الصيام مُرْتَقَى الروح
الصوم، هو فعل امتناع، تام أو جزئي، عن الكلام، في معناه اللغوي، وعن الطعام والشراب، أو أحدهما، كما في بعض الشرائع، في معناه الديني العام، أو امتناع عن شهوات الجسد، بنحو دائم، كما في شرائع التبتل والرهبنة، أو في أوقات محددة، كما في الشرائع الأخرى، وقد كان الصوم من أقدم الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بدافع ذاتي، بغرض صحي، أو بدافع تشريعي لغاية دينية.
الصيام في الإسلام
أما الصيام في شريعتنا الإسلامية الغراء، فإنه عمل يؤدَّى لغرضٍ تَعبُّديّ خالص، من أجل تزكية الروح، والسمو بالنفس، والارتقاء إلى الدرجات العُلَى من الصفاء الروحي، والنقاء النفسي، بالترفُّعِ عن الملذات الدنيوية، والامتناع عن الشهوات البهيمية، وذلك بحرمان الجسد مما يربطه بما هو أرضي، من جهة، وتغذية القلب بما هو سماوي، من جهة أخرى، فيتحقق بذلك ـ جزئيا أو مؤقتا ـ كبح الجانب المادي في التركيبة البشرية، وإطلاق لعنصرها الروحي، فتستعيد سفينة البدن مسيرها القويم، فيهيمن الإلهي المطلق على البشري النسبي، وتؤوب هذه السفينة إلى الصراط المستقيم، وتتجدد وجهتها إلى جنة النعيم.
فالإنسان مخلوق يتركب من مزاج فريد وعجيب، فقد خلق الله عز وجل آدم من تراب الأرض وطينها، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) (المؤمنون:12) وفي جوف هذا الكيان المادي الخالص، نفخ الله عز وجل من روحه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)) (الحجر)، فانتشرت الحياة في جنبات المادة الخامدة، بأمره تعالى، فأصبحت الحركة حاضرة، وصارت الجوارح فاعلة، والنفس حساسة، والعقل مفكر، والقلب واعٍ.
تركيب إلهي، نتج عنه الإنسان، فكان في أحسن تقويم، وأعظم تجسيد للتكامل الوجودي البشري بين الروح والمادة، بين العلوي والسفلي، وتماهي الروح في تفاصيل المادة.
تكوين الإنسان
وليست حياة الإنسان، في هذه الدنيا، وعلى هذه الأرض، إلا صولات وجولات متتالية من الصراع بين هذين العنصرين: العنصر المادي، المرتبط بما هو ترابي أرضي وسفلي، وفي هذا الجانب، لا يني إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن في إذكائه، وإغوائه، وشده إلى أصل نشأته السفلية: التراب.
والعنصر الروحي، المرتبط بما هو إلهي وعلوي، وعلى هذا الثغر، ينتصب جند من الرسل والأنبياء، سلاحهم وحي الله جل جلاله، يَحدُون الروح، لتكون إلى جادتها المستقيمة، لتصير إلى خلاصها من دنس الأرضي، ويتحقق اتصالها بأسباب السماء، وتداوم على ارتباطها بأصل نشأتها الربانية: الروح، التي شرفها الله عز وجل بنسبتها إلى ذاته العليا.
ولكل عنصر ممارساته، وانشغالاته الخاصة به، فالمادي ينهج على دروب الشهوات، وابتكار الملذات، والالتصاق بالدوني، غايته تحقيق متعته الخاصة-المتوهمة والزائلة-فلا يكل من اتباع شهوة بأخرى، مرتعبا من الوقوع في هوة الوحشة وفقدان اللذة الحسية، فيصير كخواء ممتلئ بخواء أثقل منه.
أما الرباني، فيستقيم على الصراط، متنعما برضا الرحمن جل وعلا، متمتعا بالأنس بالجليل المتعال، مداومًا على رياضة الزهد في الملذات الدنيوية، والبعد الإرادي عن الشهوات الوقتية، ولزوم حال التحمل والصبر على حاجات الجسد المادية، من خلال عبادة الصيام.
العبرة من الصيام
فكأن الحال، في أحيان الصيام حال جدال بين الجسد والروح؛ ينتصر فيه الإنسان، بإرادته، لروحه، ولسموها، مصارعا حاجات الجسد البهيمية، ولسان حاله يقول لجسده: لست إلا دابة، تابعة، تحملُ روحا نفيسة، هي لك السيد الآمر، فكيف لمثلك أن يتمرد، وكيف لمثلك أن يعلو على سيده، فليس لك إلا الحرمان مما يقويك، ويمنحك فورة الثوران، فلا طعام ولا شراب، ولا حاجة مما تشتهيها تُقضى لك، وهذا هو المقصود من ذلك الصراع المتجدد، في شهر الصوم، بين مادة الطين اللازب، ومادة هي من روح الله جل في علاه.
- ليس مجرد حرمان النفس من الحاجات المادية لوقت محدود، بل ترويض للقشرة المادية في معمار الوجود الإنساني.
- ليس مجرد تأجيل لشهوات البدن إلى ما بعد غروب الشمس، بل إنماء لرصيد العبد إلى ما بعد انتهاء العمر.
- ليس مجرد غض للبصر، وكف للسان، وكبح للفرج، بل إذكاء للبصيرة، وتزكية للنفس، واتصال بأسباب القرب.
- ليس مجرد إجهاد للغلاف المادي الآسر، بل إطلاق للجوهر الروحي الأسير في الداخل.
فالبدن المقدود من مادة الأرض، هو مرتع الشياطين، وبقوته تقوى شيطنتهم، وسيطرتهم عليه، فيخفت نور الروح المكنونة فيه، وتذبل فطرتها المجبولة على الحق، فتضعف الهمة، وينأى صاحبها عن رضوان الله عز وجل.
والصيام هو اللجام الحاكم لقوة الجسد، والكابح للنفس الأمَّارة بالسوء، والمانع لمكر الشياطين وكيدهم، فيبور مرتعهم، فيهجرونه، ومن ثم تضعف القشرة الصلدة، التي تحول بين الروح واتصالها الرائق بخالقها، فتصير إليه، فتمرح وتصعد، تلج أبواب القرب والخلاص من الدنيوي، وترتقي درجات الوصل بالإلهي، فتكون إلى منازل المحسنين.
حال الجسد بعد انتهاء شهر رمضان
ويظل الصراع قائمًا، ليمر، بعد ذلك، شهر انتصار الروح، وتعود الأجساد الواهنة، التي لم يَقدِر أصحابُها على مغامرة تجربة الارتقاء الروحي، لتبدأ في الولوغ في أوعية الدنيا، فتنكسر المعارج الرهيفة، التي تَصلُهَا بالسماء، وتتصلد قشرة البدن، لتُحكم الوصاد على أسيرها، تلك الروح المسكينة، الآيبة إلى الجوف القفر، كَلِيلَة، معتمة.
فيا عبد الله، ويا أمة الله، الله الله في الصوم، الله الله في أرواحكم، وتدبروا قوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)، وتفكَّر في أن هذا الظاهر التي يتجسد لك في المرآة، يحوي روحا من الله جل جلاله.
فأيهما أحق بالولاية على الآخر؟ وأيهما أحق بالسيادة والهيمنة؟
لقد ترك الله سبحانه لك هذا الاختيار، ووضعك في هذا الابتلاء، لينظر ماذا تفعل.
أمر شديد، ولكنه محسوم عند أصحاب البصائر، الذين يسلكون بِهُدًى من الله عز وجل، أصحاب الهمم العالية، ممن جعل الله تعالى لهم نورا في الدنيا، وممن سيصحبهم نورهم في الآخرة، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم.
أما أولئك المغرورين، من الضعفاء الذين سلموا أنفسهم للأرضي فيهم، فأخشى أن يكونوا، يوم لا ينفع قول ولا ندم، ممن يقولون: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (الحديد:13).
وفي مثل ذلك قال إبراهيم التيمي:
مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ أُعَالِجُ أَغْلَالَهَا وَسَعِيرَهَا، وَآكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا.
فَقُلْتُ: يَا نَفْسِي، أَيَّ شَيْءٍ تَشْتَهِينَ؟
قَالَت: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا أَعْمَلُ عَمَلًا أَنْجُو بِهِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ.
وَمَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ مَعَ حُورِهَا، وَأَلْبَسُ مِنْ سُنْدُسِهَا وَإِسْتَبْرَقِهَا وَحَرِيرِهَا.
فَقُلْتُ: يَا نَفْسِي، أَيَّ شَيْءٍ تَشْتَهِينَ؟
قَالَتْ: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلُ عَمَلًا أَزْدَادُ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ.
فَقُلْتُ: أَنْتِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُمْنِيَّةِ.
(وفي رواية): فأنت في الأمنية، فاعملي.([1])
وأنت يا عبد الله، ما زلت، والحمد لله تعالى، في الأمنية، فأعمل.
ويقول المثل العربي القديم والحكيم: “الوُرودُ إلى الماءِ بماءٍ أكْيَسُ”، أي: إن كنت في صحراء، ومعك القليل من الماء، ورأيت في الأفق بحيرة، فمن الفطنة والحكمة ألا تلقي بالماء الذي تحمله، بل تحفظه حتى تصل إلى المورد الجديد، فقد يكون سرابا.
فمن الحكمة أن تحتفظ بما حصلته في شهر الخير والبركات من نِعَمِ الله عليك، بالمغفرة والعتق من النار، والعود الحميد إلى سبيل المؤمنين، ولا تهدره قائلا إن شهرا آخر قادم، نتزود فيه، فقد لا تدركه، وتكون قد فقدت الزاد والزواد، وتكون إلى ربك خالي الوفاض، ثقيل بالتراب والطين، وقلب مطمور بالران، وروح معتمة.
فاللهم أصلح نياتنا، وارزقنا حسن التعبد لجلالك، ومتعنا بلذة العبودية، واحفظ لنا نور قلوبنا، وارزقنا نور الهدى في الدنيا، ونور النجاة في الآخرة.
الكاتب: ناصر الحلواني
المصادر
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، والزهد للإمام أحمد بن حنبل، حديث (2148)، والرواية الثانية: محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا.
جزاكم الله خيرا
بارك الله فى من ذكرنا بالله