كتاب خط التحول التاريخي: كيف وصل بنا الحال لهذا الوضع المزري؟!
لأزمنة مضت، كنا أمّة واحدة كالجسد الواحد وكان قلب هذه الأمّة الذي يضخ الحياة في شرايينها هو العقيدة، وهو ما أدركه العدو وجعله هدفه؛ فصرنا شراذم متفرقة متعادية.. فكيف وصل بنا الحال هكذا؟!
في هذا الكتاب نمضي مع خط التاريخ محاولين سبر أغوار هذا الأمر
كان هدف العدو الأول هو نزع هوية هذه الأمة، فبلا هوية لا أمة بل تابع ذليل مشوه! وإنّ أخطر ما يصيب الأمم هزيمتها في أعماقهـا. لإن الشعوب تنتصر يوم تحيا بعقائدها وتستعلي بهـا، وتهزم يوم تتخلى عن عقيدتها، فالهزيمة تبدأ داخلية ثم تظهر على ساحة المعركة.. فكيف تمت عملية التحول؟
أطوار معركة التغيير
الأول: اللقاء بين الشرق والغرب في ميدان القتال
حاول العدو في ميدان القتال فمُنّي بهزائم فادحة، وأبلى المسلمون بلاءً حسنًا، وكانت الأمة بكاملها تجتمع لمواجهة العدو، وكان لعلماء الدين والأزهر دورًا بارزًا في حشد الأمة. ظلت الأمور هكذا حتى أُسِر لويس التاسع ملك فرنسا وأعظم ملوك أوروبـا عندها قال كلمته الشهيرة التي صارت دستورًا:
إنّ المسلمين لا يهزمون ما دامت عقيدتهم قائمة، ويجب أن تبدأ الحرب على المسلمين بحرب الكلمة
وجاء الاحتلال الفرنسي لمصر مؤكدًا لما قاله لويس التاسع حيث إن هذا الهجوم الصريح على مقدسات الأمة دفعها للانتفاض ومواجهة عدوهـا؛ فاتجه الغرب لخوض معركة اللسان بدل السنان.
الطور الثاني: معركة في مجال الثقافة والفكر والدين
كان هدف هذا الطور انتزاع عقيدة المسلمين وقيمهم وأفكارهم وهويتهم، وإحلال كل ماهو فاسد بدلًا منها؛ فالقومية دين، والانحلال حرية وفضيلة! وما يدري المفتتن بهذا أنه تحرر من قيد الشرعِ وأصبح عبدًا للهوى. الأخطر في هذا الطور أن تولى الاستعمار تربية طبقة بديلة له من بني جلدتنا. أَوَ حسبت أن يداهمنا الاستعمار ويقتل من يقتل ويخرب ما يخرب، ثم يرحل هادئ البال مطمئنًا؟! والله سبحانه وتعالى يقول: “وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ “
ما تركنا الاستعمار إلا بعد أن اطمئن لوجود من ينوب عنه وينفذ أفكاره ومخططاته؛ فأُبعِد الصادقون عن المناصب وإدارة وسائل الإعلام. وها هو اللورد ميكالي رئيس اللجنة التعليمية في الهند يقول:
يجب أن نُنشأ جماعة تكون ترجمانًا بيننا وبين الملايين من رعيتنا، وستكون هذه الجماعة هندية اللون والدم، إنجليزية الذوق والرأي واللغة والتفكير
أما المستشرق الإنجليزي جب فقد قال مؤكدًا:
هذا التعليم هو السبيل الوحيد لفرنجة البلاد الإسلامية وتغريبها، لقد كان التركيز قويًا لإنشاء الطبقة التي تأخذ بوجهة نظر لا سلطان للدين عليها، وحينئذ يمكن الجلاء عن أرضهـا وتسليمها زمام السلطة فيها لأنها امتداد لفكر المُحتل
الطور الثالث: بين أبناء الشرق أنفسهم في ميادين السياسة
لا يمكن ازدراء العقيدة الدينية للشعب، لكن.. لندع هؤلاء الذين يقودون دفة الدولة على حذرٍ يدكون، وفي مكرٍ، الصرح الروحي للمجتمع الإسـلامي “كرومر”
هو طور فرض الحضارة الغربية بالقوة العسكرية، وقام أبناء الوطن الذين رباهم الاستعمار باجتثاث القيم وشنق المباديء وصب ويلاتهم على المخلصين الصادقين. ويقول الكاتب في هذا الشأن: أن صور القسوة والوحشية التي عامل بها الغرب أبناء المسلمين لتبدو هزيلة ضعيفة بجانب الصورة التي عاملهم بها الحكام المحليون “الإنجليز السمر”. ويكفي ما عاناه: الباتان على يد أمان الله خان، والأكراد على يد كمال أتاتورك، والإخوان على يد جمال عبدالناصر وزبانيته.
