اختيارات المحرر

محركات الثقافة المعاصرة: كيف تُغتصب المرجعية، وكيف تُسترد؟

تمرّ الأمة الإسلامية اليوم بمنعطف تاريخي حادّ، يتمثّل في استهداف وعيها الجمعي وإعادة تشكيله وفق مرجعيات دخيلة تسعى لزعزعة منظومتها القيمية. ولم يكن هذا التحول نتاج تطورات عفوية، بل نتيجة مشروع استعماري ممنهج، سخّر أدوات الثقافة لفرض النموذج الغربي وتقويض مرجعية الإسلام كمصدرٍ للفهم والبناء.

ومن هذا المنطلق، تسعى هذه المقالة إلى تحليل محركات الثقافة التي تسهم في تشكيل وعي المجتمعات الإسلامية، والكشف عن الآليات التي تُسلب بها المرجعية من الأمة، والسبل التي تمكّنها من استردادها. 

فمعركة الوعي في جوهرها معركة مرجعية: كيف تُغتصب المرجعية، وكيف تُسترد؟… سؤال تتفرّع عنه إشكالات النهضة، وتُبنى عليه مسارات التحرّر، وتستقيم به وجهة المشروع الحضاري للأمة.

المحرّك الأول: الإعلام.. الهيمنة الناعمة وإعادة تشكيل الوعي

لم تعد الهيمنة الحديثة تقتصر على القوة العسكرية والاقتصادية، بل باتت تقوم على إعادة تشكيل وعي الشعوب بحيث تتبنى القيم والأفكار المفروضة دون مقاومة.

الإعلام كأداة لصناعة الوعي الزائف

تلعب وسائل الإعلام، من سينما وإعلانات ومنصات رقمية، دورًا محوريًا في نشر أنماط الحياة الغربية وإعادة تعريف مفاهيم أساسية مثل الحرية والجمال والنجاح. وتُقدَّم الأسرة التقليدية على أنها نموذج متخلّف، بينما تُروّج الأسرة الغربية بوصفها أكثر تحررًا، مما يؤدي إلى إضعاف الروابط الاجتماعية والقيم الإسلامية.

إلى جانب ذلك، يتم إعادة تفسير المفاهيم الدينية بما يخدم القوى المسيطرة، إما عبر تقديم تأويلات منحرفة، أو عبر تصوير الالتزام الديني على أنه تخلّف وانغلاق، مما يساهم في خلق أجيال فاقدة لانتمائها العقدي وشخصيتها الإيمانية.

الإعلام والتوجيه الفكري: من الأخبار إلى الأيديولوجيا

لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل تحول إلى أداة لإعادة صياغة المفاهيم وتعزيز التبعية الثقافية. فمن خلال التلاعب بالمحتوى، يتم:

  • ترويج رموز ثقافية مصطنعة، حيث تُصنع شخصيات تُقدَّم كنماذج للنجاح والتأثير، بينما تُهمّش الأصوات التي تعبّر عن المرجعية الإسلامية للأمة.
  • إغراق المجتمعات بمحتوى استهلاكي يُكرّس ثقافة اللذة الفردية، مما يُضعف القيم المجتمعية القائمة على التضامن والتكافل.
  • إعادة تعريف القضايا السياسية والاجتماعية بما يخدم مصالح القوى الكبرى، فيُصوَّر المستضعفون كمعتدين، ويُبرَّر الاستعمار تحت مسميات التحديث والتطوير.

مرجعية الوحي في مواجهة التلاعب الإعلامي

تبرز مرجعية الوحي بوصفها ميزانًا يُغربل الأخبار، ويُقيم الحقائق بمعايير ثابتة لا تتبدل. فالقرآن الكريم لا يحذر فقط من الكذب والخداع، بل يرسم منهجًا للتعامل مع الخبر، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].

هذه الآية تؤسس لقاعدة مضادة للإعلام الموجّه، وهي: التثبت، لا التلقي العفوي ولا الانقياد العاطفي.

وهذا ما يجعل مرجعية الوحي ضرورة لمواجهة كل أشكال التضليل الإعلامي المعاصر.

المحرّك الثاني: تآكل التعليم وتشكيل وعي المسلم

تآكل التعليم وتشكيل وعي المسلم وتثبيت المرجعية الإسلامية

يعد التعليم أحد أهم محركات تشكيل الوعي الجمعي، وقد استُهدف بشكل ممنهج لإعادة تشكيل العقل المسلم، سواء عبر تشويه التاريخ أو تغيير مناهج القيم، مما يؤدي إلى انفصاله عن جذوره الحضارية وقبوله للأفكار الوافدة دون تمحيص.

تشويه الذاكرة الجمعية وإعادة كتابة التاريخ

إن إعادة كتابة التاريخ وفق رؤية منحازة تعد من أخطر أدوات الهيمنة الثقافية. ومن أبرز مظاهر ذلك:

  • التقليل من إنجازات الحضارة الإسلامية عبر تقديمها كمجرد ناقل للمعرفة، وليس كمنتج أصيل لها.
  • تحريف مفهوم الفتوحات الإسلامية بوصفها “غزوًا” مقابل تبرير الاستعمار الغربي كحركة “تحديث”.
  • تهميش الشخصيات الإسلامية المؤثرة مقابل إبراز رموز الفكر الغربي.

التعليم من أداة للتحرر إلى وسيلة للهيمنة

يرى مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة أن التعليم ليس مجرد نقل للمعرفة، بل هو وسيلة لصناعة الوعي. ومن هنا تأتي خطورة المناهج التي:

  • تُدرّس العلوم الاجتماعية بمنظور غربي بحت؛ مما يؤدي إلى إنتاج نخب منسلخة عن انتمائها الإيماني والحضاري.
  • تغرس الشعور بالدونية الثقافية عبر تقديم الثقافة الغربية كنموذج متفوق وحتمي.
  • تفتقد للمرجعية الإسلامية في بناء الفكر؛ مما يجعلها وسيلة للاغتراب بدلاً من التحرر.

مرجعية الوحي في التعليم: إعادة تأسيس العلم النافع

يصور القرآن الكريم العلم كوسيلة للهداية والتزكية، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]؛ فالعلم في الإسلام ليس مجرد تراكم معلومات، بل وسيلة لإعداد الإنسان للخلافة وتحقيق العمران وفق منهج الله.

وإصلاح التعليم وفق المرجعية الإسلامية لا يعني رفض المعارف الحديثة، بل إعادة توجيهها لخدمة الأمة، بحيث لا تكون انعكاسًا لأجندات خارجية تُفرض عليها.

المحرّك الثالث: الاقتصاد كأداة تغريب ثقافي للأمة الإسلامية

لم يقتصر الاقتصاد على وظيفته التقليدية في الإنتاج والتبادل، بل أصبح أداة لإعادة تشكيل القيم والانتماء الحضاري، مما جعله وسيلة فعالة للتغريب الثقافي. فمن خلال فرض أنماط استهلاك تتعارض مع قيم الاعتدال والتكافل، وإعادة تعريف معايير النجاح وفق الرؤية المادية، يعزز الاقتصاد التبعية للنماذج الغربية على حساب القيم الإسلامية التي تقوم على العدل والاستخلاف.

الاقتصاد واختراق المرجعية الثقافية

يؤثر الاقتصاد في معيشة الأفراد وبنيتهم الحضارية، حيث يقوم الاقتصاد الإسلامي على مبدأ الاستخلاف، في حين تحصر الرأسمالية الإنسان في دائرة الاستهلاك المادي. وبذلك؛ يؤدي تغلغل النظم الغربية إلى تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مستهلكة للمنتجات الفكرية والمادية الغربية، مما يهدد استقلالها ومرجعيتها الحضارية.

الاقتصاد الإسلامي: توازن بين المادة والروح

يجمع الاقتصاد الإسلامي بين حاجات الجسد ومتطلبات الروح، مؤكدًا أهمية العمل ضمن إطار أخلاقي وعبادي، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وهذا يختلف عن الأنظمة الوضعية، التي تغرق في المادية كالرأسمالية، أو تهمل دافع الذاتية كما في الاشتراكية، مما يسبب اختلالات اجتماعية.

أثر الاقتصاد الرأسمالي في تغريب الأمة

غيّرت الرأسمالية نظرة الإنسان إلى الحياة، إذ بات النجاح يُقاس بالمال لا بالقيم أو الرسالة. في المقابل، يقوم الاقتصاد الإسلامي على مبدأ التكافل ويعد المال أمانة يجب توجيهها لما ينفع الفرد والمجتمع. واليوم، يمارس الغرب هيمنته من خلال السيطرة على الأسواق وترويج أنماط استهلاكية محددة، مما جعل كثيرًا من المجتمعات الإسلامية عرضة لما يُعرف بـ’الاستعمار الاقتصادي’.

المحرّك الرابع: السلطة.. توجيه الثقافة عبر محركات النفوذ والسيطرة

يُعد التغريب السياسي من أكثر أدوات التأثير الثقافي فاعلية في العالم الإسلامي، حيث لا يقتصر على تغيير الهياكل السياسية، بل يمتد لإعادة صياغة القيم والمفاهيم وفق الرؤية الغربية. فبما أن المرجعية السياسية أساس الأمة الإسلامية، فإن فرض أنظمة مستوردة يؤدي إلى تغيير جذري في بنيتها الفكرية والاجتماعية.

التغريب السياسي والشورى الإسلامية

يسعى التغريب السياسي إلى استبدال نظام الشورى الإسلامي بنماذج غربية، حيث يُطرح النموذج الديمقراطي الليبرالي كبديل عالمي، متجاهلًا خصوصيات الأمة الإسلامية. في حين أن الإسلام يرسّخ الحكم على مبدأ الاستخلاف المسؤول، كما قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، جاعلًا السلطة تكليفًا مقيدًا بالضوابط الشرعية، وليس مجرد حق فردي مطلق.

وقد أدى هذا التغريب إلى فصل النظام السياسي عن مرجعيته الإسلامية، مما أضعف الارتباط بين الأمة وحكامها، وهو ما نبهنا القرآن بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، تأكيدًا على ضرورة بقاء المرجعية في الحكم مستندة إلى الوحي.

بين الديمقراطية الغربية والنظام السياسي الإسلامي

يُخلط كثيرًا بين مفهوم الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، رغم الفوارق الجوهرية بينهما. ففي حين تقوم الديمقراطية الغربية على حكم الأكثرية المطلقة دون ضوابط، فإن الإسلام يجعل الحكم محكومًا بمقاصد الشريعة، كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].

لذلك، يوازن النظام الإسلامي بين المشاركة الشعبية والضوابط الشرعية، فلا يترك القرار للهوى الشعبي، ولا يحصر السلطة في فئة مغلقة، بل يجعل الحاكم مسؤولًا أمام الأمة ومُلزمًا بشروط شرعية، تسقط ولايته إن أخلّ بها.

الهيمنة السياسية وأثرها على الثقافة

لم يقتصر التغريب السياسي على تغيير أنظمة الحكم، بل امتد إلى إعادة تشكيل المفاهيم السياسية، حيث باتت مفاهيم مثل “الحرية” و”حقوق الإنسان” تُطرح من منظور غربي بحت، متجاهلة الفروق العقدية والأخلاقية للمجتمعات الإسلامية. كما أدى إلى تبعية اقتصادية وعسكرية للدول الإسلامية، مما جعل القرار السياسي خاضعًا للمصالح الغربية بدلًا من أن يكون معبرًا عن إرادة الأمة.

هل يمكن مقاومة التغريب؟

تعزيز مرجعية الوحي لمقاومة التغريب

يأتي السؤال الآن: هل يمكن مقاومة التغريب رغم تعدد محركاته واختلاطها بنسيج الأمة؟ والحقيقة الأولى هي أن مواجهة التغريب لا تقتصر على رفضه، بل تستلزم إعادة تأسيس المرجعية الإسلامية كمنطلق لبناء الواقع، بحيث تكون الأمة فاعلةً في صياغة تصوراتها، لا مجرد متلقية للنماذج المستوردة. ويتحقق ذلك عبر عدة مسارات:

تعزيز الوعي بالمرجعية الإسلامية

  • إعادة بناء الوعي الفكري بترسيخ مفهوم الاستخلاف وإعمار الأرض وفق التصور الإسلامي.
  • تنمية النقد الثقافي لمواجهة الخطابات الوافدة وتحليل تأثيراتها.
  • اعتماد الوحي كمصدر أصيل في تفسير القضايا الفكرية والثقافية.

إصلاح منظومة التعليم

  • مراجعة المناهج لضمان توافقها مع المرجعية الإسلامية.
  • توفير المساحات المؤسسية والاعتبارية لتمكين العلماء والمفكرين من التأثير في صناعة الرأي والتوجيه المجتمعي.
  • العمل على بناء معلمين مربين متشبعين بالمرجعية الإسلامية في كل المواد الدراسية الشرعية منها والعلمية.
  • العمل على إصلاح محاضن المنظومة التعليمية من مدارس وجامعات وغيرها، بناءً على الإرث الإسلامي وتجاربه في ذلك، مع الاستفادة من الخبرات والتجارب المختلفة.

تطوير الخطاب الإعلامي والثقافي

  • إنشاء مؤسسات إعلامية مستقلة تعكس القيم الإسلامية.
  • تعزيز الوعي النقدي لفهم آليات التأثير الإعلامي.
  • إعادة بناء السردية التاريخية وإبراز إسهامات الحضارة الإسلامية. 

تحقيق الاستقلال الاقتصادي والثقافي

  • تقليل التبعية الاقتصادية عبر دعم الصناعات الثقافية والإعلامية المستقلة.
  • مكافحة ثقافة الاستهلاك وتعزيز الاقتصاد المنتج.
  • إحياء النماذج الاقتصادية الإسلامية مثل: الوقف والزكاة؛ لدعم المشاريع الفكرية والاقتصادية.

حماية السيادة الفكرية والحضارية

  • إحياء المنهجية الإسلامية في إنتاج المعرفة بدلًا من التكيف مع النماذج الغربية.
  • تعزيز الاستقلالية في القرار الثقافي والتعليمي لحماية المجتمعات من التبعية الفكرية.
  • ترسيخ النظم السياسية الإسلامية القائمة على الشورى والعدل. 

تفعيل المبادرات المجتمعية

  • إنشاء حركات فكرية وثقافية ترتكز على المرجعية الإسلامية.
  • تعزيز دور الأسرة في بناء الوعي الايماني والحضاري لدى الأجيال.
  • الاستفادة من التقنيات الحديثة في نشر الوعي وتعزيز الانتماء الإسلامي الأصيل.

نداء الختام

مرجعية الوحي

ختاماً.. ليست محركات الثقافة المعاصرة مجرد أدوات عابرة، بل منظومات تُعيد تشكيل الإنسان، وتُبعده عن مرجعيته الإيمانية. وحين تُغتصب المرجعية، تُغتصب الأمة من ذاتها، وتفقد بوصلتها في فهم الإنسان والغاية.

مواجهة التغريب لا تكون برفضه الانفعالي، بل بتأسيس الوعي على مرجعية الوحي، وبناء الإنسان المسلم القادر على النقد، المنتج للمعرفة، الحامل لرسالته.

وفي عالم تُختطف فيه العقول بنعومة، يصبح التمسك بالوحي ضرورة حضارية، وشرطًا لبقاء الأمة أمةً شاهدة، لا تابعة.

بشائر الهزازي

كاتبة اجتماعية، وباحثة في الفكر والتحولات المعاصرة؛ تُعنى بإصلاح الوعي واستعادة المرجعية الإسلامية في قراءة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى