صفحات من دفتر الالتزام: من تاريخ أمتنا الماجد نبني مستقبلها
لكلٍّ منا ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ، ولكل ماضٍ حسناتٌ وسيئاتٌ، ولا شك أن النفس تغتبط سرورًا حين تستذكر أيامًا مضتْ حققَتْ فيها هدفًا أو إنجازًا أو سبقًا، هكذا جُبلت النفوس البشرية على تقدير النجاح والتفوق في مجالات الحياة… وهكذا يستشعر المؤمن لذة إيمانه حين يستذكر ما أقدم عليه من عملٍ وإحسانٍ في تاريخ حياته الذي مضى، كذلك هو حالنا مع أمتنا…
أمتنا التي لها ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ، ماضٍ لسنا مسؤولين عنه ولكننا معنيون بمعرفته والاعتبار به ومسؤولون عن حاضرها وربما مستقبلها لأننا جزءٌ منه… فكيف نُقدِمُ على حاضرٍ ومستقبلٍ ونحن نجهل الماضي، نجهل التاريخ الذي كانت منه البداية…!
فللأمة ماضٍ يتزاحم بتاريخ من النوازل والانتصارات، أيامٌ يداولها الله بين الناس، فكان فيها من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، وأخَذَ هذا الكتاب بقوةٍ لم تأخذه الدَّنِية في دينه، فكان كالنجم كالقمر كالشمس ينير السماء، وكان فيها مَنْ غرِقَ في وحل الفشل والخيانة والسقوط فكان عبرةً لمن خلَفَ، إنه التاريخ الذي منه نتعلم وبتجاربه وكبواته نستعين لتجاوز عقبات حاضرنا ولنبني مستقبلنا نحن…
فمن لم يتبصر في تاريخ أمتنا، لن يستطيع أن يقدِّم شيئًا في حاضرها اليومَ ولن يكون له سهمٌ في إشراق مستقبلها غدًا، إنها حقيقةٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يوليَها قدْرًا من اهتمامه ونصيبًا من قراءاته ومطالعاته، لا يمكن أن نبني تصورًا أو أن نرسخ قناعةً أو أن نعتمد فهمًا دون أن نكون على اطلاعٍ على تاريخ أمتنا الماجد.
سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلِّم الأجيال بعد الأجيال، أول تاريخٍ علينا أن نغوص في مكامنه، أن نتدبر في مواقفه، أن نستخلص الدروس من مراحله، أن نحفّز النفس على الاعتبار به…. ثم الصحابة والتابعين ثم الدول الإسلامية التي قامت واندثرت وكان لكل منها سُننٌ تقوم بها وسنن تهدمها… ثم تلك النوازل التي مرَّتْ كمَرِّ السنين تحط الرحال بكل دارٍ وترحل بمشيئة الرحمن بعد أن يمتحن الله عباده. كل هذا وأكثر لابد أن يُلِّم به المسلم والمسلمة لفهم واقعنا وتجاوز محنتنا ولبناء مستقبلنا…
من هذا التاريخ الزاخر بكل التجارب والدروس والحكم، يمكننا إدراك عظَمة الإسلام، يمكننا تعلُّم أسرار النجاح وفهم حقيقة النفس البشرية التي إن آمنت واستقامت كانت الأكثر قدرةً على بناء حضارةٍ بشريةٍ مبهِرة، يمكننا الاقتداء بالنموذج الأكثر تأثيرًا في نفوسنا لنبني به هممَنا ونستدرك به ما فاتنا، ونصحح بها طريقتنا في الحياة، يُمكِننا من التاريخ البحثُ عن أحلامنا وآمالنا وكل ما هو من قبيل أهدافنا…
وتأمل معي ابن القيم رحمه الله عندما سُجن شيخُه ابن تيمية رحمه الله، في قلعة دمشق بالشام قال: كانت تُظلم الدنيا في وجوهنا وتقسو قلوبنا، فما هو إلا أن نذهب إلى الشيخ (يقصد ابن تيمية) في السجن فنرى وجهه فتنفرج أساريرنا، وتصفو نفوسنا وننسى هموم الأرض. هكذا كانت تفعل القدوة في التلميذ، ولا فرق بين قدوةٍ في واقعنا المُعاش أو قدوةٍ في تاريخنا الماجد، فلابد من بحثٍ عن تلك القدوة لتُحيِيَ فينا الهمة وتعيننا على الصبر وتكاليف السير.
إنها همسةٌ أبثها لكل من أراد الانطلاق، من أراد الإنجاز وتحقيق أثرٍ في الحياة يستذكره حين لقاء ربه، موطِئِ قدمٍ يحفِره في مسيرة الأجيال المسلمة، ليقول هذا جهدي، معذرةً إلى ربي، لم أكن من الجاهلين، بل سعَيت بكل ما أوتيت من عقلٍ وقوةٍ أن يكون لي يدٌ في تجاوز محنتنا والتمهيد لمستقبل أمتنا الذي لن يكون إلا الأفضل إن كنا له أهلًا… وإلا فسيأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه قد تبصروا في التاريخ وأدركوا الحكمة فيه وأقبلوا بعطاءٍ وبذلٍ فاستحقوا ذلك الفضل والمستقبل الماجد.
قال حسن البنا رحمه الله:
(إن الرجال سر حياة الأمم ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات. وإن قوة الأمم أو ضَعفها إنما تُقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة.)