الإسلام والثورة: لماذا يجب أن نُدخل الدين في كل شيء؟
لعلّ بداية موضوعنا كانت بشُؤمٍ أصاب النصرانية؛ فلحقت تَبعاته بالمُسلمين، وظلت تطاردهم إلى يومنا هذا! فأيُّ شيءٍ أشأم من أن يُحَرَّف دينٌ كاملٌ؟!
بداية القصة
بدأت قصتُنا حين دخل يهودي يُدعى (بولس) من ألدّ أعداء المسيح -عليه السلام- النصرانية فجأة، بل وأصبح ذا مركز هام في النصرانية، والذي أتاح له الفرصة أن يُحرِّف فيها كما أراد بإدخال بعض من الوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية، ثم يتبعه دخول حاكم روماني يدعى (قسطنطين) للنصرانية، وبذلك سيطرت النصرانية على الحكم، ولكن أي نصرانية؟!
أبعد أن أصبح الحكم فيها وبها بيد حاكم لا يبال بالدين أصلًا تظل هي النصرانية التي اعتنقها الحواريون من قبل وتبعوا بذلك رسول الله عيسى ابن مريم -عليهما السلام-؟!
فقد أصبح الدين مشاعًا لمن أراد من ذي حكمٍ وجاه أن يُحَرِّفَ فيه كما أراد لأجل مصالحه؛ فهبّت الكنيسة بدعوةٍ إلى رهبانية ماأنزل الله بها من سلطان!
تَبِعَ ذلك احتكار لفهم الكتاب المقدس وتفسيره، فأصبح للنصرانية كهنوتًا ماأنزل الله به من سلطان -أيضًا-! وبدأت الكنيسة في إدخال أشياء لا سبيل إلى فَهمِها مثل الثالوث والعشاء الرباني، بل وتدخلت الكنيسة في أحوال الكون والمسائل العلمية ملقية بالعلم عرض الحائط، ورافعة راية الخرافة البحتة!
ثورة العلم
كان كثيرًا على البشر تحمُّل عقاب من يرفع راية العلم لمجرد أنه أعمل عقله، كان شاقًّا عليهم أن يقدسوا دينًا مُحرَّفًا، ويلقون في مقابل ذلك بالعلم عرض الحائط، ويترجون عقلهم البشري ألّا يَعمل بطبيعته ليُفكِّر ويُبدِع ويكتَشِف!
فاندلعت نيران ثورة العلم، وانطلق العلم يحكم لا يحكر عليه أحد، وفُصِل الدين عن الحياة العامّة للناس؛ لأجل حياة راقية متحضرة قائمة على العلم -كما أرادوا ورأوا-.
مِنّا من يَرى أنّهم أحسنوا فِعلًا، فيَرى تخلُّف بلاد المُسَمّين بالمسلمين عنهم، فيَقُل: هيا بِنا ندَع الدين جانبًا، ونفعل مثلهم؛ لنتقدم.
بالفعل تسلّلَت تِلك الفِكرة إلى بلاد الإسلام! ونصرها من نصرها، وعاداها من فَهِم دينه ووَعاه.
والسؤال: هل الإسلام دين محرف يمتلئ بالخرافات حتى يعيق تقدُّم أبنائه؟
من شبَّه الإسلام بالنصرانية فقال: نفعل مثلهم؛ فهم المتقدمون قادة العلم! لم تقع عينيه على قول ربِّه -سبحانه-:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) وعلى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )، أو ربما وقعت عينيه ولكن عَمِيَ قلبه!
إنَّ دين الله محفوظ، باقٍ، قد ارتضاه الله لنا بعد أن أتمَّه؛ لنحكم به في كل أمور حياتنا! فحتى بحثُكَ العلمي قد حثّك الدين على القيام به؛ فقد جاء في كتابنا:(وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
قال ربنا -جل وعلا-:(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فإن من آمن حقًا؛ يفعل ذلك، ومن كان إيمانه مهترئ؛ فلا يفعل!
وقد رد الله على تلك الفئة… بكل عَجَب مما قرّروا:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
إذًا فإنّ دين الإسلام يُحكَّم في كُلِّ أمور الحياة، ولا يصحّ أن تَنفي ذلك عن نفسك -ما دمت تقول أنَّك مُسلمٌ!-.
وبناءً على ذلك:
هل للثورة علاقة بالإسلام؟
بالطبع لها علاقة، لأن الإسلام منهج كامل للحياة؛ فأي قيمة أو سلوك يمكننا عرضه على الإسلام لنعلم هو حق أم باطل، صحيح أم خطأ؟! ولكن للإجابة على هذا السؤال إجابة كاملة، لابد وأن نفهم معنى كلمة ثورة أولًا، حتى نعرض ذلك المعنى على الإسلام، فنُجيب بذلك على السؤال.
ماهي الثورة؟
إن الثورة ليست أي تجمع في الشوارع بلافتات معارضة لنِظام ما، أو لأشخاص ما، وليس أي عمل “تخريبي” يكون ثوري. ليست كل قوة ثورة، وليست كل كلمة ثورة. ليس كل تحرُّك لأجل تَبديل شيء و شخص يُسمّى تحرُّك ثوري.
إن الثورة هي تبديل جذري، قاطع، جازم، لا يقبل المفاوضة.
فليس أي تبديل جذري، ولا كل من ادّعى أنه يريد تبديل جذري لم يُفاوض فيه! إذًا فكيف نعلم؟ كيف نعلم أن ذاك التحرك ثوري، أما هذا؛ فلا؟
لأي تحرك (سلوك) ثوري ثلاث قيم ينبثق منهم، فيتصف وقتها بالثوري، هي:
- التغيير الجذري.
- العمل من خارج المنظومة.
- الجماهيرية.
التغيير الجذري
والتغيير الجذري يعني أن يستهدف الثوريون القيم التي يقوم عليها النظام الحاكم. (ثورة العلم -أو الثورة الصناعية- قامت على هدم قيمة تحكيم الكنيسة ممثلة الدين، ولم تقم على مجرد منع إعتداءات الكنيسة على المفكرين والعلماء، لذا؛ هي “ثورة”).
العمل من خارج المنظومة
أما العمل من خارج المنظومة فيعني: ألَّا يعترف بقوانينها ولا بالقيم التي بُنِيَت عليها، فكيف يريد التغيير الجذري، وبنفس الوقت يمثل هو جزءًا من تلك المنظومة التي يريد تغييرها تغييرًا جذريًا؟!
الجماهيرية
أما الجماهيرية فتعني: حمل رسالة واضحة للجماهير، ويحمل تلك الرسالة إلى الجماهير (الطليعة الثورية)، فكيف تقوم ثورة على لا شيء (لا رسالة واضحة للجماهير)!؟
الثورة تقوم على لا شيء حينما تنفصل تلك الطليعة عن الجماهير تمامًا، فتتحرك الجماهير نقمةً على سلوكيات النظام مثل غلاء الأسعار، والجور المفضوح في سجون النظام، فيرَون القتل والتشريد جهرةً في الشوارع والميادين؛ فيظنون أن حالهم كان أفضل قبل الثورة؛ فيلعنون الثورة والثوار، ويرجون خبزهم وسلامتهم الجسدية البحتة.
وحدث كل هذا لأنهم فقدوا القائد الذي يوضِّح لهم حقيقة قضيتهم؛ وهي أن ذلك النظام فاسد بقيمه ليس بأشخاصه، وأن تلك السلوكيات البشعة ماهي إلا انبثاق طبيعي جدًا من قيم بشعة لا تعرف الحق ولا الدين. وأن الثورة تكون بتغيير تلك القيم، وليس الأشخاص. فتكون المفاصلة واضحة عند الجماهير: مفاصلة بين الحق والباطل، وبين الحق وتمييعه والتفاوض فيه خصوصًا.
ولكن ما دخل كل ذلك بالإسلام؟
إنه بالوصف السابق للثورة يمكننا القول بأن الإسلام ذاته كان ثورة!؛ ثورة على الجاهلية بكل قيمها الباطلة، ومفاصلة واضحة وحزم واضح من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين الحق الذي بُعِث به، وبين التفاوض فيه أو التخلّي عنه.
فنجده يعلّمنا درسًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ويقول:” والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر؛ ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.” ولم يكن “هذا الأمر” سلوكًا كتحريم شرب الخمر، أو الزنا! وإنما كان كلمة تنبثق منها كل قيم الإسلام تبعًا لها، وهي كلمة التوحيد “لا إله إلا الله”.
تلك الكلمة التي صنعت جيل الصحابة وتابعيهم، والتي نرجو أن تصنع جيلنا ومن يلينا كذلك؛ حتى تكون الخلافة (وعد الله -عز وجل- لمن فعل ذلك)، كما كانت لهم -رضوان الله عليهم- الخلافة من قبل.