من الإنسان إلى الإنسانية

جرى بين صديقين حميمين أجمل حوار، على الرغم أن صحبتهم قد طال عليها الزمن وعلا عليها الغبار، ففرقت بينهم التجارات والأسفار، وتباعدت منهم البلدان والأمصار، وذات يوم حصل بينهما لقاء، وشذى العطر-بلقياهم-قد انتشر وفاح، فيا له من حدث، فيه اعتذار وأسف، لقد جاد الزمان بوصل الأحباء، وأذن الرحمان بتجمعهم على جبل اللقاء، بعد تمزق أواصر الوفاء، وما كان من ليال الهجر وأيام الجفاء، فتعرف أحدهم على صاحبه بعد طول عناء، وأنكر الآخر وتأبى أشد الإباء، لكأني به يوسف-عليه السلام-والإخوة المسرفون، فعرفهم وهم له منكرون، فهيا نقلع بكم في الفلك المشحون، لتسمعوا ما دار بينهما من الحقائق والظنون.

توكأ الإنسان على عصاه، بعد أن أجهده الحرص الدنيوي وأعياه، وقد فرط في جملة من الحقوق، وظهر منه الجفاء والعقوق، وقفت الإنسانية وقد رشح منها الجبين، وسمع من صوتها الأنين، فقالت وهي لا تكاد تبين: أهلا وسهلا بك يا إنسان، على ما سلف منك من حيف وطغيان، وقطيعة و نسيان!

الإنسان: التحية للإنسانية ومنها الفخار، فهي من حفظت بذاكرتها الوقائع الجسام الكبار، وسجلت ما فعله البشر من أخيار و أشرار! فهلا سمحتم لي بفتح أبواب الحوار؟

قالت الإنسانية: قد ثقل سمعي يا مختار، هل قلت حوار أم شجار؟!

قال الإنسان: بل حوار، وكل يعرب عن نفسه بالأدلة والآثار ويكشف ما استودع من أسرار، وهو مسؤول عما كسبه من أوزار!

بين الإنسان والإنسانية، صلة قوية، وعلاقة أبوية، هناك وحدة في الحروف، وترتيب في الصفوف، وود غير مألوف، الروابط بينهما أساسها الأمن والإيمان، تحكمها الضوابط و الشروط والأركان، قد يختلف الإثنان، ردحا من الزمان، لكن بعدها يعود الماء للجريان، كأن لم يكن ما كان.

الإنسان هو البشر، سواء أكان فردًا أم جماعة، فمنهم بريء وآخر صاحب جرم و بشاعة.

الإنسانية هي كل المجموعات البشرية بما تحمله من تنوعات فكرية وإيديولوجية وما فيها من اختلافات اثنية عرقية ودينية.

فإعمال الفكر والنظر يكون في القواسم المشتركة بين البشر، هو أساس تبادل الثقافات والفكر، والسلامة من كل ضرر.

الإنسان هو الجسد الذي يتحرك لتحقيق حاجياته، وتأمين ضرورياته، فهو بحسب غلبة المكونات إما أن يكون طينيًا أو في مصاف السماوات.

الإنسانية هي الروح التي تضفي على ذلك الجسد الأنس والسعادة وتجنبه الحزن والكآبة، وتدعوه للمحافظة على السلم والأمن، فروح الإنسانية نظرتها شمولية مقاصدية تهدف إلى استقرار البشرية.

الإنسان قد ينسى ما جنته يداه من مخالفات وسوءات، وما ارتكبه في دهره من جرائم فاضحات.

الإنسانية لن تنس لأنه ليس من طبيعتها، والتناسي مخالف لجبلتها، فسجلها الضخم قد دونت فيها تلك الانحرافات عن نهج الإنسان السوي، وتلك الخروقات التي يرفضها العقل المنطقي.

الإنسان هو الصورة التي التقطت من قريب أو من بعيد، قد تعكس الحقيقة بالتحديد، وقد تخالفها وتميل عنها وتحيد، وذلك على حسب دقة التصوير، و قوة التقدير، فقد يجمل بعض الناس وجوههم بالمساحيق، فيطمسون كل معنى روحاني دقيق، ومهما يكن فللمؤمن من ربه حراسة، ولن تكذب له فراسة.

الإنسانية هي الجهاز الملتقط الذي يحتفظ بكثير من الأشكال التي تعبر عن شخصيات النساء و الرجال، فكم من ابتسامة صفراء خداعة، وكم من عناق يخفي وراءه الغدر والبشاعة.

الإنسان هو الفرع الممثل لشركة كبيرة، منتجاها متنوعة كثيرة، وهي ذات سمعة راقية في العالم، فهل يضيرها أن يسيء استخدامها الجاهل المتعالم، فأصابع اليد الواحدة مختلفة، والناس متمايزون في كل شيء، ويبقى الذوق الرفيع مادة نادرة، هي محض عطاء رباني وسر إلهي، فالجدير بنا أن نسأل الله أن يحسن أخلاقنا وأذواقنا حتى لا نجرح أحدا، ولا نظلم أحدا!

الإنسانية هي أصل الإنسان الرئيس، وهي جوهره ومعدنه النفيس، هي المثالية الأخلاقية، منها نبعت الرحمة والتضامن والعدل و الحرية.

ولنا وقفة مع حقوق الإنسان وحرياته، فهي تبدأ من المستوى الفردي على حد ذاته، ثم تنمو لتكون ثقافة للمجتمعات، ولكن المشكلة أن كل إنسان له مفهومه الخاص لهذه المسميات، فيفسرها على ما يستلذه من رغبات، ويحددها على ما يستبشعه من تجاوزات، فإن كانت الغلطة سمة من سماته، تراه يميل بالضرب المبرح لكل مخطأ على هفواته، فحقوق الإنسان بريئة من هؤلاء الغشاشين، الذين يزيفون الحقائق، ويدعون الرهبنة والرقائق، ويمرقون من فحوى الصكوك والوثائق!

وهناك آخرون يقتنعون ببعض القيم الحقوقية، كما لو كان لأحدهم مساحة من حرية، فتراه يدعو الجموع لهذه القضية، وليس لزوجته معه رأي ولا هوية! فيا له من تناقض رهيب! ونفاق واضح عجيب!

يدل هذا التناقض على فجوة عميقة، بين ما يعتقده الإنسان وما يعيش به من جهة غائرة سحيقة، وبين ما ينبغي أن يحدثه في واقعه حقيقة.

مما تقدم نستنتج أنه لن ترتقي الإنسانية إلا بسلم درجاته هي رقي الإنسان ووعيه لذاته، وادراكه لاحتياجاته، وحسن ادارته لمشكلاته، وتخطيطه لمستقبله وتنفيذه لإنجازاته.

ارتقاء الإنسان يعني ارتفاعه عن متعة اللحظة إلى لذة الخلود، وبحثه عن رضوان الرب المعبود.

يبدأ ارتقاء الإنسان من الذات إلى استغلال القدرات وإيجاد المقدرات من خلال نظرة واقعية مثالية، ودون ذلك لن يحصل التغير الذي ننشده! ولن يتحقق الأمل الذي نفقده!

فأما الواقعية هي معرفتك بنقاط القوة والضعف المشتملة، والفرص المتاحة المبتذلة، والتهديدات الواقعة أو المحتملة، وأما المثالية فهو التحسين المستمر، والتطوير المبتكر، ورفع العزائم وشحذ الهمم، والتشبه بالأنبياء أعلام الأمم.

وإذا أشربت القلوب حب هؤلاء، ارتوت من شربتهم، وصبغت بعد بصبغتهم، ولم تر إلا الطريق على منهاجهم، عندئذ يحدث بين الإنسان والإنسانية الوفاق، وتتصل الأرض بالسبع الطباق، فيحصل التناغم والالتئام، وتزول الجروح والآلام.

حينما تغيب فكرة رقي الإنسان في سلوكه ومعاملاته، ولا تحتل المراتب الأولى ضمن قائمة الأولويات، فليس هناك حضارة راقية، ولا عين ساقية، فالحضارة عند مالك بن نبي هي: “البحث الفكري والبحث الروحي” وألكس كارييل يعرف الحضارة بأنها:

الأبحاث العقلية والروحية والعلوم الخادمة لسعادة الإنسان النفسية والخلقية والإنسانية

فالحضارة إذن هي ما ينتجه الإنسان من أفكار ومبادئ وقيم فيها إضافة لمسيرة البشرية، فالإنسان هو ركيزة الحضارة، وهو شعلة المنارة.

قمة ارتقاء الإنسان حين يذوب في أمته، فضميره ضميرها، وقلبه قلبها والمستقبل عنده في أن يساهم ببناء لبنة في صرحها العظيم، ألا تراه يربي الأجيال ويصنع الأمل في قلوبهم، ألا ترى أنه يتسابق ليجود بنفسه التي بين جنبيه ويغادر أهله وأحبته طمعًا فيما عند الله، ألم تره ينفق ماله الذي تعب في جمعه بالليل والنهار بحثا عن مرضاة الله، ومع كل هذه الجهود المعتبرة، فهو لا يستنكف أن يوصف بالعبد، بل ولا يرى لنفسه ظلًا، ففي ظنه أن أعماله توفيق من رب العالمين، وهدية من أكرم الأكرمين، فيندثر بعدها مبدأ الشخصنة الممقوتة ويكسر صنم الأنا الأعظم، وتغيب النظرة الوحشية، وتزول نظرية المصالح الآنية.

وأخيرًا: لا تنس-في عصر الآلة-أنك إنسان، فاجعل قلبك محبًا لبني البشر، وعقلك مدركًا لمقاصد الفكر، وجسدك متحركًا ليحفر بصمة وأثر، فكن إنسانًا بكل معاني الإنسانية، دع عنك الغرور والظلم والأنانية، تضمن السعادة والأريحية، وصل الله وسلم على محمد خير البرية.

عبد الغني حوبة

أستاذ بمعهد العلوم الإسلامية جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي-الجزائر، خطيب بمسجد الصحابة تكسبت الوادي، ماجستير… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى