كيف تدهور واقعنا بغياب الخلافة؟
كيف تدهور واقعنا بغياب الخلافة؟ وما هي الفروق الحاسمة بين التجزئة المجهرية والوحدة الجامعة؟
وما هي أولويات الصراع، ومصدر الشرعية، والسياسة الخارجية، والسياسة الداخلية لدولة الخلافة؟.. كل هذا ما ستعرفه في هذا المقال..
الفرق بين أولويات الصراع عند العثمانيين وعند حكام التجزئة:
يلاحظ المتتبع سير الفتوحات العثمانية أنها كانت موجهة دائماً ضد الخارج الأوروبي، هكذا بدأت الإمارة على الحدود البيزنطية واستمرت متوسعة في أوروبا ولم يكن يشغلها عن ذلك إلا خطر يبدأها بالهجوم من الشرق مثل تيمورلنك (1402)، وحتى عندما التفت السلطان سليم وابنه سليمان إلى الشرق (الصفويون والمماليك) كان ذلك جزءاً من عملية الالتفاف على الخطر الغربي (إسبانيا في شمال إفريقيا والبرتغال في المحيط الهندي والبحر الأحمر وخليج البصرة)، ومما يؤكد ذلك عدم دخول الخلافة العثمانية في صراع وجود ضد عُمان رغم اختلافها المذهبي مع الإمامة الأباضية، وبعد زمن من الصراع ضد البرتغاليين في سواحل بحر العرب، لم نر الدولة توقف صراعاتها الأوروبية لتشغل نفسها مع صراع قد يكون أقل حدة وأكثر يسراً ضد عمان، والسر في ذلك هو قيام أهل عمان بواجب الجهاد ضد الوجود البرتغالي على أكمل وجه قادهم في النهاية إلى تأسيس دولة واسعة لم يبخل عليها كثير من المؤرخين بصفة الإمبراطورية الممتدة من بلوشستان إلى شرق إفريقيا، ولو كانت عقلية العثمانيين كعقليات قادة التجزئة في زمننا، لأوقفوا مواجهتهم مع الغرب الأوروبي وكرسوا جهودهم للصراع الإسلامي الداخلي ضد الإمامة في عُمان، ولن يعدموا حينئذ المبررات كالخلاف المذهبي والخروج عن طاعة ولي الأمر وغير ذلك من حجج أرباب التجزئة، بل لقد وجدنا العثمانيين يجعلون عُمان ضمن دولتهم وليست عدوة لهم على الخرائط رغم أن سيادتهم لم تمتد فعلياً إليها، ومن سلاطين عمان بدورهم كالسيد تركي بن سعيد (1863-1888) من يصرف شيوخ العرب عن تولي الإنجليز رغم أنهم ساعدوه ضد أخيه، وذلك مثل قوله “نحن إذا احتجنا إلى حماية فإننا نطلبها من جارتنا وإخوتنا في الدين، الخلافة السَّنِية”[1].
ويمكننا كذلك القول إن وقف الصراع مع المغرب الأقصى كان بسبب الانشغال بالصراع مع أوروبا التي كانت سترحب كثيراً لو اقترح عليها العثمانيون تركها تفسد في الأرض للانشغال بإخوتهم، وكان العداء الصفوي-العثماني كالعداء المغربي-العثماني مستمداً من العداء العثماني الرئيس تجاه الغرب الأوروبي وليس صراعاً طائفياً كما يحلو للبعض تصويره، فقد تصدى العثمانيون لتحالف الصفويين الشيعة مع أوروبا كما تصدوا لتحالف حكام المغرب السنة مع الإسبان، وتركوا حكام عمان الإباضيين يتصدون بأنفسهم للغزوات الأوروبية على المحيط الهندي وخليج البصرة، وظل هذا هو الميراث العثماني حتى في زمن الضعف ثم التراجع فالهزيمة، وذلك عندما نادت فكرة الجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر بمواجهة الهيمنة الغربية بجمع كل المسلمين أدناهم وأقصاهم تحت لواء الخلافة الإسلامية.
الفرق بين مصدر شرعية الوحدة وعدم شرعية التجزئة:
بينما قامت شرعية الخلافة العثمانية على الجهاد ومقاومة الغزو الأجنبي الصليبي وحماية ديار المسلمين، قامت “شرعية” دولة التجزئة على الاستسلام للأجنبي أو التآمر معه للاستقلال عن الكيان الإسلامي الجامع، وفي كتاب مدرسي عربي يدرس للأجيال ويتباهى بلحظة تأسيس إحدى دول التجزئة يقول مؤلفوه من كبار الأساتذة والدكاترة بعد سرد “الأخطار” التي أحاطت بهذا الكيان ومن ضمنها “الخطر” العثماني الذي دفع الحاكم للجوء لبريطانيا طلباً للحماية ولأن يتعهد “عن نفسه وورثته من بعده بأن لا يقبل وكيلاً من جانب دولة أو حكومة في أية قطعة من بلاده بغير موافقة الحكومة البريطانية، ولا يبيع، ولا يؤجر، ولا يرهن، ولا يعطي للتنازل، قطعة من أراضيه إلى دولة أو أحد رعايا دولة من الدول، بغير موافقة الحكومة البريطانية، وتعهدت الحكومة البريطانية في مقابل ذلك بما يأتي:
1-حماية الكيان من الأخطار التي يتعرض لها.
-2-اعتباره إمارة مستقلة في شئونها الداخلية.
-3-تثبيت النظام القائم.
وبعد هذه الصفقة “الرابحة” يعطي الكتاب للأجيال درساً عملية في طريقة تطوير العلاقة الخارجية ببريطانيا وذلك برهن موارد البلاد تحت تصرفها، فقد أخذت علاقة الحاكم “تتوثق” مع الإنجليز، فعينت بريطانيا أول معتمد سياسي لها لديه، ثم تعهد ذلك الحاكم “بألا يمنح امتياز صيد اللؤلؤ في مياهه الإقليمية إلا لمن توافق عليه الحكومة البريطانية، كما تعهد بألا يمنح امتيازاً بشأن النفط في بلاده لأي شخص بخلاف الشخص الذي تعينه الحكومة البريطانية”[2]، ومن الواضح كيف قلب المنهج مفاهيم الخطر والاستقلال والعلاقات الخارجية، فأصبح الأخ خطراً، والاستسلام استقلالاً ، والنهب علاقة وثيقة، والهيمنة حماية، فصدق علينا المثل القائل: حاميها حراميها.
إنه من الظلم أن نحصر هذا الاستسلام بحاكم واحد، لأن هذا التسلسل في الأحداث لم يكن مقصوراً على بلد واحد أو حاكم واحد، جميع دول التجزئة قامت بطرق مشابهة من الاستسلام للخارج أو التآمر معه، وليس ما سبق سوى مثل من أمثلة عديدة، فشتان ما بين عزة التأسيس على الجهاد والمقاومة في زمن الخلافة، ومذلة التأسيس على الاستسلام والتآمر في زمن الاستقلال الوهمي والتجزئة المجهرية.
اقرأ أيضا: لماذا نقرأ التاريخ العثماني
الفرق بين الضعف الطارئ في زمن الوحدة والضعف الدائم في زمن التجزئة (السياسة الخارجية نموذجاً):
وكانت الدولة العثمانية تقوم بما يمكنها لحماية المسلمين في خارج حدودها كما تمليه عليها سياستها الخارجية العليا الممثلة في الجامعة الإسلامية، وفي ذلك يقول المؤرخان ستانفورد وإيزل شو “إن السلطان عبد الحميد سعى للقيام بدور خليفة كل المسلمين، وبدأ باستعمال حقه القديم في تعيين الموظفين الدينيين في الأقاليم العثمانية السابقة التي أصبحت تحت الحكم الأجنبي، وذلك ليحافظ على نفوذه بين المسلمين في تلك الأقاليم، وهكذا كان يقوم شخصياً بتعيين القضاة والمدرسين والعلماء الآخرين المرسلين إلى مصر وقبرص والقرم والبوسنة والهرسك وبلغاريا، وكان الحكومة العثمانية تحتج وتتدخل رسمياً متى سمعت أخباراً عن جور أو اضطهاد للمسلمين أينما كانوا، وقد استدعي القادة المسلمون المؤثرون من جميع أنحاء العالم إلى اسطنبول في زيارات مطولة لمد جسور التواصل وهو ما يمكن استخدامه وما استخدم فعلاً لدعم مكانة السلطان-الخليفة، وقد وُجهت تحذيرات شديدة للبريطانيين والروس والفرنسيين أن أي عدوان على الدولة العثمانية أو على المسلمين الواقعين تحت حكم الأوروبيين يمكن أن يؤدي إلى انتفاضة إسلامية موحدة ضدهم بدعم كامل من العثمانيين، وقد أصبحت سياسة الجامعة الإسلامية سلاحاً استخدمه السلطان لمواجهة إمبريالية الدول الغربية الكبرى والحركات القومية للأقليات التي تهدد الدولة”[3].
فأين كل هذا من تخاذل وصمت السياسة الخارجية لدولة التجزئة وضعفها وتبعيتها وتفريطها في حقوقها الضيقة فضلاً عن عجزها عن تمثيل وحماية إخوتها خارج حدودها الاستعمارية؟ أين هذا من تواطؤ دولة التجزئة الذي كان سرياً فأصبح اليوم علنياً، لا أقول مع الدول الكبرى التي كان الحصول على رضاها هي أمنية الأماني، وغاية الغايات عند الجميع أن تقبل بوكالة هذا الزعيم أو ذاك على مصالحها في بلادنا، بل أقول إن التواطؤ أصبح مع كيان حقير معاد لنا عداوة مباشرة هو الكيان الصهيوني الذي لا أستثني سلطة ولا حتى ثائراً لم يسع للانبطاح أمامه على حساب المقدسات والشعوب والإخوة والجيران، ونجد الجميع يتنافسون في تمويل الحملات على غزة المحاصرة وإغراقها وخنقها، وفي التآمر على ثورة القدس والضفة وبقية فلسطين ويتداعون لإنقاذ الصهاينة من ورطتهم، أين هذا من ذاك؟ والضد يظهر حسنه الضد.
الضعف النسبي طارئ في زمن الوحدة والقوة النسبية طارئة في زمن التجزئة (العراق نموذجاً):
هناك فكرة تعترض على الحنين إلى الدولة العثمانية مقارنة بين وضع بلد كالعراق كان في زمن العثمانيين معرضاً للتخلف والجهل والمرض وبين وضعه حين حصل على الاستقلال فأصبح متقدماً في نواح عدة أبرزها الصناعة، ولولا الحصار والحروب لظل صاعداً في تقدمه.
هذه الفكرة تعتمد على مقارنة وضع طارئ على حالة الوحدة الشاملة حيث الأصل هو القوة والتقدم كما يحكي تاريخ العثمانيين نفسه، بوضع طارئ على حالة التجزئة حيث الأصل هو الشرذمة والضعف والتبعية، فالشذوذ لا يقاس عليه، ومع ذلك فالقوة المزعومة هنا هي أيضاً قوة نسبية لأن ما حققه العراق ومصر في القرن الماضي كان هو الذروة التي يمكن أن تصل إليها دولة التجزئة، ومع ذلك لم يكن في إمكان العراق التصدي للكارثة الدولية (1991-2003) لقلة الإمكانات المتاحة أمام دولة التجزئة لاسيما في ظل تكالب الإخوة والجيران الذين كانوا جزءاً من الكيان الواحد فيما مضى، ونفس الكلام ينطبق على عدم قدرة الحكم الناصري على درء نكسة 1967، فكيف يمكننا أن نقول إن عجز التجزئة في أزهى أحوالها هو المنقذ من حالة الوحدة التي لم تُعط في هذا القياس حقها كما كانت فعلاً لا كما تصورها الإشاعات والمسلسلات، والدليل على أن الدولة العثمانية التي جسدت حالة الوحدة لم تستسلم للضعف الناشئ عن عمرها الطويل أنها قامت بمشاريع التطوير في العراق في عهد ضعفها في القرن التاسع عشر وهو تطور تحدث عنه كثير من المؤرخين ومن يحب الاطلاع على شذرات منه عليه مراجعة كتاب “”داود باشا والي بغداد” (1817-1831) للدكتور عبد العزيز سليمان نوار، وكتاب “الإدارة العثمانية في ولاية بغداد من عهد الوالي مدحت باشا إلى نهاية الحكم العثماني 1869-1917” للدكتور جميل موسى النجار، مع وجوب الالتفات إلى أنه إذا كان مدحت باشا سياسياً فاشلاً فقد كان إدارياً ماهراً كما ذكر ذلك السلطان عبد الحميد.
ومن لا يريد مراجعة التاريخ عليه أن يتذكر أن دولة فكرت وأنجزت مشروعاً عملاقاً كسكة حديد بغداد لم تكن مستسلمة لأعراض الشيخوخة والزمن أو لعدوان الغرب عليها، كما لم تكن مهملة لوضع العراق ولا حتى جزيرة العرب حيث أنجزت سكة الحجاز أيضاً، ولولا التآمر الاستعماري مع العملاء العرب في الحالين لحصلنا على مشروعين عظيمين، ومع ذلك لم تتمكن دولة التجزئة من مجرد العودة لما تم إنجازه عثمانياً بالفعل، وتعطلت هذه المشاريع ودخلت عالم المتاحف والأحلام، وهنا يمكن القول إن الضعف الطارئ على الوحدة يختلف جذرياً عن الضعف الملازم لحالة التجزئة.
خلاصة الحديث أن الضعف كان فترة طارئة في حياة الوحدة العثمانية المليئة بالقوة والاستقلال والاكتفاء لجميع أقطار الدولة، أما التجزئة فالأصل فيها الضعف والتبعية والحاجة كما نشاهد في جميع دولنا اليوم ، وما حققته قلة من الدول فيظل قاصراً عن مواجهة عوادي الغرب الذي لن يسكت على أية نهضة ولن يكون في مقدور أية دولة من دولنا مواجهته منفردة كما أثبتت حروب 1967 و1991 و 2003 ومن ثم لا يمكننا أن نجعل من أية طفرة حققتها التجزئة حالة طبيعية يمكن الاتكال عليها، فهي غير قابلة للاستمرار وسيتم قصفها عند أول فرصة ممكنة ولن تتمكن من الحفاظ على نفسها، خلافاً للوحدة التي نريدها ويمكننا بها أن نواجه كل قوى الظلام والعدوان كما أثبت التاريخ العثماني نفسه عندما كانت الدولة تحارب على أكثر من جبهة دون أن يمس جوهرها، وما حنيننا إلى العثمانيين إلا حنيناً لوحدة جسدوا أفضل مزاياها زمناً طويلاً.
إن مشروع سكة بغداد الذي أنجزه الضعف العثماني لم تتمكن التجزئة العربية في أزهى أيامها من مجرد العودة إليه فضلاً عن التفوق عليه، وهو ما ينطبق على سكة الحجاز وغيرها من المشاريع الصناعية لاسيما العسكرية منها والتي جاهدت لتكون بمستوى عصرها فصنعت البنادق والمسدسات والمدافع والبرق الكهربائي (التلغراف) وسيلة الاتصالات في ذلك الزمن، وجمعت الغواصات وخططت لصناعة الطائرات وكادت تنجح لولا عقبة الحرب الكبرى، فأين كل هذا، لا من إنجازات التجزئة، بل من مجرد أحلامها التي لا تجرؤ على ملامسة هذه التخوم؟
المصادر:
[1] – الدكتور سهيل صابان، الجزيرة العربية، الرياض، 2005، ص414.
[2] – دكتور نور الدين حاطوم ودكتور شاكر مصطفى ودكتور جمال زكريا قاسم ومحمد عبد الفتاح عليان، تاريخ العرب الحديث والمعاصر للصف الرابع المتوسط، وزارة التربية، الكويت، 1977-1978، ص83-89.
[3] – Stanford J. Shaw & Ezel Kural Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Cambridge University Press, 2002, Vol. II, p. 260.