الصراع مع النصارى الأحباش: الإسلام في القرن الإفريقي
من المعروف أن انتشار الإسلام في منطقة ما يؤدي عادة إلى تفكير المسلمين في إنشاء كيان يجمعهم في شكل دولة أو سلطنة أو مملكة أو إمارة وما شابه ذلك؛ كوسيلة للتعبير عن الهوية والخصوصية الثقافية والسياسية.
هذا يمكن رؤيته في العديد من المناطق في إفريقيا، حيث قامت الممالك الإسلامية القديمة في غرب إفريقيا على نمط مشابه لتلك التي قامت بها الممالك في شرق إفريقيا، بعد أن تحدثنا سابقا عن إمارة (شوة) و(أوفات)، نذكر هنا أهم هذه الممالك والتي كانت تسمى بممالك الطراز الإسلامي.
مملكة بالي الإسلامية
جغرافيا: كانت تقع جنوب مملكة (فطجار) ويفصلها عن مملكة (دوارو) ونهر (شبيلي)، وتقع فيها منابع وروافد نهر (جوبا) الذي ينحدر جنوبا حتى يصب في المحيط الهندي جنوبي بلاد الصومال حاليا. وكانت هذه المملكة تشمل أرضا واسعة تمتد بين نهر (شبيلي) و(جوبا) وروافده، وأشار العمري1 والقلقشندي2 أن مساحتها مسيرة عشرين يوما طولا وستة أيام عرضا.
أما اقتصادها وقوة جيشها: فكانت غنية وفيرة الخيرات، طيبة هوائها، خصبة أرضها، ولذلك كان سكانها كثيرين. ولها قوَّةٌ عسكريَّةٌ وجيشها عدده كبير، إذ بلغ عدد فرسانه ثمانية عشر ألف فارس، ومشاتها أكثر من ذلك بكثير.
أشهر مدنها: وكانت مدينة (بالي) عاصمة هذه الإمارة عامرةً بالسكان، وتشمل أيضا مدن (ميزا)، و(قاقُمة)، و(زلة)، و(مالو)، و(عقري)، و(أدل جلات)، و(دل باد)، و(جدة)،وكانت هذه المدينة تقع غرب نهر شبيلي على بعد مسيرة ستة أيام.
مملكة دارة الإسلامية
كانت هذه المملكة تقع جنوب مملكة بالي (جنوب أديس أبابا حاليا)، وكان طولها يبلغ مسيرة ثلاثة أيام، وعرضا مثل ذلك، وهي أقل بلاد الطراز خيلا ورجلا، فعسكرها لا يزيد عن ألفي فارس، وألفين من المشاة، وهي لا تختلف في حياتها وأسلوب معيشتها عن أخواتها من ممالك الطراز الأخرى. ولعل موقعها المتطرف وبعدها عن الكثافة الإسلامية في بلاد الطراز كان من أسباب ضعفها وزوالها.
مملكة فطجار الإسلامية
تقع هذه المملكة حول الجزء الأوسط من نهر عواش في شماله وجنوبه، وكان نصفها الشمالي يمتد شمالا حتى يصل قرب مدينة لال بلا (لاليبالا الحالية)، وهو بذلك يفصل بين سلطنة (أوفات)، وبين إقليم أمحرا (أمهرا)، وإمارة (شوا).
أما نصفها الذي يقع جنوب نهر (عواش)، فقد كان يتصل بمعظم الممالك الإسلامية التي تقع جنوب هذا النهر. فكان يحده من الشرق سلطنة (عدل) وإقليم (هرر)، ومن الغرب مملكة (هدية) و(شرخة)، ومن الجنوب الشرقي مملكة (دوارو)، ومن الجنوب الغربي مملكة (بالي).
وذكر هذه الإمارة (عرب فقيه)3 صاحب فتوح الحبشة حيث وقعت على أرضها المعركة الشهيرة التي تسمى معركة (شمبر كوري) والتي كانت أول نصر كبير لمسلمي الزيلع على نصارى الحبشة عام 935هـ/ 1529م.
وكانت مملكة فطجار مملكة قوية، فعدد فرسانها كانوا لا يقلون عن عشرة آلاف فارس، ومشاتها خلق كثير. أما مدنها وقراها فكانت عديدة، مثل: مدينة (أماجة)، و(جان زلق)، و(مسين)، و(بادقى)، و(ولأدة مشك)، و(الرزير)، و(زقالة)، و(أندوتنة)، و(برارة)، و(شمبركرى).
ويلاحظ أن نهر (شبيلي) -الذي يبدأ من بحيرات إثيوبيا الحالية وينتهي جنوب الصومال- كان يحيط هذه المملكة من الجنوب ويفصل بينها وبين مملكة (بالي)، واشتهرت أرضها بروافد عديدة، وذكرها “عرب فقيه” صاحب كتاب (فتوح الحبشة) مثل: روافد (مجوا)، و(سمرما)، و(دوخم)، و(عُجام جي)، و(سجوا)، مما هيأ لها فرصة للزراعة، وهيأ أيضا فرصة للدفاع والمقاومة ضد أي هجوم خارجي يقع عليها بسبب هذه الطبيعة الجغرافية وما فيها من أنهار عديدة كانت تشكل حواجز طبيعية لها تأثيرها الفعّال ضد أي عدوان خارجي.
مملكة دوارو الإسلامية
كانت هذه المملكة تقع جنوب سلطنة (أوفات)، في الجنوب الشرقي لمملكة (فطجار)، وتتشابه ظروف الحياة فيها مع أخواتها من الممالك الإسلامية السابقة، وإن كانت مساحتها أقل. فقد ذكر العمري أن طولها يبلغ مسيرة خمسة أيام وعرضها مسيرة يومين، ورغم ذلك فقد كانت تملك جيشا قويا لا يقل عن جيش (أوفات) في عدد الفرسان والمشاة.
وتميزت أيضاً باحتوائها على عدد كبير من المدن، مثل: مدينة (ونَبارية)، و(كُحل برى)، و(زميت)، و(زهرق)، و(أووالدة)، و(باب سرى)، و(دَل ميدَة)، و(عَندورَة)، و(زري)، و(جراورَاري)، و(زغبة)، و(أرقوَى)، و(أجيت)، و(تن)، و(أدل مبرق). ويمر بهذه المملكة أيضا بعض روافد نهر الوبى شبيلي والتي كانت تسمى نهر (بور)، ونهر (بوس)، ونهر (زميت).
مملكة هدية الإسلامية
كانت مملكة (هدية) تقع جنوب إقليم (شوا) وإقليم (الداموت) وشمال إقليم (كمباتا)، وغرب البحيرة التي تسمى الآن بحيرة (Zway) التي سماها (عرب فقيه) باسم نهر (زواي)، ومساحتها تبلغ مسيرة ثمانية أيام طولا وتسعة أيام عرضا، وهى بذلك أقل مساحة من سلطنة (أوفات) -كبرى ممالك الطراز- ورغم ذلك فقد كان جيش هدية أكثر عددا، إذ بلغ عدد فرسانه أكثر من نصف هذا العدد. ومع هذه القوة العسكرية فقد وقعت هدية تحت نفوذ الأحباش منذ وقت مبكر وخاصة بعد ضعف سلطنة عدل.
مملكة شرخة الإسلامية
كانت هذه المملكة تقع جنوب مملكة (هدية)، كما كانت مساحتها محدودة وضيقة، فطولها يبلغ مسيرة ثلاثة أيام وعرضها مسيرة أربعة أيام. وكان جيشها يحتوي على ثلاثة آلاف فارس وعلى ضعف هذا العدد من المشاة. وكانت (شرخة) كأخواتها (دوارو) و(أرابيني) في بقية أحوالها من الزي والمعاملة والحبوب والفواكه والبقول وسائر ما لهم وما عليهم.
ومما هو جدير بالملاحظة أن القلقشندي أضاف إلى ممالك الطراز جزائر (دهلك) ومدينة (عوان) المواجهة لبلاد اليمن، وكذلك سلطنة (مقديشو). وكل هذه البقاع كانت تدين بالإسلام وينتمي سكانها لنفس العناصر التي ينتمي إليها سكان بلاد الطراز الإسلامي، وكانت (دهلك) و(عوان) تقع في كثير من الأحيان تحت نفوذ حكام الحبشة، أما مقديشو فكانت سلطنة مستقلة عن الأحباش والزيلع؛ لبعدها الجغرافي آنذاك.
سلطنة عَدَل الإسلامية [817 : 985هـ = 1414 : 1577م]
كانت (عَدَل) إقليمًا من الأقاليم التي خضعت لسلاطين (أوفات). وليس ببعيد أن تكون قد تأسست فيها إمارة محلية تدين بالولاء لِبَنِي (وَلشَمع)، ويبدو أن موقعها المتطرف قد ساعد على نجاتها من التوسع الحبشى الذى أطاح بالإمارات السابقة.
وكان طبيعيا أن يأوي (بنو سعد الدين) إلى إقليم قريب من البحر يتيح لهم الاتصال ببلاد اليمن بعيدًا عن مناطق النفوذ الحبشى. وكانت تلك السلطنة تضم البلاد الواقعة بين ميناء (زيلع) و(هرر)، وتشمل ما يعرف بالصومال الشمالي والغربي وإقليم (أوجادين)، وسميت هذه البلاد (بر سعد الدين) تخليدًا لسعد الدين الذي مات بـ(زيلع) ودفن بها.
كيف استطاع المسلمون إعادة مجدهم من جديد
بعد سقوط سلطنة إيفات، واثنتي عشرة سنة من حالة فوضى واحتلال الحبشة لبلاد المسلمين استأنف أولاد سعد الدين الجهاد مرة أخرى، وتسلم الحكم السلطان صبر الدين الثاني، وواصل سياسة سلفه في مواصلة حركة الجهاد والدفاع عن الأراضي الإسلامية وكيان المسلمين في المنطقة والتف حوله جموع من المسلمين، واتخذ مدينة (دَكَّر – أريتيريا حاليا) عاصمة له، وحقق انتصارات على جيوش النصارى الغزاة واستطاع الاستيلاء على عدة بلاد احتلت الحبشة فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ = 1422م) خلفه أخوه منصور المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذى بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمي (الزيلع) وهاجم بهم ملك الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين ألفًا مدة تزيد على شهرين، ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول فى الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم منصور ولم يستعبدهم كما كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون فى أسرهم.
لكن ملك الحبشة إسحاق بن داود أعد جيشًا كبيرًا وهجم به على منصور وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان منصور وقع هو وأخوه الأمير محمد فى أسر إسحاق عام (828هـ = 1425م).
ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام أخ للسلطان الأسير وهو السلطان جمال الدين برفع راية الجهاد من جديد.
وانتصر على ملك الحبشة فى مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا عليه؛ ربما رغبة في النفوذ والسلطان الذي حرموا منه فاغتالوه في عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان شهاب الدين أحمد بدلاي الذي عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة (بالي) الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش في (848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف معه.
ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة (عَدَل) وبقية الممالك الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا حتى مصوع وسهول السودان وضمت (أوفات) و(فطجار) و(دوارو) و(بالي) و(هدية)، ومنحت هذه الإمارات استقلالها الذاتي، وولت عليها عاملاً يسمى (الجراد) ينحدر من البيت المالك القديم.
ويبدو أن الرغبة الصادقة فى الجهاد التى عرف بها الجيل الأول من سلاطين (أوفات) قد فترت عند أحفادهم من سلاطين (عدل)، فقد سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن سياسته التقليدية في جهاد الأحباش ومقاومتهم. وكان تخاذل سلاطين (عدل)، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من أدوار الجهاد وهو دور (سلطنة هرر).
سلطنة هرر [927هـ]
يأتي الموقع الجغرافي للمدينة الإسلامية بهرر على قطاع جغرافي متسع من الأميال الممتدة إلى الداخل نسبياً عن ساحل البحر الأحمر وتشكل عند قمته في هيئة مثلث تمتد أضلاعه وتستند عند مدينتي (زيلع zeila) و(بربرة Berbera) حيث تقوم وتنتشر كقاعدة عريضة له، بضعة أميال ممتدة باتجاه المدينتين الساحليتين، وقد تمركزت هذه الإمارة الإسلامية المستقلة إلى الجنوب الشرقي من بلاد الحبشة وإلى الغرب من ميناء زيلع الصومالي أو مباشرة من الناحية الجنوبية الغربية، وربما في الاتجاه الشرقي من وسط البلاد، حيث يطلق عليها اسم منطقة (هرر) كمدينة ومقاطعة، ليشمل الحافة الشرقية للهضبة التي تلي المقاطعات الممتدة نسبياً صوب الشمال من (بوغاز) باب المندب حتى الجهات الجنوبية الغربية من خليج عدن. ظهرت سلطنة (هرر) على إثر سقوط سلطنة (عدل)، ومال سلاطينها إلى مهادنة الأحباش واليأس من الجهاد.
أصبحت مدينة (هرر) عاصمة منذ عام 927هـ/ 152م، وأول إعلان للجهاد ضد نصارى الحبشة كان عقب وفاة السلطان محمد بن بدلاي عام 876هـ/ 1471م.
وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أُشربت قلوبهم حب الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية فى البلاد، وبذلك أصبح في المجتمع العَدَلي حزبان: هذا الحزب الشعبي الذي يتزعمه الأمراء الأئمة، وذلك الحزب الذي يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.
وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعي عثمان حاكم (زيلع) الذي أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان محمد بن بدلاي مباشرة عام (876هـ = 1471م)، ثم ظهر في (هرر) الإمام محفوظ الذي تحدى السلطان محمد بن أزهر الدين، واشتبك مع الأحباش، غير أن البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجؤوا (زيلع) وأغاروا عليها وانتهى الأمر بفشل حركة محفوظ، وباغتيال السلطان محمد سنة (924هـ = 1518م).
ظهور الإمام الغازي
وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي ظهرت تطورات كان لها تأثيرها فى مسرح الأحداث بين المسلمين والأحباش، تمثلت في ظهور الأتراك العثمانيين وقيام حركة الكشوف الجغرافية بزعامة الملاحين البرتغاليين، كذلك أدخلت الأسلحة النارية إلى منطقة الأحداث في بلاد (الزيلع) و(الحبشة)، وأهم من هذا كله إسلام قبائل البدو من الأعفار والصومالي، ودخولها ميدان الجهاد، ووقوفها وراء الإمام الذي رشحته الأحداث لتزعم حركة الجهاد الإسلامي في ذلك الدور، وهو الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي الملقب بـ(القرين) أي الأشول.
بدأت حياة الإمام بالانتساب إلى أسرة الأمير محفوظ، فتزوج ابنته وكسب تأييد أنصاره وتثقّف ثقافة دينية غزيرة، وصار أخيرا من قواد الأمير (أبون) بعد موت الأمير محفوظ ولما قتل الأمير (أبون) على يد السلطان أبي بكر، ترك الإمام أحمد مدينة (هرر) واستقر في مسقط رأسه في (هوبت) التي تقع في إقليم (شوا) بين (قلديسىي) و(هرر)، يجمع الأنصار ويرتب المجاهدين، واستطاع كما رأينا أن يقتل السلطان أبا بكر بن محمد ويعين أخاه عمر دين بن محمد بدلا منه، وتصبح السلطة الحقيقية في يده.
سياسة الإمام أحمد الجديدة
اتبع الإمام أحمد القرين بعد أن سيطر على مقاليد الأمور في سلطنة (عَدَل) وبعد أن اتخذ من (هرر) مقرا له، سياسةً موفقةً جمعت الناس حوله، فقد طبّق الشريعة الإسلامية في حكمه وخاصة في توزيع أموال الزكاة والغنائم على مستحقيها وفي مصارفها الشرعية، وبذلك كسب حب الجند وحب الفقهاء والعلماء، كما كسب أيضًا محبة الشعب، فقد كان يلطف بالمساكين ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويعطف على الأرملة واليتيم، وينصف المظلوم من الظالم، ولا تأخذه فى الله لومة لائم، كما قضى على قُطَّاع الطرق فأمنت البلاد وانصلح حال الناس وانقادوا له وأحبوه.
بهذه السياسة الداخلية السليمة استطاع الإمام أحمد القرين أن يوحد كلمة المسلمين ويتولى زعامتهم وعزم على رد عادية الأحباش، وذلك بفتح بلاد الحبشة ذاتها، وتمكن من التوغل فيها حتى وصل إلى أقاليمها الشمالية، ودارت بينه وبين الأحباش عدة معارك، كان أولها فى عام (933هـ = 1527م) حيث هزم الأحباش لأول مرة منذ بداية الجهاد.
وفي عام (934هـ = 1528م) أحرز الإمام أحمد نصرًا حاسمًا على الأحباش فى موقعة (شنبر كورى)، ثم بدأ في غزو بلاد الحبشة نهائيا. ففي سنة (938هـ = 1531م) دخل (دوارو) و(شوا) و(أمهرة) و(لاستا). وفي سنة (940هـ = 1535م) سيطر المسلمون على جنوب الحبشة ووسطها، وغزو (تجراي) للمرة الأولى وأصبح مصير الأحباش في كفة الميزان. وانتصر على الأحباش الذين كان المسلمون قبله يؤدون لهم الإتاوة وأدخلهم تحت سلطانه، ودخلوا في الإسلام.
ولولا تدخل البرتغاليين ومساعدتهم ملك الحبشة الطريد وفلول جيشه المهزوم لظلت الحبشة مسلمة جميعها إلى يومنا هذا.
وفي هذا الوقت كان الزحف البرتغالي قد وصل إلى البحر الأحمر فاستنجد بهم الأحباش عام (942هـ = 1535م) فأرسل إليهم ملك البرتغال نجدة عسكرية وصلت البلاد عام (948هـ = 1541م)، وتقابل المجاهدون بقيادة الإمام أحمد إبراهيم مع الأحباش والبرتغاليين في عدة مواقع عام (949هـ = 1542م)، لكنه هُزم وتكررت هزيمته في العام التالي حيث استشهد وتفرقت جموعه، ونجت الحبشة من السقوط، ولم يعد المسلمون مصدر خطر جديّ يهدد الأحباش.
استئناف حركة الجهاد بعد استشهاد الإمام أحمد
ومع كل ذلك فإن حركة الجهاد لم تمت بموت الإمام أحمد، بل استأنفها خلفاؤه من بعده وخاصة في عام (966هـ = 1559م) بقيادة الأمير نور الذي اتخذ لقب أمير المؤمنين، والسلطان الأسمى المسمى عليَّا سليل أمراء (عَدَل) السابقين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل.
وكانت انتفاضة (هرر) الأخيرة عام (985هـ = 1577م) حينما تحالفت مع أحد ثوار الأحباش للنيل من ملك الحبشة، وحدثت موقعة انتهت بمقتل محمد الرابع آخر أمراء (هرر) عند نهر (ويبى)، وانتهت (هرر) كقوة سياسية ذات شأن، في الوقت الذي استطاع فيه الأحباش أن يقضوا على خطر الأتراك العثمانيين أيضًا بهزيمتهم وعقد هدنة معهم عام (997هـ – 1589م) واكتفى العثمانيون بالسيطرة على (مصوع) و(سواكن)، وبذلك انتهى الصراع في الحبشة لصالح الأحباش.
وإذا كانت هذه الحركة لم تحقق أهدافها بالقضاء على مملكة الحبشة نهائيا، إلا أنها أثبتت عمق الشعور الإسلامي في نفوس أهل شرق إفريقيا وعمق تمسكهم بالإسلام، فقد دأبوا على الجهاد وأصروا عليه طيلة أربعة قرون، وظهر أثر العلماء والفقهاء وأصبحت لهم الزعامة في المجتمع في ذلك الوقت.
وعلى الرغم من هذه الهزيمة التي مُنيَ بها المسلمون فى منطقة القرن الإفريقي وانصراف اهتمام العثمانيين إلى أوربا والعالم العربى، فإن المسلمين الزيالعة بقيت لهم بعض سلطناتهم وبلادهم.
ذلك أن الصراع الذي اندلع بينهم وبين الأحباش أنهك الطرفين معًا؛ مما هيأ الفرصة لدخول قبائل الجلا الوثنية القادمة من الجنوب، فاحتلت (هرر) واستقرت في النصف الجنوبي من دولة الحبشة، ثم أسلمت هذه القبائل أخيرًا، ولكن أوربا الغربية أعانت الأحباش على المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي، وخاصة فى عهد منليك الثاني الذي استولى على سلطنة (هرر) في عام (1302هـ = 1885م) وعلى غيرها من البلدان الإسلامية، ثم استولى الأحباش على سلطنة (أوسا)، ثم على (إريتريا) و(إقليم الأوجادين الصومالي) في القرن العشرين.
انتصار الأحباش لم يؤد إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها انتصار الأسبان. فقد ضاعت بلاد الأندلس كدين ودولة وكيان سياسي إسلامي مستقل وعادت إلى النصرانية من جديد، وأصبحت أحد أقاليم دولة أسبانيا، بينما في مناطق مملكة الطراز الإسلامي لم يتمكن الأحباش من القضاء على دين الإسلام وظل المسلمون على دينهم حتى الآن رغم ما يواجهون من تحديات ومشاكل.
المصادر
1- هجرة العرب المسلمين إلى شرق إفريقيا، محمد حسين الزبيدي، مجلة المؤرخ العربي، العدد (23) ص (99) 1983م بغداد، العراق.
2- الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، حسن محمود.
3- فتوح الحبشة، شهاب الدين أحمد عرب فقيه، الهيئة المصرية للكتاب 1394هـ 1974م.
4- الإسلام والحبشة عبر التاريخ، فتحي غيث، نقلاً عن رجب محمد عبد الحليم.
5- العلاقات السياسية بين مسلمي زيلع ونصارى الحبشة رجب محمد عبد الحليم، دار زيلع.
6- الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام علي بن عبد القادر المقريزي.
7- الإسلام والمماليك الإسلامية في الحبشة في العصور الوسطى لإبراهيم علي علي طرخان، ضمن البحوث المجلة التاريخية المصرية، المجلد الثامن، سنة 1959م.
8- السطنات الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي دكتور محمد حسين معلم ، المؤتمر الدولي، الإسلام في أفريقيا، الكتاب الخامس 2006.
الهوامش
- هو أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، (٧٠٠ – ٧٤٩ هـ = ١٣٠١ – ١٣٤٩ م)
شهاب الدين: مؤرخ، حجة في معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمام في الترسل والإنشاء، عارف بأخبار رجال عصره وتراجمهم، غزير المعرفة بالتاريخ ولا سيما تاريخ ملوك المغول من عهد جنكيز خان إلى عصره.
مولده ومنشأه ووفاته في دمشق.
أجل آثاره (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار – خ) كبير، طبع المجلد الأول منه [ثم طُبعت أجزاء أخرى]، قال فيه ابن شاكر: كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله.
للزيادة انظر: الأعلام للزركلي ↩︎ - القلقشندي (٧٥٦ – ٨٢١ هـ = ١٣٥٥ – ١٤١٨ م)
وهو أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري: المؤرخ الأديب البحاثة.
ولد في قلقشندة (من قرى القليوبية، بقرب القاهرة، سماها ياقوت قرقشندة) ونشأ وناب في الحكم وتوفي في القاهرة.
أفضل تصانيفه (صبح الأعشى في قوانين الإنشا – ط) أربعة عشر مجلدا، في فنون كثيرة من التاريخ والأدب ووصف البلدان والممالك.
للزيادة انظر: الأعلام للزركلي ↩︎ - عَرَب فَقِيه (٠٠٠ – بعد ٩٤٠ هـ = ٠٠٠ – بعد ١٥٣٣ م)
أحمد بن عبد القادر بن سالم بن عثمان، شهاب الدين المعروف بعرب فقيه: مؤرخ من أهل (جيزان) له كتاب (تحفة الزمان – ط) المجلد الأول منه، مع ترجمة فرنسية، ويسمى (فتوح الحبشة) تبتدئ حوادثه بسنة ٩٣٤م.
ينظر: الدرر الكامنة ج١ ص147 ↩︎