وفي هذا الطور مضى التغيير في ثلاث خطوطٍ متوازية:
الإفساد الأخلاقي
انهارت القيم والدين في أوروبا لوجود العداء بين الدين والعلم، ولكن هل حدث في واقعنا نحن أن قمنا بتشغيل النساء ثم إعطائهن نصف أجورهن مما دفعهن لطلب المساواة! أو أن أُحرِق عالم لأن الدين يرفض رأيه ويعادي العلم! ما حدث في بلادنا وأدى للانحلال هو الاستعمار الغربي الذي تفرضه علينا الطبقات الحاكمة التي خلفها الاستعمار بديلًا عنه! ولطالما رأينا الانبهار في أعينهم، ولمسناه في نبراتهم وهم يحدثوننا عن تقدم اليابان ونهضتها بعد كبوة! لكنهم أخفوا عنا حقيقة هامة، أن معتقدات الأمة الدينية هي جزء أصيل من حضارتها وتقدمها إذا فقدته صارت بلا هوية! لم يخبرونا أن اليابان لم تتنازل يومًا عن معتقداتها ولا عاداتها حتى في الطعام، لتشوه نفسها بعادات الغرب! لا هي تركت العصي لتأكل بالشوكة والسكين ولا هي تركت موروثاتها الدينية.
بل وأيضًا حين يحدثوننا عن تقدم الغرب، يخفون أنه تقدم مادي بحت، أما القيم والسلوك الإنساني فيكاد يتلاشى من قواميسهم. أيريدوننا أن نكون مثلهم في الأخلاق والعادات؟! وقد كان! قلدناهم في سلوكياتهم المنحطة، ورمينا التقدم المادي خلف ظهورنا، ونبذنـا الدين والأخلاق معًا! ويتلخص هدف هذا الخط التغييري في قول زويمر رئيس المنصرين في مؤتمر القدس 1934:
نريد أن نُخرج جيلًا لا صله له بالله، ولا صة له بالأخلاق التي تقوم عليها الأمم
إفساد المرأة
ركزوا على المرأة لأنها قوام المجتمع، وإذا فسدت المرأة فسد أبناؤهـا وانهار بيتها الذي هو نواة المجتمع، وكما قال نابليون: “إنّ المرأة التي تهز السرير بيسارها، تهز العالم بيمينهـا”
اقرأ أيضًا: أمهات خالدات
اقرأ أيضًا: لا تدعهم يغتالون طفلك فكريا!
وهو أيضًا ما أدركه كرومر فقال:
المرأة مدار الحياة الاجتماعية، والوصول إليها وصولٌ للأسرة كلها، ويصفق المنصرون لأن المرأة المسلمة في مصر تخطت عتبة دارهـا، نزعت عنها حجابها؛ فإن فعلها هذا يُتيح لهم أن يتغلغلوا عن طريق الأسرة المسلمة بتعاليمها
وقاد هذا التغيير العظيم ومسخ الفطرة أمثال هدى شعراوي وصفية زغلول فكن نساء أفسدن أمة.
إفساد التعليم
يقول زويمر:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت منذ1882م على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية، ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقالا للدين ولا للكرامة ولا للوطن حرمة
ونظام التعليم الآن هو كما أراده دانلوي واللودر كرومر.
اقرأ أيضًا: من يكتب مناهج التعليم لأولادنا وماذا يزرع فيهم
إفساد الصحافة والإعلام
فكما نرى في هذه الأنظمة صار الإعلام يقود الناس ويسوقهم لما يريد، ويقلب الحقائق حتى يستقر في النفوس ما أرادوه.
إفساد المؤسسات الدينية
وبالطبع لم ينسوا المؤسسات الدينية فهي التي تقود الجماهير وتحيي الهمم، فأفسدوا فيها فسادًا كبيرًا ويكفي أن تنظر كيف كان الأزهر قديمًا يدافع عن عقيدة أمته وكيف هو الآن يبحث مع النصارى في أمر تجديد الخطاب الديني
محاربة نصوص الشريعة
والتشكيك في مصادر التشريع الإسلامي قد تمثل في الهجوم على:
- القرآن الكريم نفسه
- السنة المشرفة، لكونها مصدر التشريع الثاني وقد جاء الهجوم عليها متمثلًا في نواحٍ عدة:
- النيل من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
- الطعن في صحيح البخاري
- النيل من شخصية أبي هريرة رضي الله عنه
- محاربة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن
- تشويه ومحاربة التاريخ الإسلامي فصرنا كالمقطوعِ من شجرة لا يدري أصل له ولا نسب
- استبدال الثقافة الغربية بالثقافة الإسلامية
تمزيق الأمة
وحدة الأمة هي من أهم عوامل قوتهـا وبقاءها صامدة، وقد عمل الأعداء على استغلال هذ الأمر ضاربين عصفورين بحجرٍ واحد. فحين نزعوا عن الناس حميتهم للعقيدة وضعوا بدلًا منها العصبية القومية، فقطعوا روابط الإخـاء ونزعوا العقيدة من الصدور. وقد تحدث الكاتب عن آثار هذه الأمور في مصر وتركيا تحديدًا، ثم أفاض الحديث حول الحركات الإسلامية ومقاومتها لسبل التغريب هذه، في المقابل استماتة عبيد الغرب والاستعمار من بني جلدتنا أصحاب الحكم في منع هذه الحركات من الوصول للسلطة وقيادة الأمة وتحريرها، وإن عبوديتهم للغرب تدفعهم لموالاة كل كافرٍ على كل مسلمٍ صادق!
كيف نعود؟
إن هؤلاء يكرهون الإسـلام لكن لا يمكنهم التصريح بذلك، فإنهم لن يجرأوا على الظهور حين نكون مسلمين، وحين نكون عباد الله حقًا نقضي على عبيد الاستعمار. فيا باحثًا عن الحق، هل تعلم أن بيجن نفسه (رئيس الوزراء الإسرائيلي) في نقاشه مع السادات حول الضفة الغربية التي هي حقنا بالكامل قال:
أنا رجلٌ مؤمن بالتوراة، رباني الأب الروحي جابوتنسكي كما ربى حسن البنا عندكم سيد قطب، وأعتبر الانسحاب من الضفة الغربية مخالفة للتوراة ولمبادئي الروحية
من أخبرك أن الحرية هي أن تقتحم الحياة بعيدًا عن عقيدتك، إنّ المسلم تجتمع الدُنيا والآخرة لديه في خط واحد، فهو يطوع دنياه لبناء آخرته. أَوَليس بناء الأمة مما ستحاسب عليه في الآخرة؟
إن الإسلام قال: “ولقد كرمنا بني آدم” الله أكرمنا فكيف نرضى بالذل؟! ولأن الله خلق الإنسان وهو أعلم به، فقد علّمنا أن نقاء الإنسان لا يحدث بمجرد النصح بينما المجتمع حوله يغرق في الفساد، لهذا كان الإسلام شريعة تقام على أرض الواقع تحكم أنظمة الدولة بأكملها. مجتمع ليس بحاجة للمناداة بحرية المرأة لأنها تستمد حريتها من عبادة الله عز وجل والخضوع له وحده وفقط، تمتلك حريتها من عقيدتها التي تجعلها تحكم على الأشياء وتدرك الخطأ والصواب فلا يستخدمهـا أحد في الترويج لمنتجاته كالرقيق. أما العلاقة بينها وبين الرجل فهي علاقة تكاملية. وهي تدرك قيمتها وتشعر بذاتها حين تربي أبناءها وتغرس فيهم العقيدة السليمة، وهو جهدٌ كبير وعملٌ إيجابي
اقرأ أيضًا: كوني حواء
والشعوب ستكون حرة لا تعبد إلا الله وحده، لا يستعبدها البشر بل لها الحق في توجيه الحاكم إن أخطأ. وكما يقول الأستاذ محمد قطب:
هذا المجتمع بالنسبة للمسلمين عقيدة، ولغير المسلمين نظام يعيشون فيه آمنين لا يمس عقيدتهم مساس
المصادر:
د. عبدالله عزام، خط التحول التاريخي، مركز الشهيد عزام الإعلامي: بيشاور – باكستان، 1975
جميل جدا و ساقوم بقراءة الكتاب