خريطة توازن النظام الدولي وكيفية فهم الصراعات – الجزء الثاني
نستكمل الجزء الثاني من سلسلة مقالات: خريطة توازن النظام الدولي وكيفية فهم الصراعات، لنتابع ما بدأناه في الجزء الأول حيث تحدثنا عن: خريطة توازن النظام الدولي وكيفية فهم الصراعات، وخريطة القوى الدولية.
خريطة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط
أولًا: الكيان الصهيوني
تعتبر دولة الكيان الصهيوني مركز قوى رئيسي في منطقتنا لعدة أسباب منها: أنها دولة تمثل حائط الدفاع الأول للنظام الدولي عسكريًا في مواجهة الشعوب والدول الإسلامية، مما يجعل جميع دول العالم سواء الغربية منها أو روسيا والصين والهند تتفق على ضرورة دعم وجودها و أمنها.
فهي دولة ذات موقع استراتيجي في قلب العالم الإسلامي والعربي، مما يجعلها حاجز فصلٍ بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وتمنع التواصل الجغرافي الذي يمثل عمق وقوة تاريخية. كما أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك السلاح النووي، ولا توجد دولة إسلامية تمتلك التقنية النووية سوى باكستان التي تبعد آلاف الكيلومترات، ولديها العديد من المشاكل الكبيرة.
دولة لديها جيش قوي للغاية ربما يكون أقوى جيش لدولة في المنطقة وهو أكثر الجيوش خبرة وتمرُّسًا ويمتلك أفضل الأسلحة التقليدية المتاحة. وبالرغم من صغرها تمتلك نفوذًا كبيرًا في مناطق عدة في العالم بما تقدمه من تقنيات حديثة في مجال الأمن والأسلحة والزراعة، مما أهّلها لمد علاقات مع معظم المناطق في العالم خصوصًا في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
يمثل اللوبي الصهيوني العالمي قوة اقتصادية ومالية كبيرة، مما يعتبر نفوذًا آخر، وذلك داخل الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي ككل. كذلك تمتلك علاقات سياسية قوية تقريبًا مع جميع أنظمة الحكم القائمة في المنطقة، على الرغم من محاولة إبقاء بعض هذه العلاقات بشكل سري أو غير معلن تفاديًا للغضب الشعبي.
السمات التي تمثل ضعفًا استراتيجيًا لا زال الكيان الصهيوني غير قادرة على حلها
أنها دولة محاصرة من جميع الجهات -ما عدا البحر المتوسط- بشعوب معادية لها، بالرغم من صداقة وولاء أنظمة الحكم التي تحكم هذه الشعوب.
قلة عدد السكان وصغر المساحة الذي أدى إلى محدودية التطور الاقتصادي، واتجاه الاقتصاد إلى التقنية كطريق مناسب للظروف.
نسبة الإنفاق من الناتج القومي على التطوير والبحث العلمي عام 2009 لكل دولة
اعتماد الاقتصاد بشكل كبير على عملية التبادل التجاري والتي تتم في غالبيتها عبر البحر المتوسط، وبالطبع فإن أي زعزعة في الأمن أو زيادة احتمالية الخطر يؤثر بشكل مباشر وسريع على الاقتصاد.
عدم قدرة الجيش على خوض حرب شاملة بمعنى استدعاء كامل الاحتياطي الذي يمثل مركز ثقل الجيش الصهيوني لمدة تزيد عن 40 يومًا، بسبب أن نسبة القوات العسكرية هي من 15 إلى 25 في المئة من عدد السكان، مما يؤدي إلى توقف جميع نواحي الحياة في الكيان، ولا تستطيع المساعدات الخارجية إطالة هذه الفترة لمدة ملحوظة.
تعرضت التركيبة السكانية الصلبة للكيان الصهيوني إلى العديد من التغيرات، خصوصًا بعد وفاة معظم جيل المؤسسين، وانقطاع التواصل بين من خاضوا الحروب والصراعات الكبرى الذين لديهم السمات الصلبة والأجيال الجديدة، مما يؤدي الآن إلى ضعف كبير في المستوى البشري عكس السابق وكان هذا من أهم عناصر قوة الكيان.
كل هذه العوامل تجعل قدرة إسرائيل التوسعية محدودة جدًا، أقصى طاقاتها مساحات صغيرة من الأراضي الملاصقة لحدودها، وتنتظر الظروف المناسبة وتفضل التدرج والقيام بذلك على جبهة واحدة فقط.
بعض ملامح السياسة الخارجية للكيان الصهيوني في منطقتنا
الإبقاء على توازن القوى ببقاء الكيان الدولة النووية الوحيدة في المنطقة.
الإبقاء على التفوق في الأسلحة التقليدية للجيش بمسافة كافية من باقي القوى المجاورة.
محاولة إخلاء المنطقة من أي أسلحة ردع يمكن تهديد العمق الاستراتيجي لها بقوة، مثل الصواريخ بعيدة المدى، أو الأسلحة البيولوجية والكيماوية، أو تقنيات بعض الأسلحة، مثل الدفاع الجوي التي تحد من قدرتها الهجومية، خصوصًا في دول المواجهة المباشرة معها.
ضمان الصداقة والولاء مع الأنظمة السياسية في المنطقة وأهمها دول المواجهة، وضمان عدم وجود أنظمة حكم لها عداء حقيقي مع الكيان الصهيوني.
دولة الكيان لها علاقات سياسية مع إيران منذ فضيحة الصواريخ الأمريكية في حرب الخليج الأولى التي مثلت إسرائيل مع بعض العناصر العربية دور الوساطة لتسليح إيران طوال فترة حرب الخليج الأولى، وتعاونت مع إيران ضد نظام صدام حسين، وعلى الرغم من توتر التصريحات المتبادلة مؤخرًا فإنه توجد علاقات تجارية كبيرة بين رجال أعمال صهاينة وإيران، وطائفة يهودية ضخمة في إيران لها كل الحقوق وهي تكاد تكون الأقلية الوحيدة الغير مضطهدة في إيران.
عداء إسرائيل الاستراتيجي الغير قابل للتغيير هو مع الشعوب المسلمة المتمسكة بمبادئ الدين الصحيح؛ لأن هذا هو مصدر الخطر الوجودي الوحيد على الكيان، أما باقي القوى فالعلاقة معها مرتبطة بالمصلحة الوقتية، وتكاد ترتبط بعلاقات سواء أكانت ضعيفة أو قوية مع جميع القوى في المنطقة.
ثانيًا: إيران
أصبحت إيران في الأعوام الأخيرة -خصوصًا بعد حرب الخليج الثالثة وسقوط صدام ثم أحداث الربيع العربي- قوة إقليمية ذات ثقل، وذلك لأسباب كثيرة منها الآتي:
- تطويرها لأنظمة الصواريخ بعيدة المدى، وهو سلاح ردع هام.
- تطويرها لقواتها البحرية المطلة على مضيق هرمز أهم ممرات التجارة العالمية خصوصًا لمصادر الطاقة.
- بناؤها لمفاعلات نووية وسعيها لامتلاك تقنية السلاح النووي.
- استغلالها لنجاح فكرة الثورة وتأثيرها في الشعوب، واستغلالها للأقليات الشيعية وبعض المعجبين بها في العديد من الدول، والقيام بتنظيمهم وقيادتهم وتدريبهم سياسيًا وعسكريًا، وترسيخ مذهب ولاية الفقيه،وتحويلهم لقوى تابعة للدولة الفارسية الكبرى المأمولة، مع الظهور بمظهر المعارضة السياسية أو العسكرية في دولهم.
انتهجت الاستراتيجية التدريجية طويلة المدى في البناء والدعم، مع انتظار الظروف المناسبة محليًا وإقليميًا للتحرك والحصول على المكاسب مما مكنها من صناعة أذرع لها ونواة لمشروع دولتها المأمولة في العديد من دول المنطقة مثل:
- حزب الله في لبنان النموذج الأمثل الذي تقوم بمحاولة تكراره.
- الميليشيات الشيعية المتعددة في العراق.
- جماعة أنصار الله أو الحوثي في اليمن.
- مجموعات جديدة في سوريا متمركزة في حلب وحماة ودمشق، مع محاولة تشييع الطائفة العلوية.
- جماعات ضغط صغيرة في البحرين والكويت والسعودية.
- تنظيم مجموعات شيعية من باكستان وأفغانستان ولكنها لا زالت في إيران، أو ترسلهم للجبهات الأخرى وليس في دولهم، وربما تخطط مستقبلًا لاستغلالهم في دولهم الأصلية.
وعلى الطرف الآخر لدى إيران نقاط ضعف استراتيجية كبيرة من الصعب حلها، ولذا تحاول منذ زمن التحرك بأسلوب تدريجي وبطيء، وانتظار تهيُّئ الظروف التي تسمح لها باستغلالها.
في التركيبة الديموغرافية لإيران ليس للشيعة الفرس أغلبية كاسحة، بل توجد جماعات بشرية ذات نسب كبيرة من العرب خصوصًا في الأحواز، ومن الأكراد في المحافظات المحاذية لتركيا والعراق، ومن قبائل البلوش في “بلوشستان” وغيرها، ومعظمهم من المهمشين.
انتشار مساحات كبيرة من الأراضي الوعرة، ووجود البلد في حزام زلازل مما يدفعها دومًا للخروج لأماكن أفضل.
حجم الاقتصاد الإيراني بسبب الحصار والحروب لا يتناسب مع طموحاتها التوسعية، ولا يكفي حتى طوائف كثيرة من الشعب الواقعة تحت خط الفقر.
ظهور وجهها الطائفي والعنصري أدى إلى عداء شعبي يتزايد كلما مر الوقت، مما يضعف من قدراتها التوسعية الناعمة في دول المنطقة.
تتميز السياسة الإيرانية ببعض السمات منها
اعتمادها على العنصر الفارسي الشيعي كدرجة أولى وطبقة عليا في مشروعها، أما العناصر الشيعية العربية فتتعامل معها كدرجة ثانية وجنود ينتظرون الأوامر من قياداتهم.
عداؤها الاستراتيجي للمسلمين أهل السنة الذين تسميهم النواصب لا يتزحزح، بالإضافة إلى العداء للجنس العربي كجنس تراه أقل درجة منهم ولابد من خضوعه للدولة الفارسية المزعومة، أما الشعوب فمصيرها بعد السيطرة إما أن تتشيع أو تبقى على الهامش، وغير ذلك لا تحمل عداء لأي دولة أو شعب، والأمر يرتبط بالأمور السياسية في باقي العلاقات مع الدول، ويمكن مراجعة كتاب “حلف المصالح المشتركة” ل”تريتا بارزي”، وكتاب “المربط الصفوي” ل”اكرم حجازي”؛ للتوسع في معرفة العلاقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية، وطبيعة العداء الحقيقي لها، وترتيبه فعليًا.
استراتيجيتها التوسعية تعتمد على الخطط طويلة الأمد والصبر والخطوات الصغيرة، وتفضل حروب العصابات كأسلوب لأذرعها وقواتها العسكرية، ولا تحبذ الحروب التقليدية أو الحروب المباشرة الشاملة، لأن قوتها في هذا الميدان محدودة.
تتميز السياسة الخارجية بالذكاء الشديد والصبر وتفادي الصدام ومحاولة التغلغل البطيء واستغلال الفرص.
تمثل المرحلة الحالية والقادمة تحديات كبيرة لسياسة إيران، مثل كيفية صياغة علاقاتها بأمريكا والدول الأوروبية، وكيفية صياغة علاقتها بروسيا وتركيا وإسرائيل، وكيفية صياغة علاقة مع الدول الخليجية، وأيضًا كيفية مواكبة الطموحات التوسعية بالمعطيات الواقعية، كل هذه الموضوعات ستحدد شكل ومصير إيران ودولتها الفارسية المأمولة.
ثالثًا: مجموعة الدول العربية المؤثرة
تمثل هذه الدول-السعودية، والإمارات، ومصر-آخر أنظمة الحكم العربية التي تملك تأثيرًا إقليميًا.
هذه الدول هي دول تابعة للولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية سواءً منذ نشأتها مثل السعودية والإمارات (منذ النشأة لبريطانيا ثم لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية) أو مع قدوم نظام الحكم العسكري بعد الاستعمار البريطاني في مصر.
حين نتكلم عن هذه الدول نتكلم عن أنظمة الحكم فيها، وليس عن شعوبها التي ليس لها دور في صنع القرار أو التأثير فيه وهي محكومة بقوة الحديد والنار.
تعرضت أنظمة الحكم فيها لضربات شديدة مع أحداث الربيع العربي، وجاءت جميع نتائج هذه الأحداث لتزيد من ضعف هذه النظم المتهالكة ولتقلل من عمرها المفترض.
المصلحة الوحيدة الاستراتيجية لهذه الأنظمة هي البقاء في سدة الحكم، وفي سبيل تحقيق هذه المصلحة من الممكن أن يقدموا أي شيء كثمن لمن يستطيع إبقائهم في الحكم.
تعتمد السعودية على مكانتها الروحية لوجود المقدسات فيها، وتمثل مركزًا لنشر العلم الشرعي، ولكن مع الاتجاه نحو العلمانية والمواقف تجاه الأحداث تقلصت هذه النقطة كثيرًا، والركن الآخر لنفوذها هو الأموال القادمة من النفط وتشترك الإمارات معها في هذه النقطة.
تمثل الإمارات بالإضافة لأموالها النفطية مركز تبادل تجاري مثل موانئ جنوب شرق آسيا، وتحاول أن تصنع من نفسها مركزًا ماليًا ومركزًا استخباراتيًا دوليًا مثل لندن، وتستغل أموالها أيضًا في بناء علاقات مباشرة مع دوائر صنع القرار في الدول الغربية.
يمثل نظام الحكم في مصر أهمية؛ بسبب رعايته لحدود إسرائيل الجنوبية وتهدئتها، سواءً في سيناء أو قطاع غزة، بالإضافة إلى تقديمه نموذج لهزيمة تيار الإسلام السياسي، واشتراكه في الحرب الأمنية على التيارات الجهادية.
ويمثل عدد قواته العسكرية بالرغم من ضعفها عنصر قوة غير موجود لدى السعودية أو الإمارات بالرغم من الشك في إمكانية استعماله خارج حدود مصر.
تواجه هذه المجموعة تهديدًا ضخمًا يكاد يكون وجوديًا على أنظمة الحكم فيها، سواءً من طموحات إيران، أو الغضب الشعبي منذ أحداث الربيع العربي، أو من احتمالية تغير نظرة وتعامل أمريكا والدول الغربية تجاهها، ومن تنامي خطر التيارات الجهادية في المنطقة.
تحاول هذه المجموعة الحفاظ على أنظمة الحكم فيها، وتكوين تكتل متكامل ومحاولة إقناع دول مثل إسرائيل أو دول غربية أخرى بدعم بقائهم تجاه الأخطار، وفي نفس الوقت تفكر في مصيرها إذا تخلت أمريكا عنها لصالح إيران أو لصالح طرف داخلي وهي إلى الآن تتخبط تخبطًا كبيرًا ولم تستطع رسم طريق واضح إلى الآن.
رابعًا: تركيا
تعيش تركيا منذ وصول أردوغان إلى السلطة مرحلة وسيطة، تحاول فيها الخروج من تبعيتها للغرب ومحاولة تقديم نفسها كقوة مستقلة أو ذات تأثير في إطار تحالف أو تكتل، ولكن تواجهها العديد من التحديات والأخطار مثل:
- خطر عودة نظام الحكم القديم قبل أردوغان، أو انقلاب عسكري، أو اضطرابات داخلية.
- تعرضها لحرب أهلية داخل البلد مع الأكراد.
- تأثير طموحات إيران على طموحاتها الخارجية.
- عدم قدرتها على الانضمام إلى الآن إلى تكتل أو تحالف سواءً مع روسيا أو إيران أو الدول العربية، أو حتى إقناع أمريكا والغرب بدعمها ومحاولة قبولها كقوة مستقلة وهو ما لم تسمح به أمريكا إلى الآن.
- مثل تحطم محور الإسلام السياسي في العالم العربي ضربة للسياسة الخارجية التركية التي كانت تحاول الدخول من خلال هذه البوابة لتمد نفوذًا لها في الدول العربية.
لم تستطع تركيا إلى الآن كسب أي أوراق ضغط أو مكاسب من الأحداث السورية أو العراقية بالرغم من محاولات نظام أردوغان الحصول على دور إقليمي من خلال هذه الأحداث، أو على الأقل استخدامها لمنع زيادة قوة الكرد الذين يكنون عداءً معلنًا تجاه حكومته، بل انخفض طموحه إلى مجرد محاولة منع تضخم نفوذ الأكراد إلى حدود أكبر، وإلى الآن ما زالت أمريكا تخذل تركيا عن عمد في قضية الأكراد.
الاقتصاد التركي يتقدم بخطى جيدة، والصناعات التركية العسكرية تسير بخطى سريعة وقوية أكثر من بلاد كثيرة حاولت عمل صناعة عسكرية مستقلة ولم تنجح كتركيا مثل الهند وإيران.
العلاقة مع أوروبا لم تعد جيدة بعد رفض دخول تركيا للاتحاد الأوروبي بشكل قاطع، وتحاول تركيا الضغط على أوروبا بورقة المهاجرين ومنع الهجرة غير الشرعية من أراضيها باتجاه أوروبا للحصول على مكاسب اقتصادية أو اتفاقيات ثنائية لدعم اقتصادها، ولكن لم تظهر إلى الآن نتائج في هذا الاتجاه.
الخلاصة أن تركيا بلد يحاول بناء نفسه كدولة مستقلة، مع محاولة اكتساب أي أوراق ضغط تساعده على دعم نفسه في مواجهة الرفض الأمريكي لزيادة حجم ودور تركيا، أو حجم استقلالية قرارها.
ولكن إلى الآن لم تظهر مؤشرات تدل على أي نجاح في هذا الاتجاه، بل كانت محاولة الانقلاب، ومحاولة تهميش تركيا في القضية السورية، وإلغاء دورها في القضية العراقية، مع تعثر علاقاتها بالدول العربية؛ نتيجة دعمها لتيار الإسلام السياسي وثورات الربيع العربي، فهي الآن تحاول الانضمام وتكوين شبه محور مع إيران وروسيا.
ولكن هناك من الأمور العالقة بينهم والمتعارضة مما قد يفشل مثل هذا التقارب، خصوصًا مع الرغبة الأمريكية في تهميش دورها إقليميًا، ومع هزيمة تيار الإسلام السياسي وعدم وجود نفوذ لها أو قوى تأثير في المنطقة العربية المجاورة لها، هذا مع جهد كبير لتركيا لتجد هكذا نفوذ وهكذا تأثير.
استقلالية القرار السياسي
يتمثل مفهوم استقلالية القرار السياسي في قدرة الدولة على اتخاذ المواقف والقرارات انطلاقًا من القناعات الذاتية والمصالح الاستراتيجية لها، بمعنى أن الباعث الرئيسي المحرك للدولة هو القناعات الذاتية والمصالح الاستراتيجية.
ولابد من الفصل بين الباعث الأساسي للتحرك المرتبط بمفهوم الاستقلالية وبين القدرة العملية على التحرك والمناورة لتحقيق المصلحة السياسية للدولة، والتي ترتبط -أي القدرة- بعدة عوامل منها: قوة الدولة وحجم نفوذها والظروف المحلية والدولية.
بمعنى أن هناك من الدول التي تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في القرار السياسي، ولكنها ذات قدرة محدودة على التحرك، مثل كوريا الشمالية أو بريطانيا، وهناك أيضًا أمثلة نادرة وعلى العكس من الأولى مثل اليابان؛ لديها قدرة عملية جيدة ولكن قراراها السياسي مرهون بأمريكا في معظمه.
تنبع الاستقلالية في قرار السياسي من منبعين رئيسين هما:
أولًا: كيفية نشأة وتكوين نظام الحكم الحالي
فالأنظمة التي تكونت نتيجة حروب سواءً حروب ضد عدوان خارجي أو حروب أهلية تتمتع في الغالب بقدر ضخم من الاستقلال السياسي مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا. في حين أن الأنظمة التي تأتي نتيجة ثورات شعبية حقيقية أيضًا تتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلالية مثل إيران أو كوبا.
أما الأنظمة التي تكونت نتيجة انقلابات عسكرية مدبرة أو منسقة مع المخابرات الأجنبية والأنظمة التي تكون كوكلاء للاستعمار القديم بعد خروجه من البلاد، والأنظمة الملكية أو العائلية التي قامت على العمالة للدول الكبرى في مقابلة حماية العائلة الحاكمة، كل هذه الأنظمة لا يمكن أن يسمح لها أو أن تطمح أو تفكر في استقلالية قرارها السياسي، والكثير منها ينتهي إلى الإدارة المباشرة أو شبه المباشرة من الدول الكبرى.
ثانيا: الإرث التاريخي والمجتمعي
فالدول التي لديها تاريخ من الاستقلال مثل بريطانيا، أو الدول التي لديها تاريخ وارث نضالي ورفض للتبعية مثل أفغانستان، والدول التي يتمتع شعوبها برفض الظلم والمواجهة وتعوّد الحرب، مع كل هذه السمات تكون هذه الدول في الأغلب لديها فرصة كبيرة في استقلالية القرار السياسي.
ثالثًا: عوامل القوة
أيضًا الدول التي تتمتع بعوامل القوة الاستراتيجية من كبر المساحة وكثرة السكان ووعرة الأراضي وتوفر الموارد المادية والكوادر البشرية يكون لدى هذه الدول فرصة أكبر من غيرها في استقلالية القرار، ولكن مع الوضع في الاعتبار طبيعة النظام الحاكم أو النخب السياسية المؤهلة للحكم الموجودة في البلد.
استقلالية القرار السياسي أمر مكتسب بكثير من الدم والجهد، وأيضًا هو أمر قابل للتغيير حسب التغير في طبيعة نظام الحكم أو الظروف المحيطة أو الذاتية للدولة.
مبدأ استقلالية القرار السياسي يفيد في فهم الأحداث، أو في وضع احتمالات مستقبلية، فالدول التي تتمتع بالاستقلالية حتى لو اتخذت قرارات تضر بمصالحها بدافع ظروف وضغوط خارجية يتوقع منها أن تغير هذه المواقف اتساقًا مع مصالحها حين تتغير الظروف أو الضغوط.
أما الدول التي لا تتمتع باستقلالية القرار فتكون مواقفها وقرارتها مرتبطة دائمًا بالدولة الخارجية المهيمنة ومصالحها مهما أدت هذه المواقف والقرارات إلى ضرر في المصالح الذاتية للدولة لأنها لا تملك في كثير من الأحيان أي بدائل نتيجة لتبعيتها.
ولأنه في غالب الأمر تكون المصلحة العليا تتمثل في بقاء نظام الحكم أو العائلة الحاكمة وبقاء مكتسباتها بغض النظر عن مصالح الدولة التي يحكموها، حتى لو حكموا أطلالًا وخرابات، لذا لابد من تقييم استقلالية القرار السياسي لأي دولة قبل البدء في تقييم مصالح الدولة السياسية والظروف المحيطة بها حتى نصل إلى فهم وتصور أقرب للصواب.
نظرة على المصلحة السياسية وتوازن النفوذ
عندما نتحدث عن فهم العلاقات السياسية ومحددات القرارات فيها، ونشوء التحالفات والصراعات، لابد من إدراك أنها تدور حول كلمتي المصلحة والنفوذ، فما يحرك أي رئيس أو سياسي في قراراته هو تحقيق المصلحة وتوسيع النفوذ.
والمصلحة السياسية إما أن تكون شخصية لشخص الحاكم كبقائه في السلطة أو توسيع ثروته، وهذه تكون غالبة في الأنظمة الشمولية والدول القمعية، أو تكون عامة لمصلحة الأمة وهذه تكون في النظام الإسلامي، كما هي غالبة في الأنظمة التي تتمتع فيها الشعوب بدرجة تأثير مقبولة أو التي توجد فيها عدة أجنحة قوية مؤسسة لنظام الحكم وتمتلك القدرة على الرقابة.
المصلحة السياسية تكون إيجابية بمعنى تحقيق مكاسب وإضافة منجزات، أو تكون سلبية بمعنى تجنب خسائر والحفاظ على منجزات موجودة من النقص، ودائمًا ما تكون المصلحة السياسية مركبة وليست بسيطة، بمعنى أنها تتكون من عدة أجزاء كل منها يمثل عامل تأثيرٍ بنسبة معينة، بحيث تشكل كل العوامل الصورة النهائية للمصلحة السياسية، وبالتالي اتجاه القرار والتحرك بناءً على ذلك.
دائما ما ترتبط المصلحة السياسية في النظم الوضعية بالإمكانية أي القدرة العملية على التنفيذ، وبالتالي تحدد في إطار الممكن سواء حاليًا أو مستقبلًا كخطة أو رؤية، أما المصلحة السياسية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين فقد كانت تنحصر في:
- إقامة حكم الله في الأرض بتطبيق شرعه.
- ونشر دعوة التوحيد في العالم أجمع.
- وحماية هذه الدولة والدعوة وحماية المسلمين فيها من أي عدو أو خطر.
في عهد الدولة الأموية وغالبية عهد الدولة العباسية أصبحت هناك عوامل شخصية تضاف إلى الصورة الكلية للمصلحة السياسية بجانب الأهداف السابقة، وهذه العوامل الشخصية متعلقة بشخص الحاكم أو الأسرة والعشيرة الحاكمة.
ولكن ظلت النسبة الغالبة في الصورة الكلية للمصلحة تتبع للعوامل الموجودة منذ عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهذا التقييم لغالب الفترة ومجملها، وربما مرت بعض الأوقات خلال هذين العهدين لم يكن فيها هذا الميزان الغالب.
إن مفهوم النفوذ يمثل معيارًا للقدرة على التأثير سواء على مستوى الدولة الواحدة أو الإقليم أو على مستوى العالم.
المصلحة والنفوذ يمثلان دائرة متكاملة، فالنفوذ هو ما يحقق المصلحة السياسية، وتحقيق المصلحة السياسية يؤدي دومًا إلى تقوية وتوسيع النفوذ وهكذا.
كما يتكون النفوذ من نفوذ عسكري؛ أي: قوات عسكرية تابعة أو حليفة، ونفوذ اقتصادي؛ أي: أموال تدعم أو تجارة حيوية، ونفوذ فكري؛ أي: اعتناق أفكار سياسية أو أيديولوجية مشتركة أو متشابهة.
إن أقوى مكونات النفوذ وأسرعها تأثيرًا هو النفوذ العسكري ثم الاقتصادي ثم الفكري، ويمكن لمكون واحد إنشاء باقي المكونات الأخرى، أي أن وجود نفوذ فكري يمكن من إنشاء نفوذ اقتصادي وعسكري والعكس بالعكس مع الأخذ في الاعتبار ترتيب هذه المكونات من حيث القوة والسرعة كما ذكر سابقًا.
سمات نظام النفوذ على المستوى الدولي أو الإقليمي
نظام مشغول دائمًا أي ليس به فراغ
بمعنى أنه أشبه ما يكون خاضع لقوانين الفيزياء والطبيعة؛ فعندما تكون لديك زجاجة مملوءة بالماء فإذا سكبت الماء على الأرض دخل الهواء محله وشغل نفس الحيز، فإذا وضعت زيتًا في نفس الزجاجة خرج الهواء، وهكذا دومًا ترسم خريطة النفوذ على أي مستوى، فأي انحسار لنفوذ في مكان ما يصاحبه بالتبعية زحف لنفوذ آخر في نفس المنطقة، وإن لم يكن مشاهدًا للبعض مثل الهواء أو حتى لو كان غير متجانسٍ مثل الزيت والماء.
نظام متوازن ومستقر
بمعنى أن له أقطاب أو أعمدة تتركز عليها مكامن النفوذ والقوة، بشكل يسمح للنظام كله بأداء وظيفته، فإذا حدث اختلال يحدث عدم استقرار وصراعات خارج إطار النظام، كما أنها غير محكومة وتستمر حتى تنشئ نظامًا آخر يتمتع بالتوازن والاستقرار، مثل بنية الذرة التي تتساوى بداخلها الشحنات الموجبة والسالبة، فالذرات المشعة التي أنويتها غير مستقرة تستمر بالإشعاع والانشطار بحثًا عن الاستقرار مرة أخرى.
الوسيلة الوحيدة لقياس النفوذ هي الأحداث العملية فقط، وليست التصريحات الإعلامية، أو الدعايات السياسية والادعاءات الشخصية.
التحالفات والصراعات وجهان لعملة واحدة في حساب النفوذ، فكما يتغير وضع النفوذ بالنسبة للأطراف المتصارعة يتغير أيضًا بالنسبة للأطراف المتحالفة بناءً على النتائج على أرض الواقع، حتى لو كان التحالف بين حاكم وتابع يمكن في النهاية أن يكون نتيجة هذا التحالف زيادة في نفوذ التابع وارتقائه إلى مرتبة أعلى، وعلى هذا الأمر أمثلة لا تعد ولا تحصى، مثل (محمد علي والدولة العثمانية) و(إيران وأمريكا)، والكثير جدًا مما يصعب حصره، فلذا لابد من القراءة الصحيحة لأي صراع أو تحالف، ومتابعة متغيرات الواقع التي تحكم النتيجة النهائية لحساب النفوذ.
نفوذ وهمي ومؤقت
بمعنى أنه إذا كان هناك عدة قوى تتصارع على النفوذ في مستوى معين سواءً محليًا أو إقليميًا وحدث لظروف معينة ضعف وانحسار لهذه الأطراف فالطرف المتبقي يبدو حينها نفوذه كبيرًا وضخمًا أكبر من واقع حجمه، ويستطيع الطرف الذي تسنح له الفرصة بالتمتع بمثل هذا النفوذ الوهمي من تحويله إلى نفوذ حقيقي، بشرط توفر الظروف المناسبة، ووجود وعي لدى هذا الطرف بحجمه الفعلي، ووجود خطة لترسيخ نفوذه الجديد كنفوذ حقيقي، وإلا فإنه يفقد هذا النفوذ بسهولة بمجرد وجود طرف آخر عند القدرة على ملء الفراغ وكسب النفوذ.
لتحليل وفهم أي أحداث
لابد من:
- تجريد الأطراف الفاعلة ومعرفة طبقاتها وتصنيفها.
- رسم خريطة لمصالح كل طرف ومدى نفوذه.
- معرفة العلاقات بين الأطراف سواء صراعات أو تحالفات.
- معرفة العوامل المؤثرة على هذه العلاقة سواء الصراع أو التحالف.
وهكذا نتمكن من توضيح الرؤية في الأحداث وقياس تأثيرها علينا ووضع احتمالات لمستقبلها وخطط للتعامل معها حاليًا ومستقبلًا.
كما يمكنكم تحميل الإصدار كاملًا عبر هذا الرابط: كيف نفهم الصراع؟
متألق كالعاده
بارك الله بكم و جزيتم خيرا
جزاكم الله خيرا
مقال ممتاز. تحليل واقعي ومنطقي للاحداث