آن الأوان لتحطيم آصار علماء السوء

في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنَّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: “نعم”. فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: “نعم وفيه دخن”. قلت: وما دخنه؟ قال: “قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر”. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: “نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ” ، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا ، قال: “نعم ، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”، قلت يا رسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”) .

فسبحان الذي أجرى علما من الغيب على لسان نبيّه وصفوة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، ليشخص لنا حالنا بدقة لا متناهية فلا نقول: كنّا جاهلين!

دور علماء السوء على مدار التاريخ

وكيف نجهل و نحن أينما قلبنا أبصارنا في صفحات التاريخ ندرك قاعدة ثابتة تتكرر مع الحكام، ملخصها أن أي سلطة قامت على رؤوس المسلمين فظلمت وتجبرت لم تكن لتحقق مرادها لولا مساندة علماء “السوء” وفي المقابل أي سلطة عدلت وأحسنت لم تكن لتتألق في سعيها بدون معيّة علماء “الحق”. ولو ركزنا الاهتمام على تاريخ خلفاء بني أمية والعباسيين، لعرفنا كيف كانت البداية باستمالة الفقهاء والعلماء ليدعموا سلطانهم عند العامة، واستمر الحال معهم في تصاعد تدريجي ليتفاقم ويتحول لأبشع صوره، حين وقعت فتنة خلق القرآن في عصر المأمون والمعتصم، وحينها ظهر ابن أبي دؤاد–عالم البلاط في ذلك العصر والمفتي العام لخليفة المسلمين– وهو يحرض المعتصم لقتل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، قائلا له : اقتله يا إمام ودمه في عنقي!

كيف يجب أن تكون مواقف العلماء

ولكن مهما اكفهرت صورة تلك الحقبة من الزمن واسودت، إلا أنها كانت متميّزة بنور ماجد شق الظلام الدامس وأشرق بالانتصارات! كونها شهدت–على الضفة المقابلة- بطولات خالدة كانت تزخر بها أمة الإسلام ، سطرها علماء حق، قاماتهم في العلم والإباء لا تُبارى، تصدوا لهؤلاء المبتدعة المتذللين للسلاطين ولم تأخذهم في دين الله لومة لائم. كالإمام أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي رحمهم الله.

الإمام أحمد بن حنبل وخلق القرآن

بل وثق لنا التاريخ مواقف الثبات لهؤلاء الجبال بصورة تعجز الأقلام عن وصف روعتها، ونسجل منها هنا موقف أحمد بن حنبل في رفض عذر العلماء الذين أجابوا الحاكم للقول بخلق القرآن تحت وطأة التهديد وقد ترخصوا في الأمر بقول الله تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) وبحديث عمار رضي الله عنه، فكان رد الإمام أحمد المفحم: ( إن عمارا ضربوه وأنتم قيل لكم سنضربكم)!
واستمر كذلك إمامنا أحمد لا يداهن في دين الله أحدا وإن كان علما عالما مثله، كما كان موقفه مع الإمام المحدث يحيى بن معين رحمه الله، الذي تنازل للحاكم مترخصا بنفس ذاك الدليل، فقال الإمام أحمد بحكمة المبصر: (يقول لي أكره ولم يضرب سوطا واحدا!). ثم بعد إقامة الحجة عليه لم يكلم أحمد يحيى بقية حياته، ولم يرد عليه السلام، لما سلم عليه حين كان أحمد طريح فراش الموت رحمه الله !

ولا شك أن أخوف ما يخاف العالم على نفسه هو مجالس السلاطين والحكام، لما جاء فيها من تحذير نبوي واضح وصريح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ومن أتى أبواب السلاطين افتتن) ، وقال: (وما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا). وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص. وهذا ما يفسر حزم إمام السنة أحمد بن حنبل مع العلماء أكثر من غيرهم في موقف الفتنة!

حال علماء السلاطين في العصر الحديث

ولنطوي هذه الصفحات التي مضت، وكل أمة رهينة بما كسبت، ونطلع على حالنا اليوم، بحكام غير شرعيين أقامهم الغرب بقياسات تناسب مصالحه تماما في المنطقة .. أذاقونا ألوان الغصاصة والقهر ولا زالوا! وطوقونا بالآصار والأغلال التي من بينها بلا شك، علماء السوء ليستمروا في ظلمهم وغيّهم بسياسة “الاستغفال”.

الجامية

ولعل بداية بروز صيت هؤلاء “العلماء” في عصرنا الحديث كان منذ إنشاء التيار المدخلي أو الجامي في السعودية–نسبة لربيع المدخلي أو محمد أمان الله الجامي-إبان حرب الخليج الثانية 1991م حين صدرت الفتاوى “المتأنقة” من هذا التيار بجواز دخول القوات الأجنبية بلاد الحرمين، ولم يقف رموز هذا التيار ومفتيوه عند هذا الحد بل انتشروا في عدة أمصار مسلمة كالسرطان الخبيث ليسجلوا أقبح الفتاوى المخالفة لنصوص الشريعة، الهدف الأول والأخير منها هو شرعنة أحكام السلطان وتمرير قراراته بلباس ديني وتجريم من يتظلم أو يستنكر أيضا بلباس ديني! ذلك أن السلطة الدينية كانت ولا زالت أقوى مروّض للشعوب وأنفذ قوة لريادتها.

ولقد رسخ هذا التيار قواعد ما أنزل الله بها من سلطان وعوّدوا الشعوب المسلمة عليها كي تبقى خانعة للحكم الجبري الذي نعيش حقبته – أو زوال حقبته إن كنا لها أهلا -. منها أنه لا يجوز معارضة الحاكم مطلقا ولا الخروج عنه ولا نصحه علنا. وكل من تجرأ على ذلك صنف من الخوارج ونبذ وحوصر .

اقرأ أيضًا: توظيف الأنظمة الحاكمة للسلفية المدخلية لضرب التيار الإسلام

اختلفت مواطنهم واجتمعوا على شرعنة أفعال الحكام

ومن هؤلاء الأئمة المبتدعة في دين الله أفتى بعض شيوخ الأزهر في مصر بقتل سيد قطب وإخوانه بدم بارد–رحمهم الله-. وعلى نهجهم وقلة حيائهم قال الشيخ السعودي عبد المحسن العبيكان: أن الأمريكان لا يضربون إلا من يعتدي عليهم في العراق! وأن الكفار لو عينوا على المسلمين حاكمًا، فهو ولي أمر شرعي!

وبتحايلهم أيضا تمكن حافظ الأسد من توريث الملك لابنه السفاح بشار الأسد في سوريا وأفتى محمود لطفي عامر أن جمال يجوز له أن يرث حكم والده حسني مبارك في مصر باعتباره أميرا للمؤمنين! وكذلك فعل أسامة القوصي حين حث حماس على قبول الصلح مع إسرائيل اقتداء بالسادات، وبفعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية-زعم-، وكذلك على خطاهم تجرأت هيئة كبار العلماء في السعودية على فتوى قتل المجاهدين للأمريكان والحكم بأنهم لا يروحون رائحة الجنة – تأليا -!

اقرأ أيضًا: صلح الحديبية دعوة لعدم التنازل

ومما لا شك فيه أن ثورات الشعوب أضحت أكثر حدث مزلزل في عصرنا الحديث لعروش المتسلطين على البلاد المسلمة، ولهذا في أوج هذه الثورات كان نشاط هؤلاء العلماء المطبلين للحكام يصل الذروة، وبلغوا معها أبشع درجات الفظاعة والجرأة في حياكة الفتاوى للسمع والطاعة العمياء وتعدي حدود الله لصالح حكامهم.

ولهذا حظي هذا التيار بقرب النظام وإضفاء الشرعية لفتاواه وامتلأت منهم مجالس وموائد الحكومات. بل وانتشروا بين طبقات الناس والعلماء لتشتيت المعتقدات والاختراق. فلا تخلو برامج التلفاز من لقاءاتهم ولا دروس الإذاعات من سمومهم وكذلك اللقاءات والاجتماعات التي تسمى “إسلامية” من هيمنتهم بل لا يعترف بدار إفتاء إلا إن كانوا هم سدّتها ورأس حربتها!

ولا أحد يجادل في أن الفتاوى اليوم تحاك على قياس الحاكم، وأن الحائك الذي يلقب بـ “فضيلة الشيخ” و”العلامة”، وظيفته تحريف الكلم عن مواضعه وسوء التأويل ولي أعناق النصوص، لتوافق أهواء من يخدم من الملوك.

وللأسف الشديد فقد أضحت هذه الظاهرة سنة كونية في كل صراع بين الحق والباطل، ومع عصرنا الذي تقبع فيه الأمة المسلمة تحت وطأة حكام عملاء للهيمنة الغربية، كانت الظاهرة ملفتة جدا، لتعكس حجم الظلم والجور الذي يقوم عليه هؤلاء الحكام ولتبرز حجم مولاتهم للكفار وكذا لتفسر فداحة الضرر والأذى الذي يدفع ثمنه المسلمون تحت سلطانهم، ويبقى أشدها مرارة أن بفضل هؤلاء العلماء أسبغت الشرعية على الاحتلال لديار المسلمين–مباشرا كان أو غير مباشر-وأفتي بموالاة الأمريكان في حربهم ضد الإسلام بلا أدنى حياء!.

قال ابن القيم –رحمه الله- وإن الذنوب لتعم مصائبها الحيوانات والحشرات والجعلان في جحورها، يقول الله عزوجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ). قال مجاهد وعكرمة: هي الحشرات والبهائم يصيبها الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.

وفي زماننا لا يتجاوز تصنيف العلماء ثلاثة أصناف: أحدها علماء سلطان ومطبلين له في كل مناسبة وبدون مناسبة، والآخر، علماء عجزة قد أثقلت كاهلهم الخشية من الحاكم وسطوته فتشبثوا بنصوص “للضرورة أحكام” وصنف أبى إلا أن يقول كلمة الحق عند سلطان جائر فكان مصيره السجن والتعذيب.

وبهذا فإن أصناف العلماء على ثلاثة منازل، منزل يكتم الحق أو يبدله، ومنزل يشتري بدين الله وعهده ثمنا قليلا، ومنزل لا يخاف في الله لومة لائم ولا يخشى إلا الله.

عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى     وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه    بدنيا سواه فهو من ذين أعجب

كيف يؤثر علماء السوء على واقع الناس؟

وبهذا يمكننا أن نفسر خذلان كل ثورة نهوض وإجهاض كل دعوة تحرير وتبديد كل نداء (أن اغدوا على حرثكم وحي على الجهاد)، نفسره بنكوص العلماء عن دورهم في القيادة، وقعودهم تحت ظلال الحكام المستبدين، فتلاشت الكثير من المحاولات وفشلت – بسبب غيابهم عنها – العديد من التضحيات، ثم بدل أن يستدركوا هذا التقصير قاموا بتوجيه سهامهم في اللوم والتقريع والذمّ لأصحابها! فكانوا سببا محوريا في ضعف بنيان هذه الأمة بلا جدال. قال ابن مبارك–رحمه الله- :

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

لقد آن الأوان لأمة دينها الإسلام أن تخرج من عناصر حزنها واستضعافها، أن تنطلق من طور الهدنة والاستكانة بروح وثابة رافضة للظلم والعدوان جريئة في الحق لتكسر آصار وأغلال علماء السوء هؤلاء، وتنأى بنفسها عن التكلف والصلف وإعدام الكيان والذات، آن الأوان أن نطوق علماء السوء هؤلاء بجيش من السخط ونستبدلهم بأئمة تشهد لثباتهم جدران الزنازين الباردة والحارة، من أئمة الحق الذين حوربوا لمجرد إنكارهم منكرا في زمن الخور! ولتحييهم الأفئدة أينما كانوا ولتشيعهم الأرواح أينما رحلوا!

لقد آن الأوان لهذا الليل الطويل الجاثم على هممنا وآمالنا أن ينجلي. لقد آن الأوان أن نسحب الثقة ومصير خواتيمنا من أيدي علماء يجيدون الانطراح على عتبات السلاطين ونسلمها لأئمة لا يجيدون الانطراح إلا على عتبات الربوبية.

آن الأوان أن نكسر كل الآصار والأغلال التي تقيد نهوضنا وتحرمنا الوقوف من جديد بلا تلجلج أو خوف بل بكل ثقة بالله ثم النفس! وأولها و أخطرها على الإطلاق هي آصار علماء السوء ثم نبدأ بعدها الحديث عن الإنجاز!

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. المشكلة الان ان من يشعل شرارة التغيير، ويرفع راية الجهاد والاستشهاد يتهم بالارهاب والتطرف ،وهذا الاتهام يكون من الشعوب قبل الحكام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى