الإسلام: ومشروع الاستقلال الكبير
جل الدول الإسلامية، اليوم: تتخذ لها يوما تسميه: بالعيد الوطني للاستقلال، تهدف من خلاله: إلى إظهار بطولات الأجداد والآباء السابقين في الدفاع عن الوطن، وطرد المغتصبين الظالمين… غير أنه عند التأمل والنظر: نجد هذا الاستقلال قاصرا على طرد المستعمر صوريًّا، وإن شئت فقل: مجرد إخراج لجيش العدو من البلاد، مع الاحتفاظ به اقتصاديا وفكريا واجتماعيا…
وإن رسالة الإسلام: التي كانت دافعا لأولئك الإبطال للتحرك العملي من أجل طرد المحتل من أوطانهم، لهي أيضا: قادرة على بعث روح التطلع إلى الاستقلال الشمولي الذي يرقى بالأمة الإسلامية إلى الاكتفاء الذاتي في كل جوانب حياتها: عقديا وفكريا وسياسيا واجتماعيا…
هذا الاستقلال الكبير مما يجب كشفه وتوضيح معالمه، وإيصال فكرته لكافة المسلمين، حتى تعيش الأمة وتحيا على خطاه، وتتجنب الاستقلال الناقص أو المشوه، وذلك أن معنى الاستقلال في الاصطلاح المعاصر: لا يتحقق إلا بترك التبعية للغير وخاصة في القضايا الكلية، جاء في المعجم الوسيط -معرفا كلمة استقلال- «(اسْتَقل) ارْتَفع يُقَال اسْتَقل الطَّائِر فِي طيرانه واستقل النَّبَات واستقلت الشَّمْس وَالْقَوْم مضوا وَارْتَحَلُوا وَفُلَان انْفَرد بتدبير أمره يُقَال اسْتَقل بأَمْره والدولة استكملت سيادتها وانفردت بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية لَا تخضع فِي ذَلِك لرقابة دولة أُخْرَى».1
هذا هو الاستقلال الذي يريد الدين الخاتم أن يعيش عليه المسلمون وينزلوه في حياتهم وواقعهم، والذي ستتجلى مكوناته الأساسية، ودِعَمَاتُه الكبرى في هذه الورقة: مُقدمة التأصيل الشرعي للاستقلال بشكل عام، ومُثَنِّيةً بمجالاته الكبرى، على أن يتم الكشف عن حقيقة المجال، والتأصيل له من خلال القرآن أو السنة، أو السيرة النبوية، ثم بيان كيف يُنزل على الواقع، مع ذكر بعض نتائج هذا التنزيل.
التأصيل الشرعي للضرورة الاستقلال
إن القصد من الحديث في هذا الباب هو ذكر الدليل الشرعي، الذي يثبت ضرورة الاستقلال الكلي للأمة الإسلامية في مجالات حياتها الكبرى، فإذا تحقق الاستقلال الكبير في الكليات، فالاستقلال في الجزئيات سوف يكون تبعا له قطعا.
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] فهذه الآية موجهة للأمة المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض، ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائما ما تعطيه، ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها.2
وهذا عنوان الاستقلال الكلي الذي يدركه كل من قرأ القرآن الكريم، فالمطلوب ليس الاستقلال فحسب وإنما: أن تكون الأمة في الطليعة والقيادة. وسوف يتجلى هذا في جوانب كبرى من الاستقلال الواجب تحقيقه في الأمة:
أولا: الاستقلال العقدي
والمقصود به أن العقيدة الإسلامية فيما يخص الإيمان بالله وبكل قضايا الغيب: أنها تعتمد في ذلك على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، دون الرجوع إلى المصادر الأخرى سواء كانت كتبا إلهية محرفة، أو كانت من وضع البشر.
وقد كان هذا الاستقلال من أقوى ما حرص الإسلام عليه وسعى في تأصيله وتثبيته، وزرع مبادئه في نفوس المؤمنين ومنع التنازل عنه أو التقليد فيه، وذلك أن الإسلام جاء وكل الأمم تعيش على واقع الشرك والانحراف العقدي، فحرر العقيدة من كل صور الشرك وأوجب التوحيد: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31].
ولهذا حرم الإسلام التعلق بالأشياء التي قد لا يظهر للناس أنها شرك، فعن أبي واقد الليثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين3 مر بشجرة للمشركين يقال لها (ذات أنواط) يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله هذا كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}))4 [الأعراف: 138]، وهذا الأثر النبوي يُؤصِلُ أيضا لمسألة رفض التقليد العقدي، فالمقلد فاقد لأهلية الاستقلال.
إذا تقرر هذا فالواجب اليوم: هو العمل على تقريب العقيدة الإسلامية من الناس وشرحها لهم، من خلال التعريف بالله وضرورة توحيده، وبيان الأدلة القاطعة على التوحيد، ثم بيان مفهوم النبوة، ودلائلها، وما يلزم ذلك من إيمان بالرسل والكتب والملائكة… كل هذا ينبغي أن يعرف من جهة الدليل والحجة والبرهان.
إن ترسيخ هذا المبدأ في النفوس يجعلها: تنظر للعقيدة الإسلامية بلغة الاعتزاز الذي لا يقبل التنازل، وتنظر لغيرها بلغة الانحراف الذي يجب إنقاذ الناس منه، فيكون المسلم هو الساعي للتغيير، وليس المستقبل له.
ثانيا: الاستقلال التعبدي
إذا كانت الساحة البشرية اليوم تسعى لإيجاد طريق للتغذية الروحية للإنسان، فإن الإسلام في مشروعه الاستقلالي قد أقام للمسلم برنامجا تعبديا، لا يوجد عند أمة مثله إطلاقا، هذا البرنامج ينطلق من النظافة (الوضوء، الغسل، التيمم) على هيئة لا تشاركنا فيها أي أمة، ثم يمر بالصلاة والصوم والحج والزكاة، كلها على صورة لا نظير لها عند الأمم لا قديما ولا حديثا، هذه العبادات تتأسس أولا على عبادات قلبية، تربط كل الأعمال السلوكية بالله تعالى: مِن توكل وتوبة وخشوع…
ويكفي في باب التأصيل للاستقلال التعبدي معرفة مسألة تحويل القبلة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] فلو لم يُرد الإسلام الاستقلال التعبدي لأبقى حال المسلمين على قبلة أهل الكتاب، ولكنها روح الاستقلال الذي تجد نَفَسَهُ في كل أنواع العبادات.
إن الاستقلال التعبدي يحتاج منا اليوم أن نُعَلمَ الناس أحكام دينهم التعبدية من صلاة وزكاة وصوم وحج.. وأن يتم هذا التعليم على المنهاج النبوي مع التركيز على بيان روح العبادة ومقاصدها.
إن العمل على بناء الاستقلال التعبدي سوف يعطينا مؤمنا لا يخاف إلا الله ولا يتوكل إلا على الله تعالى، ولا يقبل أن يُذل أو يخضع للغير مها كانت قوته وعظمته {يقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
ثالثا: الاستقلال التشريعي
أقام الإسلام شريعة ربانية ذات بعد أخلاقي شامل ومتوازن، تضمنت أحكاما لا عهد للناس بها في زمانها بل وحتى في زماننا هذا؛ اللهم إلا أن يُلقدوا فيها الإسلام ويتبعوا ما فيه.
وإن من أدق النصوص في الاستقلال الشريعي وإن كان شاملا لغيره: حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد قال وهو يخاطب ملك الحبشة معرفا إياه بمضمون الإسلام: «كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام5 ».
إن استقلالية التشريع الإسلامي من المعلوم من الدين بالضروة، فلا أحد يجهل حرمة الربا والاحتكار… لكن الذي نحتاجه اليوم: أن نعرف أحكام هذه الشريعة، وأن نعلم مقاصدها وأهدافها الكلية، وأن نقف على أضرار رفض الاحتكام إليها.
هذا العلم متى ما أُحكم فهمه، وأحسن تعليمه، وقى المسلم من احتلال المنظومة العلمانية لمسحاته التشريعية، فيعمل جاهدا على تطبيق أحكام شريعة الإسلام، ويرفض بكل قوته المناهج التشريعية الوافدة من الدول العلمانية، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].
رابعا: الاستقلال العسكري
المقصود بهذا الاستقلال: أن تكون للأمة الإسلامية، عقيدة دفاعية، وقوة ذاتية، وذخيرة حربية غير تابعة فيها لغيرها، فلا تحتاج أن تأتي أمة غير مسلمة لتدافع عنها وتحارب الأعداء من أجلها، بل هي من تحارب بنفسها وتعتمد على ذاتها. طبعا ليس هذا نفيا للتعاون مع الغير أو الاستفادة منه، ولكن المقصود هو نفي التبعية، وإثبات ضرورة الاستقلالية في المواقف الحربية والدفاعية، فلا يقبل الإسلام من أهله: ما يفعلونه اليوم: إذا يُسَلِمُون أمر حمايتهم لغيرهم من الدول الأخرى، ولا يكون لهم أي رأي عسكري سوى ما يُمليه عليهم الغير.
وقد أوجب الإسلام هذا الأمر ودعا إلى ضرورة تحقيقة في عدة مستويات، وهي صور البناء، وما ينبغي أن يفعل في هذا الزمن، وهذا تفصليه:
مستوى ترسيخ العقيدة الحربية: قال الله تعالى{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111] فالمسلم عندما يخرج مدافعا عن دينه، أو مزيلا للحواجز المانعة من نشره، أو مدافعا عن أرضه وأهله وماله، أو مدافعا عن المستضعفين: إنما يخرج طلبا لمرضاة الله تعالى، وطلبا لجنته، فيصبح المسلم المحارب على عقيدة لا خوف فيها من الحرب أو الموت، كما لا ترهبه قوة العدو ولا عُدته.
مستوى الدفاع الذاتي: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] ولا يتحقق هذا إلا بالقتال الذاتي، لا بالاعتماد على حماية الغير.
مستوى الإعداد العسكري: قال الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] فتكون للأمة الاسلامية قوة عسكرية وصناعة حربية، ينبغي أن تتفوق فيها على غيرها فتكون فيها متبوعة لا تابعة.
مستوى الاستعداد للدفاع عن المستضعفين: قال الله تعالى {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [النساء: 75]
إن الاستقلال العسكري هو الذي يحفظ للأمة وحدتها ويحفظ لها كرامتها وعزتها، ويحفظ لها وجودها، وإذا سقط الاستقلال العسكري، سقطت الهبة، وربما سقطت الأمة، والتاريخ كاشف لك: كيف أُنْهِيَ الوجود الإسلامي من عدة بلدان عندما سقطت القوة، وسقط الاستقلال العسكري.
خامسا: الاستقلال العلمي والمعرفي
من يشهد حال الأمة الإسلامية اليوم، ويرى ضياعها العلمي والمعرفي، ليظنن: أن هذا الدين لا قول له في المعرفة الإنسانية، ولا دعوة له في المعرفة التجريبية… غير أن الحقيقة ليست كذلك فالإسلام قد رسم للأمة الإسلامية منهجا في المعرفة ودعاها إلى استخدام العقول وتحريكها، وحرم التقليد والجمود.ويمكن الكشف عن جوانب من ذلك فيما يأتي:
الدعوة إلى طلب العلم وفتح كل منافده: قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1 – 5] فمجالات القراءة والعلم حسب هذه الآية فقط تشمل: ( العقيدة، وعلوم الكون كلها التي خلقها الله تعالى، وعلوم حلق الإنسان ابتداء من مرحلة الإجنة، وعلوم القراءة وأدوات الكتابة)
فتح مجال التجريب وإعطاء نماذج عليه: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260] وهذه الاية ترسم للمسلم مشروعية التجربة العلمية، والتي تشكل اليوم عصب الرحى في كثير من العلوم.
إن هذا الاستقلال لا يعني أبدا كما تقدمت الاشارة (التعاون والاستفادة من الغير) وإنما ينفي ترك العمل والاتكال على انجازات الاخرين، والتقليد المحض لانجازاتهم في مجال الافكار والمعارف، حتى إنك لتجد لدى المسلم عندما يسقط ضحية الاحتلال المعرفي: تقبل أراء الآخرين على أنها حقائق لا تقبل الجدل رغم تناقضها مع النصوص الشرعية القطعية، مثل الكثير من المخرجات الفلسفية (تصور المدرسة العقلية أو الحسية، أو الوضعية المنطقية: في نظرية المعرفة) ومثل التصور الدارويني لحياة الإنسان.
إن ضبط الاستقلال المعرفي في نظريات التلقي، ودخول المسلمين إلى غمار البحث العلمي، من ضروريات الحياة اليوم التي ينبغي لزوما العمل عليه، وذلك أن تحققه على أرض الواقع: سوف يقي المسلمون من الاستلاب الفكري ومن التبعية العلمية، كما يحمي الأمة الاسلامية من هجرة الأدمغة التي تفضل ترك الأوطان الإسلامية التي لا تجد فيها ظروفا للعمل، ولا إكراما للعلم وأهله.
سادسا: الاستقلال الاقتصادي
يراد بالاستقلال الاقتصادي أن لا تكون الأمة المسلمة تابعة في طعامها وشرابها ودوائها، تابعة بشكل كلي للغير، وهو ما يسمى في الأدبيات المعاصرة بالاكتفاء الذاتي (مرة أخرى: ليس المقصود التعاون بين الدول) وإنما الجمود الزراعي، والتخلف الصناعي، بحيث تجد الدولة لا تنتج ولا توفر طعامها.
ويمكن التأصيل لهذا الاستقلال بكل النصوص الداعية للعمل والاستفادة من خيرات الأرض: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] والنصوص الداعية للزراعة وإحياء الأرض الميتة:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)).6
وعن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)).7
إن النصوص في هذا الباب كثيرة جدا، وهي توجب على الأمة اليوم أن تتحرك اقتصاديا في كل حاجياتها وأن لا تبقى معتمدة على الغير تابعة له.
إن تحقيق الاستقلال الاقتصادي: يحقق للأمة الاكتفاء الذاتي، ويجنبها الوقوع تحت ضغوط الغير الذي لا يقدم لها الطعام والدواء إلا بالتنازل عن أرضها أو مبادئها أو استقلالها في بعض المجالات، كم يحفظ أبناء الأمة أيضا من الهجرة للبلدان الأخرى طلبا للعيش والطعام الذي يفقدونه في بلدانهم.
ختامًا
هذه أصول كبرى يجب لزوما أن تُحقق الأمة فيها استقلالها وإلا ستبقى تابعة، تسير تحت ذيل التبعية والاستعباد للغير، كما أن تحقيق هذه الأمور سوف يُولد لنا أيضا عدة مستويات من الاستقلال، مثل الاستقلال السياسي، والاجتماعي، أما الاستقلال السياسي، فهو أن يكون الحكم وإدارة الحكم للبلاد نابعا من الإسلام ومحكوما بأصوله، وليس تابعا لدول أخرى غير مسلمة، والشيء ذاته يكون في الاستقلال الاجتماعي: فالأمة الإسلامية لها مجتمع محكوم في تصرفه وفي علاقاته برباط العقيدة والعبادة والشريعة الإسلامية.
والخلاصة: أن هذا هو المشوار، وخط السير، وطريق الانعتاق من التبعية، والذلة والهوان الذي تعيشه الأمة الإسلامية عندما تخلت عن قواعد استقلالها: العقدية والتعبدية، والتشريعية والعسكرية والمعرفية والاقتصادية.. فالعزة والكرامة والسبق الحضاري لا بد له من الاستقلال الكبير.
- المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وأخرون، دار الدعوة باب القاف، 2/756 ↩︎
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق –بيروت – 1/447 ↩︎
- معركة حنين: كانت في السنة الثامنة من الهجرة ↩︎
- سنن الترمذي، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، قرم الحديث: (2180) ↩︎
- عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1/336 ↩︎
- صحيح البخاري، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، رقم الحديث (2320) ↩︎
- سنن أبي داود، باب إحياء الأرض الموات، رقم الحديث (3073) ↩︎