
الدرس الغزاوي وبناء مفهوم الشهود الحضاري
يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها في مفتتح كل قرن كما أخبرنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.1 وهو أمر مشهود لمن قرأ التاريخ ووعى الحاضر. فهذا الكم الكبير من الدول والعلماء والحركات طوال القرون التي مضت من حياة الأمة حاولوا بعث الأمة من جديد على هدي القرآن المجيد والرسول الصادق الأمين قدوة الشاهدين على العالمين.
واكتسب هؤلاء خبرات وكسبوا معارك وجولات في جهادهم لأنفسهم وللشيطان ولأعداء الأمة من أتباعه، لكنهم لم يستطيعوا أن يعيدوه محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك كما تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسباب متعددة بعضها يعود للمنطلقات التي انطلقوا منها، أو الأدوات والآليات التي اتخذوها لتحقيق البعث الجديد، أو للعقبات التي وضعها في طريقهم أهل الزيغ والضلال من داخل الأمة، أو الغزاة البغاة من خارجها.
سنوات الظلام.. سقوط الخلافة وبداية الاستعمار

وكان الربع الأول من القرن السابق هو الأكثر شراسة في طبيعة الحرب بين معسكر البعث الجديد ومعسكرات الكفر والنفاق، فقد سقطت آخر حصون الأمة ممثّلة في الخلافة العثمانية؛ مع شكليتها وأمراضها، وتفرقت الأمة شَذَرَ مَذَر كل حزب بما لديهم منشغلون.
وكان حصاد هذا القرن الذي جنيناه اليوم هو ما نراه من ذل وهوان لم تصل إليه الأمة من قبل: استعمار صريح للقرار والموارد والثروات، وقابلية للاستعمار أشد فتكًا منه تأكل الأخضر واليابس وتنشر كل رديء من الخلق والطبائع والسلوكيات، حتى صارت الأمة رخوة لا صلابة فيها، وضعيفة لا قوة، فيها وهينة لا عزة ولا كرامة لها، وصادقنا أشد الناس عداوة لنا، لا، بل اتخذناهم حلفاء وأعوان على بني جلدتنا وأُخوّتنا في الدين، فوجدنا الدول المسلمة تسارع في أشد الناس عداوة لنا بعد مسارعتهم في الشيطان الأكبر يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة.
ووصل الأمر أن كانت الدورة السابعة والخمسون للأمم المتحدة منصةً لإعلان وفاة أي معنى متبقي من معاني الإسلام والإيمان بالله، فتبارى الرئيس الأمريكي ومعه رئيس وزراء الكيان الصهيوني في الخطابة معلنين عن شرق أوسط جديد يحل فيه السلام على الطريقة الإمبريالية الصهيونية تختفي فيه فلسطين لتحل محلها إسرائيل، ويختفي فيه الإسلام لتحل محله الديانة الإبراهيمية، وتختفي فيه العروبة لتحل محلها الشرق أوسطية. وتجهّز الجميع للاحتفال بسقوط أهم قلاع الإسلام المتبقية ولم تدخل بعد في السلام الصهيوإمبرالي ممثلة في أرض الحرمين وإندونيسيا أكبر وأهم دولتين مسلمتين من حيث المكانة الدينية والثروة المادية والبشرية. ولكن….
طوفان الأقصى.. يوم من أيام الله

في غمرة هذا الظلام الغربيب وبعد أيام قلائل من تلك الخطابات والتصريحات والتجهيزات يفاجئ العالم كله بحدث جلل أذهل الجميع: غزوة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م ليكتب في التاريخ يومًا من أيام الله المعدودة، ليكون هذا اليوم فاتحة عصر البعث الجديد لهذه الأمة واستعادة إيمانها وبداية تقدمها نحو إسلامها في صبغته الربانية الكاملة.
ولأول مرة منذ انفجار ثورة التكنولوجيا والمعلومات وتقارب المجتمعات عبر وسائل التواصل الحديثة يجتمع العالم كله على متابعة ما يجري في فلسطين وربطه بمستقبل أمة العرب المسلمين خاصة وأمة المسلمين عامة، وما يعنيه ذلك من مخاطر على الإمبريالية في وجهيها القبيحين القديم والجديد، وما يعنيه لأهل المروءة والشرف والمستضعفين في الأرض ممن يرومون أن يروا عدلًا وكرامة ويرفضون الظلم والإهانة ويتمنون لو اجتمعوا في صعيد واحد؛ لإيقاف سيل العرم الرأسمالي المتوحش الكافر بكل القيم بعد كفره بالله ليوقفوا زحفه المتوحش على بني آدم ويعيدوها تراحمية تكافلية بإقامة نظام تراحمي جديد بين العالمين.
لقد هزت غزة العزة العالم كله شماله وجنوبه وشرقه وغربه، قلبت القلوب والأبصار بل وأزاغت كثيرًا منها، وعرت كل أسس النظام الجائر القائم على الظلم والعدوان والكفر بالله وإهانة الإنسان، فاجتمع أهل ملة الكفر والنفاق والخيانة كلهم جميعًا على إسكات صوت الحق وملاحقة ومحاوطة آثار الطوفان حتى لا ينتشر نور الله في الأرض؛ فيعمّ العالمين ويكتب في القلوب الإيمان من جديد ويُحييَه بعد موات وضعف، فيتكافل أهل الحق والمروءة معًا في حلف جديد يزيل الطغيان.
كلمة التوحيد.. جناية أهل الإيمان
وعلى مدى ما يقارب العامين إلا قليلًا رأينا وسمعنا ما حدث في غزة ولغزة ولكل من حاول أن يتمثل قيم غزة وتجليات الطوفان في معقل الإمبرياليات ومعاقل الديكتاتوريات التابعة لها في مجتمعاتنا: قمع وتوقيف وتهجير وطرد من العمل وسحب جوازات ووقف تمويل جامعات ومراكز بحوث، وحل جماعات وسجن قيادات ومراقبة حسابات على التواصل الاجتماعي وحذف تغريدات أو منشورات تعبر مجرد تعبير عما في قلوب الأسوياء من البشر ومن المسلمين؛ عن فرحتهم بنصر المستضعفين وهزيمة المستكبرين الظالمين.
لماذا حدث ذلك كله؟ ولماذا هذه الهجمة غير المسبوقة في التاريخ على قطاع يماثل بلجيكا في حجمه؟ لماذا كل هذا العنف الإجرامي الذي وصل لحد الإبادة؟ لماذا هذه المقاطعة والمنع الجائر لأساسيات الحياة؟ لماذا هذه الشروط الجائرة لوقف الحرب؟ لماذا الممالأة على إخراجهم من أرضهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله وهذه أرضنا وتلك مقدساتنا؟ لماذا الحرب الشعواء على كل من يكتب أو يتكلم أو يتظاهر مؤيدًا ومساعدًا لأهل فلسطين في أي مكان؟
الإجابة: من أجل ألا تتحقق: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، لأجل ألا يتحقق المسلمون ومن معهم من أهل الإنصاف والمروءة والحق من العالمين بمعاني الشهود الحضاري التي بها قامت السماوات وصلحت الأرض. من أجل ألا يسقط نظام الظلم الذي سعى أرباب الفساد من الغربيين والشرقيين على تشييده لمدة خمسة قرون كاملات غصبوا فيها الحقوق ونهبوا الموارد وقتلوا الإنسان وسبوه واسترقوه وأهانوه وأذلوه؛ ليتمكنوا في الأرض ويبغوا فيها بغير الحق.
أبعدَ هذه المشاق التي تحملوها، والأهوال التي ركبوها، والجرائم التي ارتكبوها، والنظم التي شيدوها، والقوانين الخاصة والعامة التي سَنّوها والمؤسسات الخاصة والدولية التي أقاموها؛ لتزيين فكرتهم ومذهبهم: “إن هي إلا حياتنا الدنيا والحق للقوة ولا بقاء إلا للأقوى وأفضليته على العالمين وأحقيته بخيرات العالمين”، أبعد هذا كله يأتي فتية آمنوا بربهم ليس لهم من متاع الدنيا شَرْوَى نقيرٍ وليس معهم من سلاحها إلا الحقير، محشورين في قطعة من الأرض ضاقت بهم وضاقوا بها، يأتي هؤلاء فيقلبون الموازين ويدخلون الأرض المقدسة بعد قرن كامل غير خائفين ولا وجلين، فاتحين منتصرين، فيَجوسون خلال الديار؛ يقتلون ويأسرون ويعودون سالمين بالغنائم والأسرى والوثائق الثمينة التي تحوي الخطط والأسرار وأخبار الفجار من الخائنين.
أبعدَ كل هذه القرون من الهيمنة والسيادة للنموذج المادي الشيطاني يأتي أولياء الرحمن من الرجال الذين صدقوا، يريدون تسييد النموذج الرحماني وبعث فطر الناس؛ مجددين شهادتهم على العالمين، ومن أجلهم يخرجون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وينفون الإكراه في الدين والدنيا عن العالمين.
سقط القناع.. انكشاف النظام العالمي

لقد كشف لنا الدرس الغزاوي ما حاول الجميع ستره طوال قرون: الدعاوى الكاذبة عن حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وسيادة الأمم والدول، والديموقراطية، والحريات، والحق في التنمية والأمن، والمؤسسات الدولية لحل النزاعات، والمحاكم الدولية لإحقاق الحق، والفصل بين الدين والدولة، والعلمانية، وحوار الأديان، كل ذلك سقط تمامًا ولم يعد له وجود، فقد داسه الغرب ومن يتّبعون نهجه ونموذجه الوحشي عندما تعلق الأمر بالمسلمين مرات ومرات.
لذلك عندما أعلنت غزة العزة والصمود والعزم على التحرر والاستقلال وطرد الاستعمار قام العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه -إلا قليلًا ممن لم يفقدوا نور الفطرة في قلوبهم- يتداعون عليها؛ يقتلون أبناءها لا يفرقون بين مجاهد ومدني، بين رجل وامرأة، وطفل وشيخ، مريض وصحيح، الكل في القتل سواء، حتى الحجر والشجر والحيوان لم يسلموا منهم، قطعوا كل المواثيق والعهود وخرقوا كل القوانين.
وفضح الدرس الغزاوي، كذلك، حالة الانكشاف التام للأمة بدولها ومجتمعاتها كاملة، فالأنظمة التي طالما تغنت بتحقيق الاستقرار، والجيوش التي ادّعت قدرتها على حفظ الديار، فشلت في أن توقف الحرب الإبادية على غزة ولم تفلح في إطلاق رصاصة واحدة على العدو، بل وظهرت أعجز من أن تقول كلمة حق، لا، بل إنها جميعًا متواطئة مع العدو تمده بكل أسباب الحياة التي تقطعها عن إخوتنا في غزة وتحاصرهم وتضغط عليهم؛ ليلقوا بأسلحتهم ويسلموا للعدو بكل ما يريد.
من جز العشب إلى الإبادة الشاملة.. مرحلة جديدة من الصراع
وأثبت الدرس الغزاوي أن الصراع ليس مجرد مناوشة حدودية أو فظاعة إرهابية صهيونية يتم التعامل معها في لحظتها، وسرعان ما تُنسى حتى تأتي الموجة التالية من الهجمات في وقت يختاره العدو. لا، فالحروب التي نخوضها ذات طبيعة وجودية، والتحدي الذي نواجهه الآن هو أكثر خبثًا وخطورة مع أعداء الإنسانية كافة من أتباع الشيطان وسدنة المادية الكافرة بنموذجها الغربي المتوحش.
يقول الدرس الغزاوي أن مرحلة جز العشب قد ولت وحلت محلها مرحلة تمليح الأرض، فلم يعد هناك مجال للتسامح مع المجاهدين في غزة أو في أي مكان في الأمة بل في العالم، وأن عمليات التقزيم للقدرات ولت ودخلنا مرحلة الإبادة التامة. يذكّرنا الدرس الغزاوي بالتحدي الوجودي الحقيقي الذي يواجهه المسلمون ومعهم أهل الفطر السليمة من أبناء آدم والذي لا يمكن هزيمته دون تحققنا بشهودنا الحضاري القادر على بعثنا من جديد.
فالدرس الغزاوي يؤكد أن لا مجال للتراخي حتى لا يفوت وقت البعث: نحتاج استعادة الرقابة العامة على مجمل القيم التي توجه حياة أفرادٍ، وغاياتِ مؤسسات الأمة، نحتاج مناهج تربوية للآباء والأبناء، وإعادة المحتوى الديني إلى مركزية النظام التعليمي، وتحرير النظام التعليمي من التأثيرات الأيديولوجية الأجنبية التي تشوّه عقائد أطفالنا وتتعارض مع قيم أمتنا المسلمة.
الشهود الحضاري.. المفهوم الغائب والواجب الحاضر
الدرس الغزاوي لفت أنظارنا، وأنظار أعدائنا الصهاينة ومن يدعمونهم من الخارج والداخل إلى الوعي الجماعي لسكان غزة، والأسس الإيمانية التي يقوم عليها المجتمع الفلسطيني، القائمة على مفهوم الشهود الحضاري، وإن لم يُتداول لفظيًا؛ فمناهج التربية والتعليم في البيوت والمدارس والجامعات، ويعززها الخطاب الإعلامي، وتتضخم عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تصور الصهاينة اليهود على حقيقتهم كتجسيد للشر المطلق. وعقيدة الشهادة التي تمجد الحياة والموت في سبيل الله كقيمة عليا منذ الصغر، باعتباره أسمى صور الوفاء الإنساني للرب الإله سبحانه.
الدرس الغزاوي يقول أن هذا كله مستهدف لا بد من تغييره بشتى الطرق والأدوات؛ بداية من القتل والإبادة الجماعية، مرورًا بالتجويع والتهجير، والأهم بتغيير ما في القلوب وتسميم النفوس وتغييب العقول، أي إعادة بناء صهيون وإعادة توطينها في الوعي اليهودي. فإن تحقيق هذا الحلم يتطلب منا تغييرًا جذريًا في عقليتنا وعاطفتنا.
الدرس الغزاوي يقول: لا يمكن أن يستمر وضع الأمة على هذا النحو البائس القائم. لا يمكن أن يستمر على هذا النحو. أي وهمٍ بإمكانية احتواء هذا العدو أو إدارته، يعد ضربًا من الجنون، لقد انفجر الوضع تمامًا وأصبح واضحًا أننا إن عشنا سنعيش بسيوفنا، وإن اندثرنا ومتنا فسنموت في النهاية بتطبيعنا وخنوعنا. لا يمكننا الصمود إلى الأبد في هذا الجزء من العالم في مواجهة الكيان وأعوانه في كل مكان في العالم إلا بتوحدنا وعودتنا لديننا وتحققنا بشهودنا الحضاري. هذا وحده ما يمكننا من الصمود إلى أجل غير مسمى. وإلا سننهار؛ لأن شعبنا لن يتحمل المزيد دون طاقة إيمانية جبارة لا تنفد نستمدها من شهادتنا لله بالوحدانية وشهودنا الحضاري الذي يبعثنا رجالًا صادقين منتصرين.
يعلمنا الدرس الغزاوي: أن الشهود الحضاري هو السبيل القاصد للبعث الجديد لأمة المسلمين من القارة العربية؛ فقد ثبت بالدليل القاطع: أن بعثة جديدة لهذه الأمة لا يخرج من القارة العربية حاملة القرآن الناطق بلسانها المؤتمنة عليه لن يكون. غزة هي البداية اليوم، تعلمنا وتلهمنا وتعيدنا إلى لحظة “اقرأ” في الغار في ليلة من ليالي عام 537 ميلادية، ولحظة الصفا حين أعلن دعوته، ولحظة عرفات حين بث شهادته الأخيرة حيث وُلد مفهوم الشهود الحضاري وبُعث الرسول الشاهد الشهيد المبشر المنذر، وأُنزل عليه أول آيات منهج الشهود الحضاري من القرآن المجيد {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
هذا ما يعلمنا إياه الدرس الغزاوي ويعطينا مفتاحه ويتركنا لأنفسنا نتدبر أحوالنا كيف نبدأ ومن أين إلى أين نفر؛ حتى يعود المسلمون راشدين شاهدين متحققين بلا إله إلا رب العالمين، وليدخل الناس في دين الله أفواجًا، ويدخل جميع أبناء آدم مسلمين وغير مسلمين في عصر تمكين جديد يهنأ فيه كل مخلوق بما كفله له رب العالمين؛ رحمته وعدله وكرامته وقوتَ يومه وأمان نفسه وحرية عقله ومعتقده وسلامة قلبه.
طريق البعث الجديد

وأخيرًا، فالدرس الغزاوي يعلمنا ضرورة تحويل الشعور بالحزن على فلسطين وعلى الأمة والاحساس بالذل والهوان مما نعانيه من احتلال واستبداد وفساد إلى وعي جديد ينتج بعثًا جديدًا؛ عبر ترتيل القرآن وتمثل السيرة المشرفة والانغراس في قلب زماننا فاعلين، وتحويل كل مسلم إلى شاهد حضاري كُتب في قلبه الإيمان، وتحويل هذا الإيمان إلى عادة راسخة للنفس وسلوك عملي، وتحويل ذلك السلوك إلى تنظيم جماعي؛ ينتج حركة واعية؛ تبعث مجتمعًا شاهدًا، وتفجّر حرارة النزعة العملية الجماعية في الإنسان والأمة المسلمة.
هامش
- روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. ↩︎