كيف تسببت العلمانية في تخلفنا

في نهاية القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر، شهد العالم الإسلامي تجارب نهضوية في تركيا ومصر، عملت على تحديث هذه البلاد باستقدام تقنيات الصناعة وأساليب الإدارة والنظم العسكرية من أوروبا. وتعرضت هذه التجارب للفشل لأسباب مختلفة، ففي تركيا كانت مقاومة الدولة العميقة المنتفعة من الوضع المتردي في الدولة العثمانية سبب فشل تجربة التحديث، بينما في مصر كانت الأطماع الاستعمارية لبريطانيا وراء فشل تجربة التحديث، وفي كلا الحالتين، كان فرض التحديث من الأعلى، وفشل القائمين على التحديث في إشراك مواطنيهم في مسئولية التحديث، عامل مشترك في فشل تجربتي التحديث في مصر وتركيا.

بين التحديث والحداثة

تسبب فشل هذه التجارب، وما تبع ذلك من إخفاقات عسكرية نالت من العثمانيين، والتدخلات السافرة للدول الأوروبية في شئون تركيا ومصر وغيرهما من البلاد المسلمة، إلى حالة من النقد الذاتي لدى مثقفي هذه البلاد، نتج عنها تبلور تياران فكريان يهيمنان على المشهد السياسي الاجتماعي للشرق الأوسط إلى اليوم.

  • التيار الأول: رأى أن قرون من استبعاد الإسلام عن مشهد حياة الأمة المسلمة هو السبب الرئيس وراء تدهور حال هذه الأمة، وإن الطريق الأمثل لاستعادة الأمة دورها الحضاري هو استدعاء روحها الأصيلة بتجديد الإسلام، وهذا التيار الذي سوف نشير إليه بتيار التجديد الإسلامي.
  • التيار الثاني: رأى أنه لا يمكن مجاراة الغرب إلا باستيراد التجربة الأوروبية بكاملها، وهو ما سوف نسميه تيار التغريب والعلمنة.

ومن المهم أن نثبت هنا أن تيار التجديد الإسلامي لم يرفض التحديث Modernization، بمعنى إحلال تقنيات وأدوات الإنتاج والإدارة والتنظيم القديمة، بأخرى حديثة مستوردة من الغرب، وتوظيفها في المجتمع المسلم بما يوافق شروط هذا المجتمع، مستلهمًا اصطناع الرسول صلى الله عليه وسلم للخاتم حتى يختم به رسائله كعادة أولي الأمر في هذا الزمان، وتدوين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدواوين على غرار دواوين الفرس والروم.

لكن تيار التغريب والعلمنة، في تطوره، اشترط على نفسه أن يتخلص بالكامل من التراث الإسلامي، متعديًا مسألة التقنيات والأدوات إلى إحلال التصورات الغربية بالتصورات الإسلامية عن الإنسان والمجتمع والتاريخ، وهو ما اصطلح عليه بالحداثة Modernity.

في مصر في مطلع الربع الأول من القرن التاسع عشر، كان تيار التجديد الإسلامي وتيار التغريب والعلمنة يعملان في مستويين مختلفين، فالأول يعمل بين العامة من خلال مكانه الطبيعي على منابر المساجد، ووجد له أنصار ومنظرين ودعاة بين علماء الأزهر والطبقات الشعبية، بينما كان تيار التغريب والعلمنة يعمل على مستوى النخبة الحاكمة ومن في خدمتها من جماعة الموظفين، وهو ما جعل بعض المؤرخين يختزلون التدافع بين هذين التيارين ويسطحونه من خلال صراع متخيل بين المعممين والمطربشين أو بين المشايخ والأفندية.

في خدمة كل الطغاة

هيمن التدافع بين التيارين على معظم القرن التاسع عشر، وبدا أن تيار التجديد الإسلامي قد بلغ ذروته إبَّان الثورة العُرابية، والتي كان محركها أفكار جمال الدين الأفغاني وحزبه الوطني ذا التوجه الإسلامي، وفي مقدمتها أحمد عرابي ابن الأزهر، يستوحي من تراث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما ينافح به عن قضيته أمام الخديو والقناصل الأوروبيين فيقول “لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم”.

إلا أن الوضع أنقلب تمامًا عقب هزيمة العرابيين، واحتلال مصر. فالاحتلال الإنجليزي قام بتصفية الحزب الوطني وتيار التجديد وتشتيت أنصاره. بينما أدرك تيار التغريب والعلمنة أن نجاح العرابيين، كان لابد أن يفضي لخسارتهم لأرضيتهم الضيقة في مصر، وهي الأرضية التي نالها مكافئة على تبرير سياسات الحكام من قبل، ومن ثم فقد حدد هذا التيار موقفه التاريخي في تلك اللحظة، حيث سوف يرتبط بالحكام دائمًا، سواء كانوا حكامًا محليين أم أجانب، عاملًا دائمًا على منحهم غطاء أيديولوجي وشرعي، وهذا الموقف الانتهازي لن يصبح خاصية لتيار التغريب والعلمنة في مصر، ولكنه سوف يصبح طابع عام لهذا التيار في جميع أرجاء العالم العربي.

وبينما كان تيار التغريب والعلمنة يملأ الدنيا ضجيج عن الوطنية والحرية وحقوق الإنسان، أصبح بتحالفه مع كل الطغاة نموذج على النفاق والتدليس وخيانة هذه المبادئ. كان كرومر يتعهد سعد زغلول وجماعته من التغريبين العلمانيين، واستخدمهم لحماية مصالح الاحتلال مرة تلو مرة، ومن أمثلة ذلك تصويت زغلول وأنصاره ضد قانون تعريب التعليم الأميري، وكان هذا التعليم بالإنجليزية. وفيما بعد استخدم الاحتلال زغلول وجماعته لإجهاض الثورة الوطنية سنة 1919، عندما بادر زغلول وجماعته للدخول بمطالب الثورة على المندوب السامي، معلنًا نفسه وجماعته قادة للثورة، منحيًا القادة الحقيقيين للثورة وعلى رأسهم الأمير عمر طوسون الذي أعتزل بعد هذه الحادثة العمل الثوري.

انتهاء ثورة 1919 باستقلال منقوص على يد زغلول

اندلعت ثورة 1919 ولها هدف واحد، خروج الاحتلال البريطاني من مصر، ولكنها انتهت على يد زغلول وجماعته بنيل استقلال اسمي منقوص، وتكريس وجود قوات أجنبية في مصر، ووضع خاص لبريطاني في مصر، أشبه بوضع الوصي بالنسبة للقاصر، وهو ما أستمر إلى عام 1954. وخلال معظم هذه الفترة، مكن المحتل البريطاني لحلفائه من تيار التغريب والعلمنة في الحكم والجماعة والصحافة، حتى أطلق بعض المؤرخين الذين غرهم صوت هذا التيار العال على هذه الحقبة اسم الحقبة الليبرالية نسبة إلى هذه المدرسة من تيار التغريب والعلمنة. وهي نفسها الفترة التي شهدت ما أسمي بـ “معارك فكرية”، ولكنها لم تكن معارك يصطرع فيها طرفين، بل كانت غارات يغير فيها التيار العلماني على الإسلام، ولا يمكن أنصار التجديد الإسلامي من الدفاع إلا بشق الأنفس، وقد شكلت هذه المعارك المعالم العدائية لتيار التغريب العلماني مع روح الأمة، وأدخل الأمة إلى اليوم في صراع حول هويتها.

القومية/الماركسية تحل محل المدرسة الليبرالية

برحيل الاحتلال البريطاني عن مصر،  وتأسيس حكم جمال عبد الناصر، ظهرت مدرسة جديدة من تيار التغريب والعلمنة، مدرسة القومية/الماركسية لتحل محل المدرسة الليبرالية كظهير ومنظر أيديولوجي للاستبداد، وعلى عكس الليبراليين الذين لم يجدوا غضاضة من خدمة مصالح المحتل وتدليس الأمر على المصريين باعتباره خدمة لمصالح المصريين، اقر الماركسيين بالذات أن النظم العسكرية التي وصلت إلى سدة الحكم في العالم العربي، ومنها نظام ناصر، أنظمة استبدادية، ولكن عوضًا عن مواجهتها، اختاروا أن يسلكوا مسلكًا شاذًا، ابتكره الحزب الشيوعي الفرنسي، وأعتنقه معظم اليساريين العرب يسمى بالـ “اندساس”، أو Entrisme بالفرنسية.

ووفقًا لمسلك الاندساس، كان على اليساريين أن يظهروا اعتناقهم لبرامج المؤسسة الحاكمة، ومن ثم يلحقوا بهذه المؤسسة على أن يعملوا على نشر أفكارهم داخل هذه المؤسسات واستغلالها لمصلحتهم، وهذا ما يفسر سيطرة اليساريين بالذات على دوائر وزارة الثقافة إلى اليوم.

وعقب زوال نظام ناصر، وإحلاله بنظام السادات/مبارك، استخدم النظام الجديد كل مدارس تيار التغريب والعلمنة، ورضيت تلك التيارات أن تلعب أدوارًا مختلفة ما بين أدوار حكومية وأدوار المعارضة، حتى كان من رؤساء الأحزاب من يجهر بمعارضة النظام ليل نهار وفي كل مكان، ولكنه يرضى أن ينعم عليه هذا النظام نفسه بمقعد في مجلس الشعب أو الشورى بالتعيين.

متاهات العلمانية

خلال قرن من التحالف مع كل قوى الاستبداد، شارك تيار التغريب والعلمنة في كل القرارات السياسية والاقتصادية التي صدرت عن هذه القوى المستبدة، مشاركة في رسم سياساتها، ومنظرة لها أيدلوجيا تدلس بها هيمنتها على مجتمعاتها بالقوة. وبسبب حالة الارتباط النفعي بين الاستبداد وتيار التغريب والعلمانية، كانت هناك وجوه مشاركة دائمًا في صناعة سياسات الاستبداد، على الرغم من تبدل وجوه الاستبداد نفسه، فهناك هذا المثقف والأديب العظيم الذي ظل يراوح في منصب وزارة التعليم زمان الحقبة الليبرالية وفي زمن ناصر حتى زمن السادات، والصحفي منظر الانقلابات الذي شارك في كافة الأنظمة السياسية منذ زمن ناصر إلى أن توفاه الله من بضع سنوات.

وعلى الرغم من ذلك، فإن تيار التغريب والعلمنة دائمًا ما يتنصل من مسئوليته عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمصر، بل وفي كثير من الأحيان يعمل على تدليس الوقائع ملقيًا بالمسئولية على غيره، كما حدث في تلك الندوة ندوة “الإسلام والعلمانية” الشهيرة في الثمانينات، بين الراحل محمد الغزالي وبعض منظري العلمانية، إذ يسأله أحدهم “كيف سوف يعالج الإسلام الأزمة الاقتصادية لمصر؟”، فيأبى الغزالي أن يجيب إلا أن يكون السؤال “كيف سوف يعالج الإسلام ما تسببت فيه سياسة العلمانيين الاقتصادية؟”، منددًا بأسلوب التدليس الذي يلجأ إليه أنصار هذا التيار للتنصل من فعالهم، وهي السياسة التي غدت طبيعة فيهم لا يمكنهم أن يتخلوا عنها، وهي التي تجعل من الحوار معهم أمرًا مستحيلًا، إذ أن أي حوار يلزمه خلق الحوار، بينما تفتقر العلمانية للأطر الأخلاقية للحوار والتناصح.

الخلاصة

أدخلنا تيار التغريب والعلمنة في تيه البحث عن الهوية، حيث عمل على هدم الهوية الإسلامية لمصر واستبدلها بهويات أخرى قومية أو وطنية، وهو الأمر الذي لم ينجح فيها، ولكنه تسبب في إصابة المجتمع المصري بحالة أقرب من الفصام، حيث يعيش عقلين، عقل صحيح وعقل مريض، في جسد واحد، يصطرعان ويستنفذان طاقة هذا الجسد.

بإدراك هذا التيار أنه يفتقر إلى القاعدة الشعبية، فإنه ربط نفسه بهذه الأنظمة الاستبدادية التي تفتقر مثله إلى القاعدة الشعبية، في حالة أشبه بالزواج الحرام، لاعبًا دور المنظر لها، والمشرعن لانحرافاتها، ومانحًا إياها غطاء ديموقراطيًا تغطي به طبيعتها الفاشية أمام العالم. ومصيبة هذا الدور الذي لعبة تيار التغريب والعلمنة لا تقتصر على تكريس الاستبداد، ولكنها تمتد لتشمل مشاركته المسئولية عن سياسات هذه الأنظمة المستبدة التي أدى إلى الفشل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي نعاني منه. ولأن هذا التيار يفتقر إلى المضمون الأخلاقي، فإنه يصر على إلقاء تبعات هذا الفشل على غيره باستمرار، وفرض سياساته الفاشلة فرضًا على مجتمعاتنا.

د. وسام عبده

أكاديمي وكاتب ومترجم من مصر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال ( كيف تسببت العلمانية في تخلفنا )
    أساند كل التحاليل عبر المزاحل التاريخية المقدمة ….. لكني أخالف الكاتب في بداية عمل التغريبيين و وصف هؤلاء بالوطنيين
    حيث كانت البداية مع مجيء محمد علي باشا الى مصر و حكمه إياها ,فكان كل تاريخه تاريخ مؤامرات على تفكيك الأمة و تمكين العدو الصليبي منها بداية من إستقباله للحملات التبشيرية في جنوب السودان و تمسيح شعب كامل و و و و
    مرورا بمحاولته غزو الجزائر لتمكين الإحتلال الفرنسي منها
    أما الثانية فإني أعتقد أن هؤلاء عملاء و خونة و منافقين و متربصين بالإسلام و أهله مع سبق الإصرار و الترصد مع العلم و أن الأمة فيها هذا الصنف من الفئة الدنيا من المجتمع منذ زمن النبوة و شعارهم الإنتهازية و المحسوبية و العمالة و التقية و إنتظار الفرص السانحة و لحظات الضعف كما أن ميزتهم قيادة الغوغاء و تأليبهم على الحكام و العلماء و الثوابت تحت مسميات براقة و جذابة ( كلمة حق يراد بها باطل )
    فالحقيقة أن العلمانية بمسمياتها المختلفة غوغائية و فوضاوية فكرية و سلوكية و حكمية لا ترقي إلى مستوى الفكر أو العقل أو العلم أو أو او و هذا على مستوي العالم و الإنسانية جمعاء فضلا عن اذناب الإحتلال الخونة في العالم الاسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى