الإسلام في روسيا بين الماضي والحاضر 

تعد روسيا أكبر دول العالم من حيث المساحة الجغرافية حيث تمتد في مساحتها على قارتين هما آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى كونها واحدةً من أكثر دول العالم قوةً وتأثيرًا على مرّ التاريخ، فقد كان لروسيا حضورها المباشر في كثير من الأحداث التاريخية المصيرية، فقد شهدت أرضها الكثير من الوقائع مثل الغزو المغولي، وانتقال مركزية الكنيسة الأرثوذكسية من القسطنطينية إلى الأراضي الروسية في سانت بطرسبورغ، بالإضافة إلى صد غزوين عظيمين هما الفرنسي والألماني، مما أدى إلى تغير مجرى التاريخ إلى الأبد.

تاريخ روسيا

يعد تاريخ روسيا تاريخًا ضاربًا بالقدم إذ استعمرت القبائل البدوية الخزرية تلك الأراضي في فترة الدولة الرومانية وما قبلها، وحافظت على طابعها البربري المبني على الغزوات السريعة واجتياح أراضي الآخرين وسلبها، بالإضافة إلى كونهم كانوا وثنيين وملاحدة لا يدينون بأي شريعة سماوية، حتى تأسست إمارة كييف واعتنقت الدين المسيحي وخاضت مع الإمبراطورية البيزنطية عدة حروب ومعارك قبل أن تتوجه إلى عقد السلام معها، ولتصبحا دولتان حليفتان.

وقد أخذت الشريعة اليهودية تنتشر بين تلك القبائل الخزرية، فاعتنق كثيرٌ منهم اليهودية، واعتنق بعضهم الآخر المسيحية، وبدأت روسيا تشهد دخول الكثير من القبائل من القوط والقوقاز والمجر إلى أراضيها، وقد استطاعت كييف أن تضم هذه القبائل تحت سلطانها، لتتوجه نحو توسيع رقعة أراضيها حتى عام تسعمائة وثمانين 980م، ليتم إنشاء إمارة فلاديمير الكبرى، الذي عمد عام 988 إلى إعلان المسيحية الأرثوذكسية الدين الرسمي للدولة، ومن ثم اتجه نحو توسيع رقعة بلاده لتصل إلى نهر الفولغا، لكن بعد وفاته اقتسم أبناء فلاديمير الاثنا عشر أراضي دولته فتأسست عدد من الإمارات الصغيرة كان أهمها إمارة موسكو.

  وقد دخلت هذه الإمارات حروبًا وصراعات فيما بينها اشتركت فيها عدد من القبائل الخزرية والتركية وذلك لفرض السيطرة على الأراضي الروسية، إلى أن جاء الغزو المغولي عام 1223م، إذ مُنيت الجيوش الروسية بهزيمة كبرى أمام المغول، وقد واصل أحفاد جنكيز خان غزوهم لروسيا حتى وصلوا إلى كييف عام ألف ومائتين وأربعين 1240م، واحتلوها وضموا أراضيها لسلطة المغول، وبعد أن خضعت روسيا للمغول مباشرةً بدأ المغول بتحسين الأوضاع في روسيا بعد فترة طويلة من الاضطرابات، فحسنوا الحركة التجارية، ونظموا الأمور الإدارية فيها واستعانوا بالقبائل التركية المسلمة التي كانت موجودةً آنذاك، ليتوسع حضور الإسلام في روسيا بعد أن كان محدودًا جدًا بالتجار المسلمين.

لكن بعد ضعف الدولة المغولية نشطت حركة المقاومة الروسية، التي استطاعت شيئًا فشيئًا طرد المغول، وتأسيس ما يعرف بدوقية موسكو الكبرى في بداية القرن الرابع عشر، التي كانت نواة القيصرية الروسية، وتم إعلان الانفصال عن المغول عام ألف وأربعمائة وثمانين 1480م في عهد إيفان الثالث، وفي عام ألف وخمسمائة وسبعة وأربعين 1547م تحولت إمارة موسكو الكبرى إلى القيصرية الروسية على يد إيفان الرابع الرهيب.

الدين الإسلامي في روسيا

كان للدين الإسلامي حضوره الشريف في كافة أنحاء العالم القديم، فقد وصل الإسلام إلى روسيا عبر الفتوحات الإسلامية التي كانت نشطة منذ عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مرورًا بالدولة الأموية التي توقفت في فتوحها حتى جبال قوقاز، إلى قيام الدولة العباسية التي اتخذت موقفا دفاعيًا مكتفيةً بصد هجمات المغيرين من القبائل الخزرية، أما العامل الثاني الذي تسبب بإدخال الإسلام إلى روسيا هو حركة التجارة التي عمت أرجاء العالم كله، فأسلم غير قليل من الروس، لكن الحضور الإسلامي أخذ بالتعمق في روسيا بعد الغزو المغولي الذي بسط سلطانه عليها، وذلك بعد دخول عدد من القبائل التركية المسلمة في إخضاع البلاد الروسية، إضافةً إلى تحول المغول للدين الإسلامي، فأصبحت روسيا على امتدادها حتى كييف الأوكرانية تابعة للسلطة الإسلامية المغولية، لكن لم يتم المساس بالمسيحية وأتباعها في الدولة المغولية المسلمة، بل أصدر السلطان محمد أوزبك خان أمرًا بعدم المساس بالكنيسة الأرثوذكسية، وعدم تحويل كنيسة القديس بطرس إلى مسجد، الأمر الذي جعل المسيحية تحافظ على وجودها الراسخ في روسيا.

وقد انتشر الدين الإسلامي في العديد من الشعوب السلافية مثل الشركس والشيشان وشعوب القوقاز، وأصبح الدين الرسمي عند هذه الشعوب، لكن حركة المد الإسلامي توقفت بعد انتهاء الدولة المغولية المسلمة، وقيام إمارة موسكو الكبرى التي أعقبتها القيصرية الروسية، فقد أظهرت هذه الأخيرة عداءها للمسلمين، لا سيما للدولة الإسلامية العثمانية التي استطاعت إنهاء وجود الإمبراطورية البيزنطية، وفتح العالم المسيحي والتعمق في الداخل الأوروبي، فحاول إيفان الرابع الرهيب غزو الأراضي العثمانية، فتم الرد عليه بحملة من جيش القوقاز الذي وصل إلى موسكو وحرقها، لكن إيفان الرهيب استطاع رد الغزو العثماني القوقازي، الأمر الذي دفع العثمانيين إلى نشر الإسلام بكثافة بين الشيشان والشركس.

وقد استطاع العثمانيون بمعية القبائل الشركسية والشيشانية المحافظة على خانية القرم التي كانت روسيا المسيحية تسعى لاحتلالها، لكن مع ضعف الدولة العثمانية، سقطت خانية القرم ومعها العديد من الأراضي العثمانية المسلمة بيد الروس، الذين مارسوا اضطهادا دينيًا ضد المسلمين، الأمر الذي دفع بكثير من الشركس والشيشان إلى الهجرة القسرية نحو الدولة العثمانية التي وطنتهم في مناطق مختلفة من أراضيها لا سيما في الأردن، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى شهدت روسيا ثورةً على القيصرية الروسية، وانتقال السلطة إلى البلاشفة الشيوعيين.

المسلمون في الاتحاد السوفيتي

لم يكن الاتحاد السوفيتي أقل عداءً للإسلام من القيصرية الروسية، لا سيما بعد سقوط الخلافة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. أضحى المسلمون في مختلف دول العالم يعانون من الاضطهاد في ظل غياب الخلافة التي تحميهم، فمارس الشيوعيون الملاحدة جرائمهم بحق المسلمين، فمنعوا أشكال العبادة كافة، ومنعوا رفع الأذان في كافة أنحاء الاتحاد السوفيتي، وقد بقي الأمر كذلك حتى الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الدولة تهادن المسلمين لكسب دعمهم ضد الغزو الألماني، فأنشأت لهم هيئةً لإدارة شؤونهم شريطة عدم تهديد المسلمين للدولة، لكن بعد أن انتهى الخطر الألماني عادت روسيا لقمع المسلمين، فحولت الكثير من المساجد لحانات ودور رقص، بعد أن كانت روسيا تضم ستة وعشرين ألف مسجد، وقامت بإنتاج أفلامٍ ساخرة من الإسلام، ومنعت الكثير من الشعائر الدينية مثل الحج والصيام، وإقامة الاحتفالات الدينية، والأعياد ومنع الحجاب وطقوس الزواج الإسلامية، وقد مارست روسيا اضطهادها ضد مسلمي أفغانستان لكنها هزمت على يد الشعب الأفغاني، لينهار الاتحاد السوفيتي  عام 1991م.

المسلمون في روسيا اليوم

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أخذ الإسلام يعود إلى انتشاره في عموم البلاد الروسية، حتى أصبح الدين الثاني في الدولة بعد المسيحية، بالإضافة أنه يمثل غالبيةً واضحة في عدد من المناطق في روسيا، ويشكل الدين الإسلامي اليوم أكثر الديانات انتشارا في روسيا نتيجة ارتفاع نسبة المواليد لدى مسلمي روسيا، فشكل مسلمو روسيا حسب إحصائية عام 2002م 10% من سكان روسيا، وقد تضاعف هذا العدد في العام 2022م إذ بلغ 20%، وحصل المسلمون على حريتهم الدينية نتيجة رفع الدولة للقيود الكثيرة التي كانت تمارسها الدولة السوفيتية، وتركت المجال لحرية إنشاء المساجد والقيام بالشعائر الدينية، وحرية اختيار الدين للمسيحيين الراغبين بدخول الإسلام. 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى