كيف نستثمر العشر الأُوَل من ذي الحجة؟

اقتضت حكمة الباري -سبحانه وتعالى- أن يكون الاصطفاء في كل شيء، فهو واقع -لا محالة- في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، فالأشخاص من خلق الله آدم قد يتماثلون في الهيئة ويختلفون في القوى العلمية والعملية، فاصطفى الله منهم الأنبياء والمرسلين والقادة والمصلحين، والأولياء والربانيين، قال رب العالمين: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) وقال أيضا: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

والأمكنة تختلف من حيث تشريف الله لها وتقديسها، قال الله-عز وجل-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، وقال أيضا: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

والأزمنة تتفاضل فيما بينها فليست الأيام والشهور والأعوام واحدة، قال الله-عز وجل-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)، وقال أيضا: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).

وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) فالاصطفاء من شؤون الربوبية، فأصل التمايز إلهي، بين فيه المولى-تبارك وتعالى-فضل بعض الأيام و الليالي، بما أولاها-سبحانه-من فضل عظيم، وبما أودع فيه من خير واسع عميم، فسبحانه من إله  حكيم عليم!

العشر الأول من ذي الحجة محطة تعبئة

نحن على أبواب أيام مباركة هي العشر الأول من شهر ذي الحجة، ساعاتها مباركات، ولحظاتها غاليات، إذ فيها من الخصائص والصفات ما يجعلها أفضل أيام الدهر، وأبرك ليال العمر، وإذا كان أصحاب التجارات في الدنيا يعرفون للمواسم قدرها، فيكثفون فيها النشاط ويضاعفون فيها الجهد طمعًا في تحقيق الأرباح الوفيرة، فإن تجار الآخرة لا يضيعون الفرص الثمينة، فهم يعرفون لمواسم الطاعة حقها ومستحقها، فيتأهبون لها ويشمرون جميعًا على سواعد الجد، إذ يضع كل واحد خطة تفصيلية للاستفادة من هذا الموسم، ثم يستثمرها الواحد منهم بكل جد ونشاط، وهو يترقى في درجات معرفة الله -تبارك وتعالى- والتقرب إليه، والإنس به -سبحانه وتعالى-.

عشر ذي الحجة

فتكون هذه الأيام بمثابة محطة تعبئة للوقود الإيماني يتزود منها لما بقي من له من أيام العام، فرمضان محطة تعبئة وفي عشرها الأخيرة كان حجر الأساس وهو قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والحج محطة تعبئة وفي العشر الأول كان الاكتمال والتمام بقوله تبارك وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

التواصي بتقوى الله في السر والعلن 

قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)

تزود من التقى فإنك لا تـــــــــدري           إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة            وكم من سقيم عاش حينا من الدهر

خصائص العشر الأول من ذي الحجة وفضائلها

قبل أن نشرع في تفاصيل خطتنا التي تجعلنا نستغل العشر الأول أحسن استغلال، لنا أن نتساءل في البداية: ما هي خصائص العشر وفضائلها؟

تتميز العشر الأول من شهر ذي الحجة بعدة خصائص لم تجتمع في غيرها، نذكر منها: قوله تعالى:

وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىٓ أَيَّامٍۢ مَّعْلُومَٰتٍ، قال بن عباس-رضي الله عنهما-: الأيام المعلومات هي العشر الأول من شهر ذي الحجة

أقسم الله بها

ومن خصائص الأيام العشر الأول أن الله-عز وجل-أقسم بها قائلا: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وقد قال بن عباس-رضي الله عنهما-: المراد بها العشر الأول من شهر  ذي الحجة.

أفضل أيام للعمل الصالح

ومما يجعل الموسم متميزا أنه ميدان المسارعة في الخيرات والتسابق في الطاعات، بل هو أفضل أيام العمل الصالح، فما تقرب المتقربون إلى الله-عز وجل-أفضل من هذه الأيام المباركات، وذلك لما رواه البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:

ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلًا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء

الحج

إن فضل هذه الأيام يتجلى باعتبارها موسما للحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، ففيه أيام عظام، وليال كرام، مشاهد الحجاج الكرام وهم يطوفون بالبيت و يسعون بين الصفا والمروة،ويقفون بعرفات، يحدو بهم النشيد الرباني: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك، لا شريك لك)

ذي الحجة

يا لها من أيام عظيمة، منها يوم التروية في الثامن من شهر ذي الحجة، وفيه يصعد الحجاج من مكة إلى منى ملبيين بالحج، وبعده يوم عرفة  يوم مشهود، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس، دون أن نغفل يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر،  ولقد  ورد فضله في الجامع الصحيح، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:

أعظم الأيام عند الله يوم النحر

اكتمال الدين

ومن خصائص هذه الأيام أن الله أكمل الدين فيها وأتم على عباده النعمة، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)

إذن؟

فهذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا، كما جاء في مسند البزار عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:

أفضل أيام الدنيا العشر

يعني العشر من شهر ذي الحجة. فيا لها من أيام عظيمة، وساعات ثمينة، اجتمعت فيها الطاعات وتعانقت فيها القربات، من صلاة وصيام وحج وصدقات!

فهل من مشمر لاستغلال هذا المواسم الكريمات؟ هل من متسابق في مضمار الخيرات؟ هل من مجيب لنداء رب الأرض والسموات؟

كيف نغتنم العشر الأول من ذي الحجة

بعد أن تعرفنا على فضل هذه الأيام المباركة، فكيف نغتنمها بما يكتب لنا الحسنات ويرفع لنا الدرجات، ويحط عنا الخطيئات؟

طريقنا وعر المسالك والدروب، وزادنا قليل، وكلنا نقائص وعيوب، لذا ينبغي علينا أن نتوب من جميع أنواع الذنوب، ونراقب في كل حركة وسكنة علام الغيوب، ونسارع في العودة إلى الله-تبارك وتعالى-قبل حلول الخطوب، وشروق الشمس من الغروب!

الحج

ذي الحجة

أخص الأعمال قاطبة في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام لقوله الملك العلام:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

التكبير

ومن الأعمال التي تؤدى في أيام العشر ولياليها: التكبير الكبير باسم الإله العلي القدير بقولنا: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد) فكرره وارفع به صوتك يا مسلم، ولقد كان الصحابة الكرام-رضي الله عنهم-يرفعون أصواتهم بالتكبير في هذه الأيام العشر، وهذه ما اختصت به هذه الأيام العشر دون غيرها، ويسمي هذا بالتكبير المطلق بالليل والنهار.

الصيام

ومن الأعمال التي يستحب فعلها في هذه الأيام صيام تسعة أيام لغير الحجاج، وأما الحجاج فلا يصومون اليوم التاسع، للتقوي على الوقوف بعرفة، وأما غير الحجاج فصيام هذا اليوم في حقهم يكفر الله به ذنوب السنة الماضية والسنة الآتية، لما وراه مسلم عن قتادة-رضي الله عنه-قال سئل رسول الله عن صيام يوم عرفة؟ قال:

يكفر السنة الماضية والباقية

وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى، وفي حديث حفصة: (أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كان يصوم هذه العشرة)، رواه أبو داود وغيره بسند لا بأس به، وأما ما قالته عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-: (أن النبي- صلى الله عليه وسلم-لم يصم هذه العشر)، هذا نفي، وحفصة إثبات، حديثها فيه إثبات والمثبت مقدم على النافي، فحفصة أثبتت أن رسول الله يصوم، وعائشة نفت وهذا في حدود علمها-رضي الله عنها-، فتكون حفصة علمت شيئا لم تعلمه عائشة، وأي كان الأمر، فالصوم من العمل الصالح المذكور في حديث البخاري آنف الذكر.

ذبح الهدي أو الأضاحي

ذي الحجة

وفي يوم النحر يشرع ذبح الهدي أو الأضاحي، والهدي سواء كان هديًا واجبًا للنسك كهدي التمتع والقران، أو كان هديًا مستحبًا يهديه المسلم إلي بيت الله العتيق، تقربًا إلي الله سبحانه وتعالى، فإنه  من أجل الأعمال المنوطة بهذا اليوم المبارك يوم العاشر من ذي الحجة، إن أول ما يبدأ فيه في يوم العيد هو ذبح الهدي، وهذا بالنسبة للحجاج.

وأما غير الحجاج فيذبحون الأضاحي،  تقربًا إلي الله سبحانه وتعالى، وسنة نبوية سنها أبونا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأحياها نبينا محم د-صلى الله عليه وسلم-.

والأضحية قربان عظيم يتقرب بها المسلم إلى الله، ويرى الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- أن ذبح الأضحية واجب على الموسر، وأما جمهور أهل العلم فيرون أنه سنة مؤكدة، وليس بواجب؛ وعلى كل حال فذبح الأضاحي والهدي في هذا اليوم وما بعده يدل على فضل هذا اليوم؛ وهو المراد بقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، فصل صلاة العيد، وأنحر هديك، أو أضحيتك في هذا اليوم كما جاء في الصحيحين عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله:

إن أول ما نبدأ به يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع  فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء

ويسن للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي للأقارب والجيران و والفقراء، قال تعالى:(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، فكونوا من أهل الإحسان والعطاء، ولا تنسوا إخوانكم المعوزين والفقراء!

واعلم يا مريد التضحية أنه إذا حلت بك العشر، فلا تأخذن شيئا من الظفر أو الشعر.

ختاما

الكون كله يردد مع المسلمين هذه الشعارات:

يا لها من أيام خالدة مجيدة! ويا لها من فرص ثمينة قد لا تعوض! وستظل يا إخواني مجرد كلمات جمعت في عبارات ما لم نجسد معانيها في معترك الحياة. فدونكم هذه المواسم الكريمة، ألا فاغتنموها بالطاعات والقربات، عسى الله أن يدخلنا وإياكم فردوس الجنات.

عبد الغني حوبة

أستاذ بمعهد العلوم الإسلامية جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي-الجزائر، خطيب بمسجد الصحابة تكسبت الوادي، ماجستير… المزيد »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما شاء الله، ربي يبارك فيك خويا لعزيز عبد الغني
    اياما مباركة عليكم وعلينا وعلى أمة الإسلام جمعاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى