لا أحب القراءة إطلاقًا!

أندهش كثيرًا عندما أجد الكثير ممن كانوا يقولون إنهم لا يحبون القراءة، صاروا الآن من المدمنين الذين يقتطعون أوقاتًا من نومهم لمجرد القراءة! بل وأندهش أكثر من نفسي عندما كان لا يفارقني هذا الشعور تجاه القراءة إطلاقًا -عدم حبي لها-ولا أتحملها بل أملّ منها، وإذ يتبين لي العكس تمامًا بعد حين.

هل هذا انفصام في الشخصية؟ في الواقع ليس كذلك، بل هو ليس إلا تشخيص خاطئ لحالٍ يعيشها الكثير منا، فيقوم الشخص بإلباس عجزه عباءة الحكمة ويخبرك أن المشكلة في شخصيته، أو أنه ليس من محبي القراءة، أو أنه مجتهد في مجال دراسته أو عمله بحيث لا يجد وقتًا للقراءة.

هل السبب حقًا هو ضيق الوقت؟!

والواقع أن هذه المشكلة أصبحت من أكبر مشاكل هذه الأمة في الوقت الحالي حيث صرنا جيلًا ينفر من القراءة ولا يطيقها، وبالطبع ليس بسبب ضيق الوقت، فالكثير منا يقضي الساعات ممسكًا جواله متنقلًا من صفحة إلى أخرى ومن موقع تواصل اجتماعي إلى آخر، بينما لا يمكنه أن يفتح كتابًا لنصف ساعة، أو على الأقل لا يتحمل أن يبحث عن مسألة مهمة بالنسبة له في كتاب أو عن حكم شرعي، بل يهرول إلى شخصٍ آخر ليسأله، ليختصر هذه المهمة التي لا يطيقها.

http://gty.im/500229017

أسباب نفور الشباب من القراءة

وعندما تتبعت أسباب هذه المشكلة وجدت أن هذا غالباً يكون تحت تأثير تجربتين فاشلتين مر معظمنا بهما أو بأحدهما.

  • أثر التجربة الدراسية

لا شك أنك ستكره القراءة إذا كان أول كتاب تقرأه بمثابة فرض عليك، أو كان كتابٌ خالي من متعة، أو لم تكن تدري ما الهدف منه سوى أنك يجب أن تنهيه، بل تحفظه، فما بالك فيمن تجمعت عليه هذه الأشياء في تجربته الأولى للقراءة؟! والمفاجئة أننا جميعًا بلا استثناء كنا ضحايا هذه التجربة حيث كانت البداية كتاب مدرسي!

  • عدم اختيار الكتاب المناسب

والتجربة الثانية والتي غالبًا مر الكثير منا بها وهي تجربة أول كتاب -غير الكتب الدراسية بالطبع- والتي تكون غير موفقة أيضًا لأننا فقط نقوم بالشروع في قراءة كتاب بمجرد رؤيته مع أحد الأشخاص، أو أثنى عليه شخصٌ ما، بدون أن ندري ما الهدف من قراءة هذا الكتاب؟ وما موضوعه؟ وهل أنا حقًا مهتم بهذا الموضوع أم أنه ليس من اهتماماتي؟ فنكون كمن قفز في مسبح وهو لا يعرف السباحة، بل يريد فقط أن يعيش التجربة.

هاتان التجربتان وما شابههما كفيلتان بأن يصيباك بمرض “الكتابوفوبيا” الذي أصبح منتشرًا ومتفشيًا في وطننا العربي.

حسنًا، وما المشكلة في ذلك؟

المشكلة ستكون بعد اكتشافك أنك تفوِّت الكثير، فيروي الخطيب البغدادي عن الجاحظ: أنه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، حتى أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب، والخطيب البغدادي نفسه كان لا يمشي إلا وفي يديه كتاب يطالعه، ولا أحب أن أكثر من ذكر الأمثلة لأن ما أريد توضيحه هو أن مثل هؤلاء الأئمة والعلماء وغيرهم لم يفعلوا ذلك عبثًا ولا فراغًا أو سعة وقت، وإنما فعلوه بعد اكتشافهم أهمية القراءة والمطالعة. فالقراءة تحفِّز الذهن وتحسن القدرات العقلية وتحد من التوتر، ولا أشك أنك سمعت هذا سابقًا مرارًا.

ولكن هل سمعت من قبل عن العلاج بالقراءة؟

فهو نمط من العلاج النفسي يطلق عليه اسم «الببليوثرابيا»، حيث يتم انتخاب مواد قرائية كوسائل علاجية مساعدة، وكذلك يستخدم في حل المشاكل الشخصية، فالعقاقير الطبية والمسكنات لم تعد في بعض الحالات ذات جدوى في علاج الأمراض، ما يستوجب مخاطبة العقل والروح بطريقة تجعل المرء يستعيد توازنه وهدوءه وراحته من جديد وتحفيزه إيجابيًا، حتى يستطيع أن يكون على قدر من القوة والشجاعة لمواجهة مشاكله.

ومنها أيضًا تعزيز المعرفة والثقافة التي أصبحنا نفتقدها، وبالتالي يصبح الإنسان أكثر دراية بما يحدث حوله، ويعرف عن حضارته وتاريخه ولغته، فلا يكون فارغًا من الداخل، فالشيخ  محمود شاكر رحمه الله يقول: “المسلم ينبغي أن يعرف كل شيء عن العالم”.

ولكن الأهم من ذلك كله في وجهة نظري لأنه حدث لي بالفعل هو أن تنتظر مفاجئتك الخاصة، فلكل منّا مفاجئة صُنعت خصيصًا له تنتظره في كتاب ما، لا يدري أهو التالي أم الذي بعده، فلا أكون مبالغًا إن قلت إن كتابًا يمكنه أن يكون السبب في أن تنقلب حياتك رأسًا على عقب، بتحويل مسار طريقة فهمك للأمور وما يترتب عليه، أو تغيير جذري في شخصيتك وبالتالي معاملاتك مع الناس، أو غير ذلك، فلا تحرم نفسك من هذا أو ذاك .

كيف أحب القراءة؟

ولكن لكي تحصّل هذا وتبدأ مسيرتك في القراءة تحتاج أولًا أن تعالج المشكلة التي علقت بأذهاننا، فلا تجعل أي صلة بين ما أنت مقدم على قراءته وبين تجربتك السابقة، واجعل نيتك صالحة، فأنت تقرأ لتنتفع وتنفع، حتى يعينك الله بالوقت، فيقول ابن القيم: “وإذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًا جعل وقته عليه “.

ويجب أن تعوّد نفسك أولًا على القراءة، فتقرأ الشيء اليسير المحبب إلى قلبك سواء كانت رواية نافعة أو كتاب رقائق خفيف، حتى تصبح القراءة عندك عاده يسيرة محببة إلى قلبك، وحُسن توزيع كل عمل بما يناسبه من الأوقات شيء مهم، فترقب أوقات السكينة والهدوء والصفاء النفسي، وحاول أن تضيف إلى ذلك الجو النفسي الذي تحبه كالجلوس في مكان به أشجار مع شرب كوب من القهوة مثلًا.

واحذر حماستك أن تجعلك تبدأ بمطولات الكتب للمتقدمين التي ستأخذ جهدك في فهم لغتها، بل ابدأ باليسير كما قلنا سابقًا، ومن أجمل الأشياء أن تجعل في ركن من غرفتك مكتبة صغيرة خاصة بك حتى تُشجعك كلما نظرت إليها على إنجاز الكتاب الذي في يديك والبدء في كتاب جديد على أحد الرفوف.

وأخيرًا إذا شعرت بالملل والفتور من كتاب بعينه حاول الانتقال من كتاب إلى آخر ثم العودة إليه مجددًا، وحاول أن تحيط نفسك بوسط القارئين، فهذا لا شك سيساعدك كثيرا، وفي رأيي أفضل طريقه لذلك أن تقوم بعمل حساب على موقع “goodreads” فسيساعدك على معرفة تقييمات كل كتاب والتعليقات عليه قبل أن تبدأ فيه.

ظنٌ خاطئ

ومن الشائع ظن البعض أن الاقتصار على شيء واحد كالدراسة الجامعية، أو العمل، أو ما شابه، وتكريس الوقت له هو أسمى وأفضل من التشتيت بين المعارف، وهذا ظن خاطئ، فإذا كنت طبييًا مثلا فانظر إلى ابن النفيس الذي كان إمامًا في علم الطب لا يُضاهى في ذلك، وله معرفة بالمنطق وصنف فيه مختصرًا وصنف أيضًا في أصول الفقه، والعربية، والحديث، وعلم البيان، وغير ذلك، وبالرغم من هذه الفنون فلم يكن على وجه الأرض مثله في الطب.

والخلاصة أن ضم القليل إلى القليل مع الدوام عليه، يتكون منه الكثير الهائل العجيب، فابدأ .

محمد خالد مصطفى

باحث ومدوّن، مهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

‫7 تعليقات

  1. كتابة موفقة وبعثت في داخلي شعلة طيبه لان اتحمس وابداء القراءة لكتب كانت نيتي ان أقرأها وقد اخترت الكتاب وانا اقراء
    مقالتك ..
    اسلوب طيب وبسيط وقصير .. (قل ودل )
    أهنئكم ????

  2. فائدة الأولى: فالقراءة تحفِّز الذهن وتحسن القدرات العقلية وتحد من التوتر، ولا أشك أنك سمعت هذا سابقًا مرارًا.
    فائدة الثاني: كلام ابن القيم الجوزيه رحمه الله واسعة وإذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًا جعل وقته عليه.
    فائدة الثالث: فإذا كنت طبييًا مثلا فانظر إلى ابن النفيس الذي كان إمامًا في علم الطب لا يُضاهى في ذلك، وله معرفة بالمنطق وصنف فيه مختصرًا وصنف أيضًا في أصول الفقه، والعربية، والحديث، وعلم البيان، وغير ذلك، وبالرغم من هذه الفنون فلم يكن على وجه الأرض مثله في الطب

  3. أودّ فقط التنويه إلى أنّ الإحصائية المذكورة عن اليونسكو وشبيهاتها غير موثّقة ولا مصدر صحيح لها. أرجو وضع رابط مباشر لتلك المعلومة أو التقرير في حال وجوده: https://fekerology.wordpress.com/2015/03/07/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA-%D8%AF%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%82/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى