كيف تحوَّلت كرة القدم لأداة بيد السلطة ورجال الأعمال؟

في عالم تقاطع كرة القدم والمال والسياسة والمصالح برز المجلس العسكري الأرجنتيني الذي قاد انقلابًا عسكريًا استولى على إثره على الحكم في 24 مارس عام 1976، ليُثبِّت أركان دولته العسكرية بعد استضافته نهائيات كأس العالم للعام 1978، حيث لُعِبَت المباراة النهائية في استاد يبعد أقل من مِيلٍ واحدٍ فقط عن أكبر معسكر اعتقال في البلاد، حيث آلاف المعتقلين يُحتجزون في غرف التعذيب، لتُعلِّق إليسا توكار Elisa Tokar–إحدى المعتقلات في هذا المعسكر-عن الحدث قائلةً:

إذا أردت القول أن صيحات الجماهير للتشجيع كانت تغطي على صرخات المعتقلين من التعذيب؛ فهذا صحيح تمامًا.

تلك المباراة التي اختتمها المُعلِّق قائلًا: “إنها أفضل كأس عالم على الإطلاق، تنظيم غير عادي، آلاف وآلاف الأعلام، آلاف وآلاف الحناجر تهتف. 25 مليون أرجنتيني خلف لون واحد، السماوي والأبيض… كرة القدم معجزة بلادنا، بلادنا الرائعة التي انتقدها الآخرون بشدة”[1]

ماذا فعل العسكر في الأرجنتين لتحويل السخط الجماهيري على انقلابهم إلى معركة يفوزون فيها على مَن “انتقد النظام بشدة”، لتتخطى فرحة الفوز بالمباراة أسوار الملعب، وتعمل على إلهاء جماهير الأرجنتين عن إخوة لهم في ذات البلاد يُعذَّبون على بُعدِ ميل واحد فقط، لا لسبب إلا أنهم أرادوا لهذه الفرحة التي تَعُمُّ الاستاد لساعتين، أن تغمر الأرجنتين إلى الأبد؟!

لماذا يلجأ الناس إلى متابعة كرة القدم؟

لعبة شعبية وجد فيها الشعب المكلوم متنفسه عندما انفصلت العلاقات الاجتماعية والأسرية، وشُوِّهت الروابط الدينية، فلجأ الناس إلى الارتباط بأواصر جديدة يعلوها الحماس ويتفاعل معها المتابعون كما الممارسون، يجد الشعب فيها ضالته بعد يوم من الكدِّ والتعب، ليبدأ متعته في التشجيع وتأييد فريق أو منتخب علَّه يحقق له مأربه ويخطف هدف الفوز، أو يستمتع بتلك المراوغة من صانع الألعاب، أو رأس الحربة الذي سجَّل هدفًا عالميًا صار حديث وسائل التواصل الاجتماعي إلى الصباح.

شعر الجمهور بوجود وشائج وصلات ومجتمع خاص خلقته هذه اللعبة، مجتمع تربط أفراده ذات الاهتمامات، يجمعهم ذات الفرح وذات الضيق، حتى صارت مؤازرة الفريق والسفر خلفه هي قضيتهم التي يقاتلون من أجلها. جاء هذا في ظل انعدام حرية التعبير في الدول القمعية والفاشية، عكس تلك التي يحصلها عليها الجمهور داخل نطاق كرة القدم والتي أنشأوا من أجلها المنصات والمنتديات والصفحات؛ فصارت الكلمة العليا في الكرة للمشجعين، بل ووصل هذا حدّ قدرة الجمهور على التأثير في الجهاز الفني لإشراك بعض اللاعبين واستبعاد البعض، فأضحت كرة القدم هي عالمهم المثالي، ومجتمعهم الذي يجدون فيه متنفسهم.

أمام هذا التأثير والارتباط والانتماء، وجدت الحكومات ما يجمع الشعب رغم الخلاف، بل ما ينسى به الشعب همومه واضطراباته، والأكثر من هذا أنَّ الجمهور على أتمَّ الاستعداد لأن يدفع أمواله للحصول عليه… فهل تُترَك مثل هذه الفرصة؟!

كرة القدم وعالم المال

عندما يتعلق الأمر بالمال وكرة القدم، فمن المؤكد أن وضع النادي المالي يمكن أن يُسهم بشكل كبير في شعبية وأداء الفريق، ولكن قد يتوقع البعض أن رؤساء الأندية يدفعون لإتمام الصفقات والانتقالات من مالهم الخاص، ومن المستحيل أن تُدِّر تلك اللعبة الشعبية أموالًا للأندية، لذلك يتولى رئاسة معظم أندية كرة القدم في العالم بعض مشجعي النادي من المليارديرات أو مجموعة من رجال الأعمال! فدعونا نلقي نظرة على بعض الإحصاءات المتعلقة بعالم المال وكرة القدم، لنعرف من المستفيد ومن الذي يدفع حقًا تكلفة الانتقالات والصفقات:

بقيمة تصل إلى 4.79 بليون دولار، بلغ الإنفاق على رسوم الانتقالات رقمًا قياسيًا جديدًا في العام 2016[2]، وما هذا بُمستغرب فلقد أكمل بول بوغبا في صيف 2016 صفقة انتقاله من يوفنتوس إلى مانشستر يونايتد برقم قياسي عالمي بقيمة 105 مليون يورو بالإضافة إلى المكافآت،[3] كما أبرم نادي يوفنتوس لكرة القدم صفقة انتقال الأرجنتيني جونزالو هيغوين القادم من نابولي الإيطالي مقابل 90 مليون يورو، تدفع في سنتين ماليتين. ويبدو أننا على موعد مع أرقام قياسية جديدة لهذا العام (2017): فلقد بلغت صفقة انتقال البرازيلي نيمار إلى باريس سان جيرمان قادمًا من برشلونة الإسباني 222 مليون يورو،[4] فيما أعلن برشلونة الإسباني، ضم عثمان ديمبلي من بروسيا دورتموند الألماني، مقابل 105 ملايين يورو، إضافة للامتيازات والحوافز الأخرى.[5]

فيبقى السؤال ما هو مكسب الأندية من هذه الصفقات غير المعقولة؟

مانشستر يونايتد قيمته الإجمالية في سوق المال 3.69 مليار دولار، أما وارداته السنوية فقد بلغت 765 مليون دولار للعام 2017.[6] فيما تبلغ قيمة برشلونة الإسباني 3.64 مليار دولار بواردات سنوية 688 مليون دولار، مقابل 3.52 مليار دولار لريال مدريد الإسباني بواردات سنوية 685 مليون دولار.

فهذه فقط عائدات الموسم 2016/2017 في الدوري الممتاز الإنجليزي باليورو.

فيما ينقل موقع خزينة الكرة عن تقرير “ديلويت المالي لكرة القدم ل 2017 في إحصاء لموسم 2015/2016 أغنى الأندية ومصادر دخلها

أين الجمهور من هذه المليارات؟

يستطيع المصريون تحديدًا الإجابة عن هذا السؤال بدقة، إذْ عايشوا منذ أيام المكافآت التي حصل عليها لاعبو المنتخب الأول نظير صعودهم إلى كأس العالم، ويأتي هذا في ظل التأكيد الحكومي المستمر على أن المصريين “فقراء أوي”

هل حقًا تؤصل كرة القدم للوطنية؟

وفي سبيل إلهاء الشعب بكرة القدم أكثر، تدعي الحكومات أنّ كرة القدم تؤصل للوطنية[7] وحب الوطن والتضحية والبذل في سبيله، ولكن يبدو أنّ الواقع له كلمة أخرى، فهذا زين الدين زيدان المولود لأبوين جزائريين يشارك الفريق الفرنسي في مبارياته، فريق البلاد التي احتلت بلاد والديه، يلعب من أجلهم ويحقق لهم الانتصارات ويُحرز البطولات. وكذلك نجم فرنسا تيرى هينرى فإنه تخلى عن أصوله الكاميرونية لصالح اللعب للمنتخب الفرنسي…[8]

أمثلة لإلهاء الشعوب بكرة القدم

شعوب تعاني الفقر والجهل وغياب الدين عن الحياة العامة وغياب حقوق الإنسان، وحكام يبحثون عن أي إنجاز لاستغلاله لتثبيت أركان ديكتاتورياتهم؛ فصنعوا للتغيب والإلهاء سجونًا أسموها الاستادات وأنفقوا عليها المليارات… ظاهرة بلا شك لها معطياتها التاريخية والواقعية التي تشهد على إلهاء الحكامِ للشعوب بالرياضة الأكثر شعبية في العالم، فهذا موسيليني يضغط على الحكام واللاعبين لكي تفوز إيطاليا بكأس العالم 1934 التي كانت تستضيفها بلاده، ثم استغلال ذات البطولة كدعم لشعبيته ودعاية لنظامه الفاشي فجميع اللاعبين مجبرين على أداء التحية الفاشية وارتداء قمصان تحمل شعارات فاشية.[9] ليتبعه هتلر بذات الخطة في أولمبياد برلين عام 1938 ليستغلها في نشر أفكاره.

كما يحمل مونديال 1970 قصة إضفاء الشرعية على الحكم العسكري في البرازيل الذي استولى على الحكم عام 1964، وتصاعد الأمر إلى ذروته في مونديال 1986 مع الأرجنتين صاحبة الباع في تسييس كرة القدم لإلهاء شعبها، عندما نجحت في إقناع الجماهير بأن فوز منتخبها الوطني على إنجلترا يُعتبر تعويضًا عن الهزيمة العسكرية في حرب فولكلاند.[10]

لتأتي بطولة الأمم الإفريقية للعام 2006 للتأكيد على استخدام الرياضة في إلهاء الشعوب، حيث استغلها نظام مبارك للتغطية على حادث غرق عبارة السلام 98، وفي النسخة التالية التي فازت بها مصر أيضًا وملأت شوارعها الاحتفالات كانت غزة تحت الحصار، والذي ربما لم يسمع عنه الجمهور إلا من خلال ارتداء لاعب المنتخب الأول لكرة القدم–محمد أبو تريكة-قميصًا يحمل شعار «تعاطفًا مع غزة». وفي كل مرة كان يبتلع المصريون الطُعم ويُلهون بكرة القدم عن حدث عظيم، فما بين غرق وحصار أو حتى أوضاع بلادهم.

وازداد الأمر سوءً مع النظام المصري الحالي، فما بين 1500 شخص على قوائم الإرهاب يوم مباراة مالي، ومقتل ثمانية مدنيين يوم مباراة أوغندا، واعتقال العشرات في الذكرى السادسة لثورة 25 يناير يوم مباراة غانا، وحكم عسكري بالمؤبد على 133 مدني يوم مباراة المغرب، ورفع أسعار الزيت والسكر يوم مباراة بوركينا فاسو[11].

وماذا إن استفاقت الجماهير من هذا الأفيون؟

لا جديد فوق أرض الطغاة، فكل من يستفيق مصيره السجن أو القتل أو المطاردة، فالجميع يجب أن يبقى مُخدَّرًا لا يعلم ماذا يدور حوله، وليس له أن يسأل عن سياسات البلاد، وما تعرض له جمهور الأهلي والزمالك في واقعتين هما أسوء ما مرَّ على الرياضة المصرية، خير شاهد على مصير من يستفيق ويُخرج الكرة خارج ملعب الإلهاء، فكانت مذبحة بورسعيد بانتظار جماهير الأهلي إثر هتافاتهم ضد المجلس العسكري، وكانت مذبحة الدفاع الجوي بانتظار جماهير الزمالك لتنديدهم بالنظام وسياساته.

ففي ظل هذه العلاقة المتشابكة بين أقدام اللاعبين وعقول السياسيين يقف الشعب حائرًا مُتسائلًا: أبهذا يجب أن نفرح؟ وهل يمكن أن تكون كُرة تتقاذفها الأقدام هي مصدر فخرنا وعزنا؟ وهل إخراج الحكام كرة القدم خارج ملاعب الرياضة إلى ساحات السياسة وكسب التأييد الشعبي، هو ما ألهانا عن أمثال إسلام حمزاوي معتقل برج العقرب؟

فإذًا أين يجب أن تكون حدود الرياضة، ونهاية وقت التشجيع؟


المصادر

الكرة ” افيون الشعوب “

في العمق – كرة القدم .. اقتصاد .. سياسة .. و رياضة
الأبعاد السياسية والاقتصادية لظاهرة كرة القدم

الأنظمة الاستبدادية تستثمر كرة القدم سياسيا

[1] عقيدة الصدمة للكاتبة ناعومى كلاين – مترجم للعربية – كامل

[2] تقرير FIFA TMS لسوق الانتقالات العالمية 2017: انتقالات دولية قياسية في عام 2016

[3] Official: Pogba to Man Utd for €105m

[4] رسميا | نيمار ينتقل من برشلونة إلى باريس سان جيرمان في صفقة تاريخية

[5] أخيرا.. برشلونة يحسم صفقة عثمان ديمبلي

[6] Worlds’s Top 20 Richest Football Clubs

[7] من وجهة نظر الحكومات، أما وطننا كمسلمين هي كل أرض يُرفع فوقها الأذان وتحكمها شريعة ربنا

[8] لاعبون لعبوا لغير منتخباتهم ونجحوا

[9] حكايات من المونديال «3»..موسولينى للاعبيه: الكأس أو الإعدام

[10] “المونديال” والسياسة: أي علاقة؟

[11] «قرارات يوم المباراة».. كيف استفاد النظام المصري سياسيًا من بطولة إفريقيا؟

مي محمد

طالبة علم، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى