عماد الدين زنكي.. محرر الرها من الصليبيين
عندما يحيا الإنسان لهدف ما يجعله نصب عينيه بحيث لا يرى غيره ولا يعمل إلا لتحقيقه ولا يفكر في سواه، يدندن حوله ليل نهار، يسعى للوصول إليه بكل السبل، فإن هذا الإنسان مهما كان حاله يستحق الإعجاب والثناء والتقدير، كيف إذا كان هذا الهدف هو الدفاع عن الأمة الإسلامية وإنقاذ المقدسات الأسيرة وتحرير الأراضي المحتلة، كيف وإذا كان الساعي لتحقيق هذا الهدف السامي هو أول من سعى لتحقيقه؟ وكيف إذا كان معظم من حوله أو حتى كلهم يعمل ضده ويعيقه في هذا السعي الحميد؟ فهو كالمغرّد والطائر وحده في سماء مليئة بالغيوم والكواسر، وبطلنا الذي سنسرد سيرته هو رائد الجهاد الإسلامي ضد الوجود الصليبي بالشام بعد أن ظن الجميع أنهم لن يخرجوا أبدًا من بلاد الإسلام، هذا البطل الذي كسر أسطورة الصليبيين.
نجح الفرنجة في تأسيس المملكة الصليبية الرابعة وهي طرابلس في 11 من ذي الحجة 503هـ / 12 من يوليو 1109م بعد حصارٍ دام سبعة أعوام، وكانت الصدمة عنيفةً على المسلمين في أقطار الأرض، وأصابت العديدين بالإحباط واليأس، إلا أن هذه الأمَّة التي لا ينقطع خيرها ما لبثت أن أخرجت بطلًا ظهر على مسرح الأحداث مجاهدًا في سبيل الله، ساعيًا إلى توحيد الكلمة كان هذا البطل هو: عماد الدين زنكي بن آق سُنْقُر أمير الموصل.
من هو عماد الدين زنكي؟
هو عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله، رائد الجهاد الإسلامي ضدَّ الوجود الصليبي بالشام؛ هو الملك المنصور عماد الدين قائد عسكري وحاكم مسلم، تركي الأصل، حكم أجزاءً من بلاد الشام وحارب الصليبيين، كان شديد الهيبة، عظيم السياسة، يحمي الضعفاء، ويخافه الأقوياء، عمر البلاد وكانت قبله خرابًا، وأشاع الأمن وقطع دابر اللصوص، وكان الناس في زمانه بأنعم عيش.
كان من النتائج الطيبة للاهتمام الوزير العظيم ‘نظام الملك’ بالعلم والمدارس وأهل الصلاح، خلال وزارته لسلاطين السلاجقة ألب أرسلان وولده ملكشاه وحرصه على استعمال الأكفاء وأصحاب الديانة في المناصب الهامة والقيادية، فقد سطع نجم العديد من الرجال والأبطال على مستوى عالٍ من الكفاءة والمسئولية، وكان لهم الأثر العظيم في حفظ بلاد الإسلام، من هؤلاء القائد آق سنقر بن عبد الله التركي الملقب بـ”قسيم الدولة” وكانت له مكانة عظيمة عند السلطان ملكشاه السلجوقي، حتى أنه قد جعله واليًا على حلب، وقد قتل هذا القائد في دفاعه عن الدولة السلجوقية ضد الخارجين عليها ولم يترك وراءه سوى ولد صغير في العاشرة من العمر، هو بطلنا الفذ ورائد الجهاد ضد الصليبيين عماد الدين زنكي.
تولى الأمير كربوقا أمير الموصل تربية عماد الدين زنكي، وترقى في سلك الجندية حتى صار مقدم عساكر مدينة واسط ثم ظهرت كفاءته القتالية في قتاله مع الخليفة العباسي المسترشد بالله ضد دبيس بن صدقه، مما أدى إلى ترقيته قائد شحنة بغداد، وحصل على لقب “الأتابك” أي: مربي الأمير، وعهد إليه بتربية ولديه ألب أرسلان وفروخ شاه من قيادة إلى ولاية، وبعد أن أصبح عماد الدين زنكي قائدًا، حدث تغيُّر كبير في مجرى الأحداث في منطقة الشام الملتهبة؛ حيث تُوُفِّيَ أمير الموصل عز الدين مسعود، وحاول بعض المنتفعين تولية ولده الصغير مكانه، ولكنَّ قاضي الموصل بهاء الدين الشهرزوري ذهب إلى السلطان محمود وطلب منه تعين أمير قوي وكُفْء للموصل، التي على حدود الشام، حيث الوجود الصليبي الكثيف في سواحل الشام منذُ ثلاثين سنة، والذي أسفر عن قيام أربع ممالك صليبية (أنطاكية ـ الرها ـ طرابلس ـ بيت المقدس) في الشام، هذا غير سيطرة الصليبيين على أغلب بلاد الشام.
وبعد تفكير سريع وإمعان نظرٍ عميقٍ، قرَّر السلطان محمود أن يُسند ولاية الموصل وأعمالها إلى بطلنا عماد الدين زنكي، الذي لم يجد السلطانُ محمود أفضل منه لهذه المهمَّة، وكانت هذه الولاية سنة (521هـ / 1127م)، وكان هذا التاريخ إيذانًا بعهد جديد في الصراع ضد الصليبيين وفاتحة خير على الأُمَّة كلها.
عماد الدين زنكي وبناء القاعدة الصلبة
بدأ عماد الدين زنكي بمدينة حلب المهمَّة في المنطقة الشمالية من بلاد الشام ولم يكن ضمُّه لمدينة حلب بالشيء السهل؛ فلقد ظلَّ محاصرًا لها عدَّة شهور قبل فتحها، وكان عليها بعض الطامعين المتغلِّبِينَ، ثم قام بعدها بضمِّ مدينة حماة ثم حصن الأثارب وكان بيد الصليبيين، ثم انشغل عماد الدين زنكي بالخلافات العنيفة بين الخليفة المسترشد والسلطان مسعود؛ بل تورَّط فيها؛ وذلك لعدَّة سنوات، ثم عاد بعدها إلى هدفه الأسمى، فضمَّ عدَّة قلاع للأكراد الحميدية والهكارية وقلعة الصور، وواصل سعيه حتى استقامت له ديار بكر وإقليم الجبال، وقد حاول زنكي ضمَّ دمشق ولكنه فشل، وبقيت خارج سلطته، وبقي يُخَطِّط ويُفَكِّر في كيفية الوصول إلى دمشق.
زنكي أسد الشام
بعد أن تمَّ لعماد الدين زنكي معظم ما أراد من تكوين القاعدة الصلبة، بدأ في العمل الحقيقي والجهاد الأصيل ضدَّ أعداء الأُمَّة المحتلِّين لمقدساتها، وكان الصليبيون قبل مجيء عماد الدين زنكي يُخَطِّطُون للاستيلاء على أرض الشام وسورية كلها، ثم مصر بعدها، فلمَّا جاء أسد الشام الجديد، صار غاية سعيهم الحفاظ على ما تحت أيديهم.
ولما ازدادت قوَّة عماد الدين زنكي في حلب، وثقلت وطأته على الصليبيين في الشام، فكَّرُوا في الاستعانة بإمبراطور القسطنطينية عمانوئيل، ورغم الاختلاف المذهبي بينهم؛ فهم كاثوليك وهو أرثوذكسي، فإنهم في النهاية صليبيون فوافق عمانوئيل على نجدتهم.
أصبحت بلاد الشام في موقف حرج بالغ الخطورة؛ فإمبراطور بيزنطة عمانوئيل جاءها بجيوش جرارة واخترق آسيا الصغرى، ولم يقدر أحد من سلاجقة الروم على إيقافه، ودخل إلى سورية بعد أن استولى على مدينة بزاعة؛ وهي قريبة من حلب، فغدر بأهلها بعد أن أعطاهم الأمان؛ فقتلهم وسبى نساءهم، وهنا وقعت المنطقة بين مطرقة إمبراطور بيزنطة وسندان الصليبيين الفرنجة بالشام، وهنا برز رجل المهامِّ الصعبة.
قرَّر عماد الدين زنكي العمل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: مناوشة إمبراطور بيزنطة بشنِّ حرب عصابات على معسكره باستخدام المجاهدين المتطوعين في الشام ضدَّ الأعداء بالكرِّ والفرِّ، وإظهار القوَّة والشجاعة، وإرسال رسائل تهديدٍ ووعيدٍ لهذا الإمبراطور؛ وهذا على الرغم من الفارق الضخم بين القوَّتين، وذلك من أجل إرهاب البيزنطيين ومنعهم من التقدُّم.
الاتجاه الثاني: إيقاع الخلاف بين البيزنطيين والفرنجة؛ فلقد كان عماد الدين زنكي من دواهي العصر ذكاءً وفطنةً وحدَّة بصيرة، فلقد استغلَّ الخلاف المذهبي بين الأرثوذكس والكاثوليك للتفريق بينهما، فأرسل إلى إمبراطور بيزنطة يُخَوِّفُه من نكصان الفرنجة للعهود وأنهم يتربَّصُون به، فإن فارق مكانه الذي فيه «قلعة شيزر» بالقرب من حماة سيتخلَّفُون عن نصرته.
ثم أرسل إلى الصليبيين الفرنجة يُخَوِّفُهم من إمبراطور بيزنطة، ويقول لهم: «إنْ مَلَكَ بالشام حصنًا واحدًا ملك بلادكم جميعًا» ونجحت خطَّة عماد الدين زنكي؛ ووقع الخلاف بين الطرفين، وانسحب الإمبراطور من الشام، وترك المجانيق وأسلحة كثيرة بحالتها؛ حيث غنمها جيش الشام، وحرَّرُوا أسرى المسلمين، وارتفعت مكانة عماد الدين بين المسلمين، وعظمت هيبته في صدور الصليبيين، وأثبت للجميع أنه رجل المهامِّ الصعبة، وقد حاول بعدها فتح دمشق؛ ولكنه فشل لحصانتها وقوَّة حاكمها معين الدين أنر، فلم يستطع عماد الدين تحقيق حُلْمه في أهمِّ مدن الشرق.
العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها
هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرها، منها:
1- تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد أجهدها أمر الغارات المستمرة من جانب أتابكة الموصل على نحو خاص طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتًا بطيئًا لها إلى أن تم الإجهاز عليها.
2- براعة عماد الدين زنكي العسكرية، حيث فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم، فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد المسلم الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم.
3- الخلاف الواقع بين إمارتي الرها وأنطاكية أثر بدوره على إمارة الرها، وأدى إلى إجهادها واستهلاكها سياسيًا وعسكريًا، على نحو أثبت أن الخلافات التي كانت تحدث بين القيادات الصليبية أثرت بدورها على كياناتهم السياسية وها هي – لحسن الحظ – إمارة الرها تدفع الثمن بأن سقطت في قبضة من استحقها من قادة الجهاد الإسلامي في ذلك الحين.
4- شخصية أمير الرها جوسلين الثاني، الذي لم يكن على نفس القدر من الكفاءة السياسية والعسكرية التي اتصف بها والده جوسلين الأول، وكان أميل إلى حياة الخلاعة والمجون والسعي الحثيث إلى الملذات، بل إن كثيرًا ما غادر مدينة الرها ذاتها واتجه إلى تل باشر من أجل أن يجد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد، ولذلك أدرك فيه المسلمون تلك الزاوية فأحسن قائدهم الإفادة منها وهاجم الرها وقت أن غاب عنها جوسلين الثاني، فأصابها في مقتل.
5- الجيل الصليبي الذي حل بعد الجيل الأول الذي أسس الكيان الصليبي وحافظ عليه، لم يكن قادرًا على الحفاظ على ما شيده السابقون، بل لم يكن يدرك أهمية دوره التاريخي في ذلك الموقع.
فتح الرها
لقد كان لفتح الرها صدًى شديدًا في العالمين الإسلامي والصليبي؛ فلقد كان أعظم انتصار حقَّقه المسلمون على الصليبيين منذُ دخولهم الشام، وأعاد ذاكرة الانتصارات لهم، أمَّا الصليبيون فقد نزلت بهم أعظم المصائب، وفقدوا أهم إمارة صليبية لهم بالمنطقة، ولقد قاموا بحملتهم الصليبية الثانية على الشام لاسترجاع الإمارة، ولكنهم فشلوا.
استشهاد عماد الدين زنكي
بعد الانتصار في الرها ضاقت السبل على أعداء الإسلام، وأصبح كيانهم الصليبي بالشام -والذي بنَوْهُ في خمسين سنة- في خطر حقيقي في ظلِّ وجود هذا الأسد الرابض، وبعد أن أعيتهم الحيل في ميادين القتال، وصار ينتصر الأسد عليهم في كل موطن من سورية، قَرَّرُوا اللجوء إلى سلاح الغدر والخيانة، والأيدي القذرة التي لا تعمل إلَّا في الظلام.
فكَّر الصليبيون في كيفية التخلُّص من عماد الدين زنكي، وبعد تفكير وتقليب فيمَنْ سيقوم بهذه المهمَّة؛ قرَّرُوا إسناد مهمَّة الاغتيال إلى جماعة معروفة بذلك، وبالفعل وأثناء قيام عماد الدين زنكي بحصار قلعة جعبر المطلَّة على نهر الفرات، قامت مجموعة من الباطنية بالاتفاق مع الصليبيين -بعد أن قبضوا الثمن- بالتسلُّل إلى معسكر عماد الدين زنكي، واندسوا بين حُرَّاسه، وفي الليل دخلوا عليه خيمته وهو نائم وقتلوه، تُوُفِّيَ عن 64 عامًا، ودُفن بصفين، وخَلَفَهُ ابنه سيف الدين غازي في الموصل، وخَلَفَهُ ابنه نور الدين محمود في حلب ثم في دمشق.
وهكذا مات البطل وترجَّل الفارس وحطَّ الراكب بعد حياة طويلة كلّها جهاد، وكفاح، ونصرة للإسلام، وأهله. وبعد أن أحيا ما كان مندثرًا وأعاد ما كان مفقودًا، ووضع الأساس المتين لمَنْ جاء بعده، فرحمه الله رحمة واسعة، وغفر له ما كان من خطايا وزلات.
المصادر
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار المعرفة بيروت لبنان، 8/ 663- 664.
- ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر طليمات، القاهرة 1963م، ص 66.
- قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، الإيديولوجية، الدوافع، النتائج، ذات السلاسل الكويت الطبعة الثانية 1993م، ص112، 113.
- محمد سهيل طقّوس: تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، دار النفائس بيروت لبنان الطبعة الأولى 1419هـ – 1999م، ص 149.
- علي الصلابي: عصر الدولة الزنكية، الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007م، ص132- 139.
- علي الصلابي: السلطان الشهيد عماد الدين زنكي شخصيته وعصره، الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007م، ص123- 130.
- راغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية، مؤسسة اقرأ، الطبعة الثانية يناير 2009م، ص479- 508.
- امر بدر: قادة لا تنسى، الناشر: دار أقلام للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1433هـ/ 2012م.