الحسن البصري: فقيه على هَدْي الصحابة

كان أمر تربية الناس موكل إلى أنبياء الله ورسله، يبعث الله النبي في قومه خاصة يأمرهم وينهاهم ويعلمهم ما تسمو به نفوسهم وترقى به أخلاقهم ثم مضت هذه الحقبة.

ونزل كثير من الأنبياء في بني إسرائيل وجاءهم موسى بالبينات وعيسى بالآيات، وظلَّت هذه الأمم تنعم بميراث أنبيائهم يُلقنه لهم أحبارهم، فما اختلفوا وانحطوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، فأخذوا يعملون هواهم ويحرفون الكلم عن مواضعه مرضاةً للناس تارة ولأنفسهم تارة وللحكام تارة.

إن العلماء في كل زمان هم كالقلب في جسد ابن آدم إن صلح صلح الجسد كله وإن فسد فسد الجسد كله، فبهم يعرف الناس مراد ربهم منهم وما كُتب عليهم وما حُرِّم، على عاتقهم ميراث النبوة وحقيقة الرسالة وهم حماة الرعية من ظلم الراعي وحائط الصد ضد الغلاة والمفرطين.

لهذا تكون الطامة في فسادهم وخراب الأمم في تركهم لعلمهم وتطويعهم لما في أيديهم من العلم لصالح الحكام وغيرهم.

وتاريخنا يكتظ بعلماء حملوا راية العلم ورفعوا شأن الدين القويم، وقالوا كلمة الحق لم يخشوا في الله بطش حاكم أو رضا رعية، ولم يريدوا بعلمهم إلا وجه الله فارتفعت أسماؤهم وكُتبت في التاريخ بماء الذهب، ولعلنا نُلقي الضوء على واحد منهم حفظ الله به الدين في زمان الفتن وهابه الطغاة المتجبرين لجلال علمه وقربه من الله إنه ربيب بيت النبي صلي الله عليه وسلم الحسن بن يسار والمشهور بالحسن البصري.

نشأته

كانت “خيرة” مولاة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تستعد لوضع ابنها الأول وحينما جاء البشير إل، أم المؤمنين تهلل وجهها فرحًا لأن كان لخيرة حظًا من قلبها وكانت أثيرة عندها، وجاءت “خيرة” بابنها فسمته أم المؤمنين الحسن لحُسن وجهه وبهاء طلعته.

ولم تقتصر الفرحة على بيت أم سلمة بل وغمرت بيت الصحابي الجليل “زيد بن ثابت” كاتب وحي النبي صلى الله وسلم لأن والد الطفل كان مولى لزيد بن ثابت وكان من أحب الناس إليه، وبهذا تربَّى الحسن في بيوت طاهرة راقية.

ظل الحسن في تلك البيوت الطاهرة ينهل من علم أهلها ويتخلَّق بأخلاقهم؛ وتتلمذ الحسن على أيدي كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى عن عثمان بن عفان وعن أبي موسى الأشعري وعن عبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعًا.

لكنه كان مولعًا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب متأثرًا بأخلاقه وحسن عبادته، فتخلق بأخلاقه ومشي على خطاه ونهل من علمه الكثير الكثير.

ولما بلغ أربعة عشر ربيعًا رحل مع أسرته إلى البصرة؛ ومن هنا سُمي بها فمكث بها طالباً للعلم وانقطع إلى حلقة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه فأخذ منه التفسير والحديث والقراءات والفقه والبلاغة حتى أصبح عالمًا فذًا فصيحًا. وذاع خبره والتفَّ الناس حوله ينهلون من فيض علمه الواسع حتى أن الملوك والأمراء كان يتلمسون أخباره.

شدته في الحق رحمه الله

وكان الحسن البصري شديدًا في الحق لا يخشى في الله لومة لائم ولا يثنيه عن الصدق سطوة سلطان ولا تجبر ظالم.

  • موقفه من ابن هبيرة

فبعد تولي يزيد بن عبد الملك الخلافة ولَّى على العراق وخراسان عمر بن هبيرة الفزاري، وكان الخليفة أحيانًا يرسل إلى ابن هبيرة بتنفيذ أمور قد تخالف الشرع ويوجب عليه تنفيذها فأرسل ابن هبيرة إلى الحسن البصري وعامر بن شراحبيل المشهور بالشعبي يستفتيهما في هذا الأمر، وقال لهم: أن الخليفة ولاه الله على العباد وهو واجبة طاعته ويرسل إليَّ أحيانًا بإنفاذ أشياء لا أطمئن لعدالتها فهل تجدان لي في متابعتي إياه وإنفاذ أوامره مخرجاً في الدين؟

فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة للخليفة ومسايرة للوالي … والبصري ساكت!!

فالتفت إليه بن هبيرة وقال: وما تقول يا أبا سعيد؟؟

فقال: يا ابن هبيرة خَفِ الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله.

يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبر حيث لا تجد هناك يزيد وإنما تجد هناك عملك الذي خالفت فيه رب يزيد. يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد بن عبد الملك في الدنيا والآخرة. وإن تك مع يزيد في معصية الله تعالى فإن الله يكلك إلى يزيد. واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الله تعالي.

فبكى بن هبيرة حتى بلت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه.[1]

  • تصديه للحجاج

لما تولَّى الحجاج ولاية العراق بنى لنفسه قصرًا مهيبًا في منطقة تسمي “واسط” ولما انتهى البناء دعا الناس للفرجة على هذا البناء الضخم وليدعوا له بالبركة فيه، ولما سمع الحسن البصري بهذا لم يكن ليفوت فرصة اجتماع الناس حتى ذهب إليهم ليدعوهم إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة وكان من جملة ما قال:

لقد نظرنا فينا ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيد وبنى أعلى مما بنى ثم أهلك الله فرعون وأتى على ما بنى وشيد.

واستمر قائلًا: ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه وأن أهل الأرض قد غرّوه.

فأشفق عليه أحدهم من نقمة الحجاج فقال له: حسبك يا أبا سعيد.

فرد عليه قائلاً:

لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه.

وفاة الحسن البصري

وفي ليلة الجمعة في غرة رجب سنة مائة وعشر للهجرة لبَّى الحسن البصري نداء ربه. ولما ذاع خبر وفاته أرجاء البصرة اجتمع الناس من أقطارها الأربعة، وغُسِّل وكُفِّن وصُلي عليه الجمعة في المسجد الذي قضي فيه حياته عالمًا معلمًت فقيهًا ورعاً. وتبع الناس جميعًا جنازته حتى أنه جاء وقت صلاة العصر ولم تقم في المسجد هذا صلاة لأنه لم يبق أحد يقيم الصلاة فيه.

وقفة

إن من عظيم ما ابتُلينا به في زمن غربة الإسلام هذه هو اتجاه العلماء إلى موائد السلطان وتطويع النصوص لإرضائهم والسكوت عن أفعالهم وجرائمهم وحتى كفرهم أحيانًا. وقد قال الحسن البصرة مقالة تقشعر لها الأبدان والله. حين قال: “لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه”.

إذن فالوقوف في وجه الحكام المتجبرين ميثاق أخذه الله على العلماء يُسألون جميعًا عنه يوم القيامة وما نراه اليوم من علماء السلطان إنما هو التدليس بعينه.


المصادر

[1] كتاب صور من حياة التابعين. مع العلم أن هناك من ذكر خلاف هذه القصة في يخص موقف ابن هبيرة.


هشام إمام

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى