
في تناقض القراءة العلمانية للهوية المتخيلة – حنبعل نموذجًا
كانت الأمة قبل تقسيمها مترامية الأطراف على ثلاثة قارات كاملة، جزء منها في إفريقيا، والآخر في آسيا، والآخر في شمال البحر الأبيض المتوسط في أوروبا، وكان مكونها الأساسي الجامع ومركز هويتها هو الإسلام، ثم صعدت النبرة القومية تزامنًا مع المشروع التقسيمي فحوّلتها الخرائط الاستعمارية إلى مقاطعات محددة الحدود رسمها فرنسي وبريطاني فيما يعرف باتفاقية “سايكس – بيكو”.
وككل تجمع بشري لا بد لكي تتأسس عليه دولة أن يكون له إثنية جامعة للشعب أو هوية، وبما أن الهوية الأصلية تمثل العنصر الأساسي لوحدة جماهير كل هذه الرقعة الجغرافية مترامية الأطراف، كان لا بد من صناعة وانتحال هويات متخيلة لكل مقاطعة جغرافية جديدة، ثم يقع -عن طريق التعليم- تأسيس عالم أفكار سكان كل مقاطعة على تبني وتشرب الهوية المتخيلة المصطنعة.
الهوية المتخيلة كبديل عن الهوية الأصلية

وبطبيعة الحال لا بد أن تكون الهوية المتخيلة مضادة للهوية الأصلية، وإلا لهدمت الأصلية المشاريع الاستعمارية من أساسها.
فإذا كانت الدول الجديدة مبنية على مبدأ العلمانية (فصل الدين عن السلطة والمجال العام في بعض المقاطعات، وفصله حتى عن المجال الخاص في مقاطعات أخرى علمانيتها أكثر تطرفًا) فقد استخرجت العلمانية، من تاريخ ما قبل الهوية الأصلية الجامعة، رموزًا وأحداثًا تاريخية وقرأتها كهوية متخيلة جديدة؛ بنية مشاكسة الهوية الأصلية والحلول محلها، وبنية صنع التقارب مع هوية الحضارة الغالبة.
فوقع بالتالي استخراج المكون الفرعوني كهوية متخيلة في مصر، والمكون القرطاجني في تونس، وهكذا،… بل عما قريب -لا قدر الله- ستُستخرج أصنام الجاهلية في بلاد الحرمين وتُقدم كمكون لهوية متخيلة كما يحدث مع العزى.1
لكننا نلاحظ التناقض في القراءة العلمانية للهوية المتخيلة، تناقضًا في أساس استخراجها ثم في طريقة توظيفها العلماني.
وكمثال فإن الفطرة السوية تكره بطبيعتها الظلم والبطش والطغيان والاستبداد الذي كان يمثلهم الفراعنة والنظام الفرعوني أشد تمثيل، بل إن الأهرامات إذا فكرنا فيها وظيفيًا سنجد أنها رمز عالميٌ لطغيان البشر واستعباد الناس، فقد قُتل آلاف البشر من المستضعفين في رحلة بناء قبور السادة المتألهين الذين كانوا يستبدون الشعب عن طريق الخرافة والدجل والسحرة، فالأهرامات درس في الطغيان لمن سلمت فطرته، لكن القراءة العلمانية “المتحررة” تمجد الأسياد وتدعو لاحترامهم، في الوقت الذي تغيب قصة التحرير الكبرى، التي قادها بطلان واجها نظام الحكم الفرعوني برمته وتغلبا عليه، فهل كان السؤال الذي لا بد أن يشغل الناس هو كيف بُنيت الاهرامات، أم لماذا بُنيت الأهرامات وماذا تمثل في عالم القيم؟
حتى رحلات السياحة لا يشير الدليل فيها عادة مجرد الإشارة لمقبرة المستضعفين التي تحاذي الأهرامات، تلك المقبرة المطمورة التي دُفن فيها ضحايا الشقاء وضحايا العذاب، الذين تلفظت جلودهم سياط السادة في رحلة نقل الحجارة حتى فاضت أرواحهم، لبناء قبور آلهة الوهم.
حنبعل في المخيال العلماني
لقد حدث هذا في تونس كما حدث في كل بقية المقاطعات، استخراج هوية متخيلة كبديل عن الهوية الأصلية لصنع مكون إثني يخلق روح وطنية جديدة، لكن التأسيس العلماني بُنِيَ من البداية على أساس تقاربي مع الحضارة العلمانية الغربية أثناء وبعد الاستعمار المباشر، أو ما يمكن تسميته بالقراءة التاريخية المبرر للحضارة الغالبة، ومن هذا المنظور وقع قراءة سردية الهوية المتخيلة والتاريخ القديم، إنهم قدموا لنا رموزَ وأحداثَ ما قبل الإسلام على أنها خيط واصل للتقارب مع أوروبا ونماذجها وفرنسا بالأساس، ولا غرابة في هذا إذا علمنا بأن الفرنكوفونية هي دين بعض علمانيي المستعمرات الفرنسية، خاصة في تونس.
فإذا كانت -ولا زالت- الحضارة الرومانية الوثنية هي مكون الهوية الغربية عمومًا والمعاصرة، فما هو موقف حنبعل من روما؟
حنبعل “إرهابي” في عين الحضارة الرومانية!

«ولد حنبعل بقرطاجنة سنة 247 ق.م، وانخرط منذ نعومة أظافره في الجند تحت راية أبيه عملقار»،2 وقد كان متحفزًا منذ صغره للعداء للرومان، إذ أقسم في عمر التاسعة بمعية والده داخل معبد وثني على تكريس بقية حياته في محاولة تدمير روما.
ومع بلوغه العشرينات أصبح قائد جيش قرطاجنة بعد اغتيال أبيه عملقار برقة، وكانت بداياته العسكرية في حربه ضد الرومان عندما فرض حصارًا قاسيًا على مدينة ساغنتوم الإسبانية حليفة روما حتى أسقطها بعد استيلائه عليها وعلى أهلها.
ثم سار مسافة 2400 كلم مدة أربعة أشهر؛ لمحاولة الالتفاف البري واجتياح روما، قطع خلالها سلسلة جبال الألب التي كان الرومان يسمونها “سور روما”، عبر حنبعل تلك الجبال الصخرية الجليدية شديدة الارتفاع وهلك خلال عبوره آلاف من جيشه، واستطاع بعد رحلة قاسية ودامية تحويل المعركة إلى قلب أراضي أعدائه.
وفي معركة كاناي سنة 216 ق.م، أحكم حنبعل خطة الحرب رغم أن عدد جنوده لا يقارن بالجنود الذين حشدهم الرومان، لكنه استطاع التمويه بإنشاء خط جنود على شكل هلال واستدرج خصومه بعدد من الجنود غير المتمرسين الذين توسطوا الهلال، وتقدم الرومان للفخ في الوقت الذي يلتف بقية جنود حنبعل المتمرسين يمنة ويسرة فيحاصروا أعداءهم من الجهات الثلاثة، ثم تدخلت فرقة المشاة لتحكم الحصار ليأتي بعدها الخيالة ويطبقوا الدائرة وتحدث المقتلة في الجيش الروماني، يروي المؤرخون أنه قد سال في معركة كاناي 30 ألف غالون من الدماء من القتلى الذين بلغوا 70% من العدد الكلي، ولا زال مسرح المعركة يُسمى إلى يومنا هذا بـ”كامبو دي سانغي campo di sangue” أي ميدان الدماء.
بقيت خطة حنبعل هذه درسًا في استراتيجيات الحروب، وقد استفاد الجنرال الأمريكي “شوارزكوف” بتطبيق تكتيك معركة كاناي في حرب عاصفة الصحراء.

تهديد حنبعل لنموذج الجمهورية الرومانية بالزوال
كاد حنبعل أن يحطم نموذج الجمهورية فقد قتل خلال الحروب البونية خاصة بعد معركة كاناي ثُلثي مجلس الحكم، وهزم حنبعل جيوش روما ثلاث مرات على أرضهم، لكن روما لم تعترف لحنبعل بفوزه ولا أقرت بالهزيمة.
وبقي حنبعل في روما ما يقارب 16 عامًا لكنه عاد عندما شن قائد روماني يدعى “سكيبيو الإفريقي” هجومه على قرطاج؛ ليطبق نفس تكتيك حنبعل بتحويل المعركة إلى قلب أرض العدو، وحدثت المعركة على سهول زاما شمال إفريقيا، وقد كان سكيبيو من الناجين من معركة كاناي فقد اختزن ثأره الخاص مع حنبعل وجنوده، وأدت المعركة إلى انهزام جيش حنبعل الذي فر بعدها.
ثم جاءت الحرب البونية الثالثة على شكل حملة رومانية على قرطاج، حاصروا خلالها المدينة وجَوّعوا أهلها، ثم اجتاحوها ودمروا كل ما فيها بطريقة وحشية، استعبدوا السكان من قرطاجيين أو بربر.
إن العقلية الرومانية لا تسمح بالتعايش السلمي مع غيرها من الأمم، إلا إذا كان الرومان هم المهيمنين والمستعبدين لغيرهم، وإلا بفرض نموذجهم في الحياة والحكم وحتى العمران؛ لذلك دمروا مدينة قرطاج عن بكرة أبيها، وبنو قرطاج الرومانية.
قرطاج العلمانية غير قرطاجية!
تبين مما سبق أن قرطاج الموجودة الآن، والتي تمثل مرتكز الهوية المتخيلة لدى العلمانيين، ليست قرطاج حنبعل، التي هدمها الرومان وأعادوا بناء مدينة رومانية لا تمت بصلة إلى القرطاجيين، نقف هنا لقراءة الأحداث عبر دلالاتها، فإذا كان العلمانيون يحتفون بقرطاج، فالأصل أنهم يحتفون بأصلها الذي بناه القرطاجيون، ويعتبرون أن قرطاج الرومانية هي رمز للعداء الروماني القديم لهذه البلاد، لكن الحاصل أنهم يستعملون قرطاج الرومانية كوسيلة تقارب مع الحضارة الغربية ونماذجها المعاصرة.
في نفس الوقت الذي يستخرجون فيه حنبعل كنموذج تاريخي داخل الهوية المتخيلة، حنبعل الذي عاش ومات في محاولة تحطيم الوجود والتمدد الروماني وكاد أن يحطم نموذجهم في الحكم، الذي يعتبره العلمانيون اليوم نموذج رسمي للبلاد، ما يبين كمية التناقضات في هوية العلمانيين المتخيلة.
انتقائية القراءة التاريخية في الهوية المتخيلة
تم استخراج حنبعل كرمز في الهوية المتخيلة، لكن مع إغفال حقيقة معركته مع الرومان، ووقع تأسيس الهوية على قرطاج حنبعل، مع كونها مدينة رومانية بناها هؤلاء بعد هزيمة حنبعل و اجتياحهم وتدميرهم لقرطاج القرطاجية، لكننا نتساءل لماذا لم تعتبر الهوية المتخيلة العلمانية فترة الوندال مثلًا، الذين استولوا على إفريقية وعلى قرطاج وطردوا الرومان منها؟ لماذا لا يعتبر العلمانيون الوندال كمكون للهوية الوهمية المتخيلة؟ لعل الاجابة تكمن في أصل التناقض الذي مر علينا، وهو أن هذه الهوية المتخيلة صُنعت أصلًا لإيجاد تقارب مع الغرب المعاصر الذي تعود أصول فلسفته إلى روما الوثنية.
لكن الأغرب من كل هذا هو قفزهم في مسار التاريخ على فترة من 1300 سنة من تاريخ الإسلام تمتد معالمها إلى اليوم، التحرير الذي أسس عمليًا وحدة الفكر والعقيدة والحركة والحضارة بما لا يمكن مقارنته بما قبله.
البربر والفتح الإسلامي

إذا عدنا الى موقف كل فترة من البربر السكان الأصليين، سنجد أنهم كانوا في عهد قرطاجة درجة ثانية لا يرى لهم القرطاجيون حقوقًا أو اعتبارًا، وكانوا يشاركون في حروب قرطاج لكن بصفة المرتزقة، وكان ذلك من أهم أسباب عدم تماسك الفرق الحربية للعسكر القرطاجي، فلم يشعر البربر بعصبية وطنية في علاقتهم مع الفينيقيين بل بالعكس، كثيرًا ما كانوا يعينون الرومان على الانقلاب على قرطاجة.
وعندما استولى الرومان على قرطاجة، أسسوا حكمًا مشابهًا لنظام الوصاية الذي أسسه الفرنسيون في تونس إثر احتلالها، فقد كان البربر مجرد تبع يعملون في الأراضي التي فتكها وأمّمها الرومان والمزارع التي اغتصبوها من أهلها.
ثم جاء الوندال ودحروا الرومان، لكن سرعان ما عاد البيزنطيون وأعادوا الاستيلاء على إفريقية ليؤسسوا الحكم البيزنطي.
وفي كل هذه المراحل لم يشعر البربر بأن عقائد وديانات وأفكار الغزاة يمكن أن تتحول عندهم إلى عصبية وطنية؛ تُحركهم وتحفظ لهم حقوقًا أو كرامة، حتى جاء الفتح الإسلامي.
لقد قاوم البربر الفتح في البداية، لكن سرعان ما أتيحت لهم فرصة التعرف على عقائد وشرائع هؤلاء الفاتحين، ومنذ بداية الفتح سعى المسلمون إلى بناء مؤسسات علمية تُعرّف بالدين الجديد، وتُشرك من يسلم من البربر في المهام الحيوية للمجتمع، وينتج لأول مرة شعور جارف بأهلية هذه العقيدة وقوانينها بأن تُتّبع.
وبالفعل، ما لبث الزمن إلا قليلًا، حتى خرجت النماذج المشرقة من البربر وحملوا رسالة هذا الدين وأصبحوا في الصفوف الأولى في جيوش الفتح، وأصبح لهم دور الفاعل في مقابل ما عاشوه طيلة دهور في خانة المفعول بهم، لقد أصبح لهم روح جامعة وشرائع؛ تسقط الفوارق العرقية واللغوية بينهم وبين غيرهم، لقد أصبح لهم حرية، أصبحت لهم هوية.
المصادر
- السعودية تروج لصنم العزى في متحف العلا في المدينة المنورة ↩︎
- خلاصة تاريخ تونس.. حسن حسني عبد الوهاب ص23 ↩︎