونها تحت السرج ويركبونه، ويأكلونه عندما يشعرون بالجوع، لكنهم يملِّحونها أولًا، ويظنون أنها لن تفسد لأنها تصبح جافة من حرارة الحصان وتصبح لينة تحت السّرج من جرّاء الركوب بعد أن زالت منها الرطوبة … ومن المعتاد عندهم عندما ينهض الملك في الصباح أن يجلبوا له بعض حليب الفرس في كأس ذهبي فيشربه دفعة واحدة”.
مما يميز رحلتنا التي نبحر في طيات سطورها كونه تناول العديد من الأحداث والقصص والأخبار الأسطورية التي سمع عنها، ولم يشهدها بنفسه؛ فلم يبخل بشيء مما جرى له أو سمعه بل سرد ذلك بكل أمانة.
على سبيل المثال نجد تحت عنوان الثعابين والأفاعي ما نصه: “حدثت معجزة عظيمة في مكان قرب مدينة صامسون خلال الوقت الذي كنت فيه مع بايزيد، حيث أحاط بالمدينة الكثير من الأفاعي والثعابين على مسافة ميل كامل حول المدينة … وجاء قسم آخر من الأفاعي من الغابات وآخر من البحر. وبقيت الأفاعي لمدة أحد عشر يومًا يصارع بعضها بعضًا، ولم يجرؤ أحد على مغادرة المدينة خوفًا من الأفاعي -على الرغم من أنها لم تؤذِ أحدًا … وفي اليوم العاشر تصارعت الأفاعي والثعابين من الصباح إلى الغروب. وعندما رأى الحاكم والشعب في المدينة ما حدث انطلق مع قليل من الرجل لينظر ما حدث، فوجد أن أفاعي البحر قد أخضعت أفاعي الغابات. وفي اليوم التالي خرج لينظر فلم يجد إلا الأفاعي الميتة فأمر بجمعها فبلغت ثمانية آلاف، ثم أمر بحفر حفرة وأن تلقى فيها وتطمر بالتراب”.
ليس ثمة دليل على أنه كان قادرًا على القراءة، أو أنه استفاد من كتابات الآخرين؛ إلا أمرًا واحدًا استعان فيه بمرجعية أو كتابات الآخرين. وذلك عندما تكلم على أبعاد جدارن بابل، فنجد أنه مطابق تمامًا لما ذكره “هيردوتس” وإلا كيف له أن يعرف ذلك أو كونه سمع ذلك من أهل البلد عند سألهم. حيث يقول: “ويحيط ببابل العظيمة سور بعرض خمسة وعشرين فرسخًا، والسور بارتفاع مئتي ذراع وبسماكة خمسين ذراعًا”.
كون الرحلة كتبت بطريقة الإملاء، وهي طريقة جيدة لاسترجاع الذاكرة، عند الأخذ في الاعتبار أن الحوادث امتدت طوال ثلاثين عامًا. ونستطيع أن نقرر هنا أن (شيلتبرغر) استطاع بحكمة أن يميز بين ما سمعه وما رآه بنفسه؛ لذا أطلق العنان لروايته بكل ما تحمله من روعة وسخف ومن دون أن تخلو من قدر -ولو بسيط- من الدعابة أو النقد.
زيارته لجزيرة العرب
مما يميز الرحلة أن هناك بعض الشواهد تدل على كون رحَّالتنا قد زار جزيرة العرب، وجرى ذكر وصفه لقبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبيان موضوعه وزخارفه بوضوح وبدقة، وكونه في مكان يدعى المدينة، على عكس ما كان شائعًا في أوربا في القرون الوسطى أنه في مكة، فإذا ثبت بالفعل زيارته لجزيرة العرب عبر فلسطين؛ فإنه سيكون سابقًا للرحَّالة “فارتيما” 1503، وسيكون أول أوربي عرف عنه زيارته لديار الإسلام المكرمة. “وفي هذا الوقت (وقت الحج) يذهب المسلمون إلى قبر محمد، إلى المسجد الذي بناه إبراهيم والذي يقع في مبتدأ المدينة. وكان قبر محمد فيها وتدعى المدينة”.
مآخذ على رحلة يوهان شيلتبرغر
ويؤخذ عليه أنه ارتكز في حمكه على بعض الأمور والمعطيات الخاصة بالإسلام والمسلمين على أقاويل، وعلى غير مشاهدات منه. مع أنه خصص أحد عشر فصلًا عن الإسلام والمسلمين في مذكراته، لذا تجد خلطًا كبيرًا في روايته وكلامه عن الإسلام والمسلمين؛ فكلامه ومعرفته عن الإسلام والمسلمين كلام مشوَّه فاقد للحقيقة في أغلبه وليس كله.
وتغلب على الأسماء العربية التي يذكرها اللكنة التركية بوضوح، وربما كان سبب ذلك احتكاكه المباشر بالأتراك في فترة أسره. وكذلك تهجئة الأسماء والأماكن الجغرافية غير دقيق؛ مما يبين كون الكاتب غير دقيق (ليس الرحَّالة هو الكاتب؛ لأن ثمة أدلة توضح كونه أملى رحلته عند عودته إلى بلاده). لكن مع كون الكاتب غير دقيق فإن هذه الأمور تشير إلى عدم قدرة “شيلتبرغر” على قراءة ما كتب وتصحيح الأخطاء التي ارتكبت؛ مما يدل أيضًا على أمِّيته أو أن تعليمه قليل جدًا. وكذلك يؤخذ عليه عدم وجود تدوين زمني محفوظ، بدلالة الأخطاء في عملية حساب الزمن. وربما يرجع ذلك لكونه كان يملى أحداث رحلته من ذاكرته.
نهاية رحلة يوهان شيلتبرغر
يقول: “وبفضل الله عدت إلى موطني والعالم المسيحي، الشكر للرّب المجيد، ولكل أولئك الذين ساعدوني؛ إذ كدت أفقد الأمل بالهرب من أبناء تلك البلاد. ولقد أجبرت على البقاء بينهم اثنين وثلاثين عامًا، من دون أية رفقة مباركة من أبناء وطني. فأبصر الرب القدير رغبتي الغامرة ولهفتي إليه ولبركته السماوية، فحفظني من مخاطر هلاك الجسد والروح”. فكما بدأ رحَّالتنا حكايته وسرد لنا الرحلة وصل بنا إلى نهاية المطاف؛ بهذه الكلمات التي تفيض فرحًا وسعادة لعودته إلى موطنه.
مترجم رحلة يوهان شيلتبرغر
د/أحمد آيبش، باحث متخصص في مجالي التاريخ والفيلولوجيا والطبوغرافيا التاريخية لجزيرة العرب. درس التاريخ في الجامعة الأمريكية بيروت، ثم تابع دراساته العليا في تركيا وألمانيا. صدرت له عدة مؤلفات في تاريخ الشام وآثارها وخططها القديمة. قام منذ عام 2008 بتحرير سلسلة تابعة لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة تعنى بترجمة نصوص رحلات الغربيين في العالم العربي وخاصة جزيرة العرب تحت عنوان رواد الشرق.
كيف استفاد المؤرخون المعاصرون من هذه الرحلة
على الرغم من أن ما رواه مؤلفنا في رحلته هذه يعد مصدرًا تاريخيًّا أصيلًا، لم يقتصر فيه على ذكر مجريات الأحداث السياسية والحروب التي عاصرها وشهدها، بل تجاوزها إلى رصد العوائد الاجتماعية للشعوب التي عاش في كنفها، فضلًا عن طبائعها الدينية والثقافية. وإن كان أصاب في بعض أشياء وأخطأ في أخر -خاصةً روايته عن الإسلام والمسلمين-؛ إلا أنه يبقى مصدرًا مهمًّا مفيدًا في وصف أحوال هذا العصر.
على الرغم من كل ذلك، فمن المؤسف أن نرى خلو المكتبة العربية من أي ذكر لهذا الرحَّالة ومذكراته؛ إلا بعض ما كان من الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، حيث نجد له بحثين حول هذه الرحلة. وقد أجاد فيهما وأبان عن مكنون هذه الرحلة.
أما البحث الأول له فهو بعنوان “العثمانيون والمغول في مذكرات الأسير يوهان شيلتبرغر”. صدر من مجلة المؤرخ العربي العدد 18 سنة 2010، اهتم في هذا البحث بالتركيز على الجوانب السياسية والعسكرية والاجتماعية والأنثروبولوجية التي تناولها في المجتمعين العثماني والمغولي إبان فترة أسره. وأما البحث الثاني فحول صورة الإسلام والمسلمين في كتابات الأسرى عند العثمانيين “أروبا والمسلمون، صورة الآخر: رؤية أسيرين من القرن الخامس عشر”. صدر في حولية التاريخ الإسلامي والوسيط العدد 1 سنة 2011. واهتم في هذا البحث بتلمس صورة أخرى مغايرة عن الإسلام والمسلمين في كتابات تعبر عن مشاعر الأوربيين العاديين؛ -لأن صورة الآخر لدى أفراد الطبقة العليا من المجتمع الأوربي سواء رجال السلطة أو رجال الدين وأصحاب الكنيسة تختلف عن رؤية من نحن بصدد الإشارة إليهم-، وبشكل خاص أفراد الطبقة غير مثقفة من الجنود والأسرى، وما يحملونه من رؤى منبثقة من ثقافتهم المحدودة التي أنتجت تصورات متباينة عن الآخر المسلم.
مقال رصين ومحكم وعرض شائق كعادة محمد عثمان الباحث المجتهد .. كل كتاباته منذ بداياته الصحفية يتبدى للقارئ بوضوح ذلك الشوق العارم للوصول إلى إثارة الوعي المعرفي بتاريخ هذا البلد العظيم والوصول إلى حياة أكثر عدلا وإنسانية ووعيًا . تحياتي لك ومحبتي لما تكتب .
موضوع هادف.