متتالية الهزيمة: كيف نجحت سياسة الخطوة خطوة في تدجين الجماهير
السادات فتح الباب
قبل أن يقوم الرئيس السابق أنور السادات بزيارته الشهيرة إلى الكيان الصهيوني سنة 1977 كان اللقاء بالصهاينة محرماً فضلاً عن زيارتهم. وصلت الحساسية درجات قصوى من المحرمات حتى أن اكتشاف كتاب أجنبي في زاوية بإحدى المكتبات العربية يحمل اسم “إسرائيل” على خريطة في إحدى الصفحات المطوية بدلاً من “فلسطين” كان كفيلاً بتفجير فضيحة إعلامية مدوية، فكيف إذا اكتشفت نجمة داود على علبة حلوى أو دمغة عليها “صنع في إسرائيل” على بضاعة في متجر بعيد؟ طامة كبرى يومها.
لقاءات لكن سرية
هذا لا يعني أنه لم يكن هنالك لقاءات، ولكن المسئولين العرب كانوا يضطرون إلى اللجوء إلى اللقاءات السرية والملابس التنكرية في الزوايا المظلمة. زيارة القدس كسرت “الحاجز النفسي” الذي تحدث عنه الرئيس السابق. ورغم هلع الجماهير وغضبها الجارف مما أقدم عليه السادات وقذفها إياه بشتى النعوت السلبية فإنه كان المنتصر. بينما كان هناك من يحاول الإفادة بخبث من الحدث لقيادة الجماهير نحو رفض “الصلح المنفرد” وليس مبدأ الصلح مع الصهاينة في حد ذاته، وكأن هذه الزعامات نفست على السادات استفراده بهذا “المجد”.
التدرج في التنازل
كانت الجماهير ترفض الكيان الصهيوني وتطالب بكل فلسطين، والقيادات العربية ترفض الانفراد بالسلام وتطالب بأراضي 67 فقط. ولهذا ما لبث الجميع أن أفادوا من وسادته التي امتصت الصدمة الأولى وساروا على خطاه في محطات هامة : 1988 و 1991 و 1993 و 1994 و 2002. فاللقاءات أصبحت علنية والاتفاقات مباحة وتقبلنا فكرة وجود “إسرائيل” مكان فلسطين، حتى أن سقف الخلاف تغير بعد ذلك ولم يعد على مجرد اللقاء والزيارة بل على ما يتم إنجازه فيها من فتات تلقي به “إسرائيل” إلينا. كنا نسمع أنه لم يُخلق بعد القائد الفلسطيني الذي يقبل بالقرار 242 فوجدنا أنفسنا بعد برهة بين قادة فلسطينيين وعرب ليس فيهم من يرفض 242 بل الجميع يطالبون به بصفته إجماعاً قومياً.
بين أوسلو وكامب ديفيد
أصبح الجميع عملياً قابلين بالتفاوض وضمنياً بكون الصهاينة طرفاً له حقوق، إلا أنهم يختلفون على جزئيات ما يتم التفاوض عليه؛ عُشر هنا ونصف عُشر هناك. والدليل على ذلك أنه عندما تم توقيع اتفاق أوسلو 1993 بأيدي أصحاب القضية، صور الحدث بصفته إنجازاً وطنياً مع أنه لا يختلف عما قام به الرئيس السادات في كامب ديفيد ونال عقوبة القتل عليه. بل لقد كان إنجاز السادات أكبر مما أنجزه اتفاق أوسلو، السادات أمّن انسحاباً وإزالة مستوطنات من رقعة كبيرة وهو ما لم يفعله أوسلو ولا وادي عربة، ومع ذلك خُوّن السادات وعزفت الموسيقى لمن بعده، ولكن من يرصد ردود الأفعال الشعبية يجد الحقيقة ماثلة بوضوح وهي أن السادات مهد الطريق ليكون سالكاً لمن بعده وتم تطويع الجماهير لتقبل اللقاءات والزيارات والاتفاقات والأهم أنها كلها مبنية على القبول بحقيقة وجود “إسرائيل”، ولاحقاً “بحقها” في الوجود. ومن اللقاء مع “التقدميين” الصهاينة انتقلنا إلى احتضان المجرمين منهم والتحالف مع المتطرفين.
والغريب أن المجتمع الصهيوني بعدما كان يلهث خلف كلمة قبول أو إيماءة اعتراف عربي أو إسلامي، فإنه هو الذي قتل زعيمه إسحق رابين الموقع على اتفاق أوسلو، أما نحن فقتلنا زعيمنا لأنه رفض مزيداً من التنازلات. وبعد ذلك كرت المسبحة تحت عنوان لن نكون ملكيين أكثر من الملك، وما دام الفلسطيني قد اعترف فلماذا لا نعترف، ونسينا أن أصحاب هذا المنطق هم الذين أجبروا الفلسطيني بشتى أنواع الضغوط والحصار والتجويع على الاعتراف وكانوا يغطون عوارهم بالقول نقبل ما يقبل به الفلسطيني، وهو كذب لأنهم لم يكونوا يقبلون إلا استسلام الفلسطيني أما مقاومته فكانت مرفوضة ومحاصرة ومهددة.
وتتوالى التنازلات والاستدراجات
نعم! تتالت الهزائم والتنازلات والاتفاقات واللقاءات والعلاقات بل التحالفات، بصور لم يكن يتخيلها من خرج في مظاهرة حاشدة ضد السادات في زمنه، ولكنه اليوم يخرج في مظاهرة حاشدة أيضاً ولكن لتأييد أفعال تم اغتيال السادات على ارتكاب ما هو أبسط منها. ولم يعد الصراع مع الصهاينة على مبدأ وجودهم الذي صار مسلماً به ومقبولاً. نعم رجل الشارع لا يعترف علناً بذلك ولكنه استُدرج بنعومة فلم يعد يعترض مجرد اعتراض على ما كان يثور ضد الهمس به في الأمس. لقد تغلغلت الهزيمة في داخله دون أن يشعر. كان صمت النظام في مصر عن غزو لبنان 1982 خيانة كبرى في زمنها، فصارت نصرة فلسطين بل مجرد الدعاء لها والتظاهر لأجلها هي الجريمة. والأنظمة بما فيهم سلطة فلسطين نفسها تؤيد وتمول وتشارك في الحرب على نسائها وحرق أطفالها وحصار شعبها ومحاربة مقاومتها وسط صمت بل تبرير من خوّنوا السادات بالأمس على أقل من كل ذلك.
خطوة خطوة
وتحول الصراع مع الصهيونية إلى خلاف على شئون الحياة اليومية كأي خلاف بين جيران، ومن هو الذي مازال يطالب بما كانت تطالب به الجماهير التي خرجت في مظاهرات حاشدة ضد أنور السادات؟ بل الجماهير التي صوبت اتجاه ثورة يوليو عندما هدرت برفض موقف قيادتها المتردد وليس الموافق على مبادرة إيدن 1955؟ أين هو اليوم موقع من يطالب بفلسطين كلها من البحر إلى النهر، وبتفكيك الكيان الصهيوني الاستعماري، وبعودة اللاجئين إلى وطنهم، وبحظر أي اتفاق سلام واستسلام بواقع وجود الصهاينة على أرضنا، ومن باب أولى يناهض أي لقاء أو تحالف أو تطبيع معهم؟
بل أين هو الفدائي الذي صمد في بيروت صموداً أسطورياً ليتحول بلمح البصر إلى شرطي حارس لأمن الصهاينة؟ ومن يصدق أن القداسة فارقت قضية فلسطين بعد عقود من الجهاد والاستشهاد وأصبحت من نصيب التنسيق الأمني مع عدو فلسطين ضد من مازال يجاهد لأجل فلسطين، وأن يهتف لهذا الرأي الرسمي الشاذ ويهلل له من اتهم السادات بالخيانة وطرده من الأمة فيما سبق؟ وهل كنا نحلم في أسوأ الكوابيس أن يصطف العربي بل الفلسطيني والصهيوني معاً ضد تحرير فلسطين والجهاد لأجلها؟
الفتنة
هل يمكننا بعد ذلك أن نشك في عقولنا وأن ندعي خطأ من يطالب بحقه؟ أم هل يمكننا الزعم أن الاتكال على إمكانات أمة عظمى كأمتنا لإزالة السرطان الصهيوني الخبيث فيه شيء من عدم الواقعية؟ أم أن فرقة بلادنا وضعفها وهزيمتها هي المنافية للواقع مع كثرة إمكاناتها التي تصدت بها لدول عظمى مجتمعة في تاريخها، وستكون سقطتنا اليوم مجرد لمحة مظلمة في هذا التاريخ الطويل؟ وإذا كان صاحب الموقف المقاوم هو اليوم المتطرف الخشبي المعزول وربما الخائن بعدما كان الجميع على هذا الرأي سابقاً، فهل مات السادات فعلاً؟
“عن حذيفة رضي الله عنه (صاحب السر والعالم بالفتن) قال:
إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا، فلينظر فإن كان رأى حلالاً كان يراه حراماً فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حراماً كان يراه حلالاً فقد أصابته الفتنة
المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، دار الكتاب العربي، ج 4 كتاب الفتن والملاحم ص 467، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي في التلخيص.
الخلاصة:
إن سياسة النفس الطويل التي يتبعها الصهاينة وحماتهم الغربيون في تناولهم لصراعنا معهم ليست سياسة عبثية وقد أتت أكلاً طيباً لهم، لا من الزعماء الذين لا قيمة لهم، ولكن من الشعوب التي ثبت أن بالإمكان غسل أدمغتها بالصبر والأناة. ولكن دوام الحال من المحال.