
الفاشر تحت الحصار: صمود في وجه الجوع والدمار
في قلب دارفور، هناك مدينة تحوّلت إلى مرآة للعذاب الإنساني، وإلى شاهدٍ حي على معنى الصمود في أحلك الظروف. إنها الفاشر، عاصمة شمال دارفور، التي وقعت منذ أبريل 2024 تحت حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، فأحكمت الطوق عليها حتى غدت معزولة عن العالم الخارجي. لم يكن هذا الحصار مجرّد عارض عسكري، بل كان عقابًا جماعيًا قاسيًا، قطع الغذاء والماء والدواء عن مئات الآلاف من السكان، وألقى المدينة في هاوية الجوع والمرض والموت.
ومع ذلك، وسط هذا الركام من المآسي، ظلّ أهل الفاشر متمسكين بكرامتهم، رافضين الانكسار، فكتبوا ملحمة في الصمود لم ولن تُمحى من ذاكرة السودان.
الفاشر: مدينة تحت النار والجوع

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ الفاشر، التي كانت تضم نحو 600 ألف نازح في المخيمات المحيطة، إضافةً إلى ربع مليون من السكان الأصليين، أصبحت منذ أكثر من 500 يوم تحت حصار كامل. ويقدَّر أن نصف المحاصرين هم من الأطفال.
بحسب اليونيسف، فإن ما لا يقل عن 6,000 طفل يعانون من سوء تغذية حاد مهدِّد للحياة دون علاج، بينما كان أكثر من 10,000 طفل قد تلقوا علاجًا قبل أن يتوقف وصول المساعدات. وخلال أسبوع واحد فقط، سُجلت وفاة 63 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال، بسبب الجوع.1
لم يعد الطعام متاحًا إلا عبر السوق السوداء، بأسعار تفوق قدرة أي أسرة. الخبز، الذي كان قوتًا يوميًا، أصبح سلعة نادرة لا تُشترى إلا بالذهب أو الدولارات. أما المياه، فقد صارت ملوثة، ما أدى إلى تفشي وباء الكوليرا الذي يفتك بالأجساد المنهكة.
المستشفيات تحت القصف

المرافق الصحية في الفاشر كانت هدفًا مباشرًا للقصف. تقارير منظمة الصحة العالمية واليونيسف توثق أكثر من 35 مستشفى تعرضت لهجمات، أبرزها مستشفى الأمومة السعودي الذي ضُرب عشرات المرات، حتى في أوقات كان يعجّ بالنساء والأطفال. وفي يناير 2025 أدى هجوم بطائرة مسيرة على المستشفى إلى مقتل 70 شخصًا على الأقل، بينهم مرضى وأطباء وممرضات.2
المشهد في المستشفيات المتبقية مؤلم؛ لا أدوية، لا محاليل، لا أجهزة. غرف العمليات تضاء بالشموع، والنساء يلدن على الأرض، والجرحى يموتون لأن الدماء شُحّت، أو لأن الأطباء فرّوا من الاستهداف المتكرر.
مدارس بلا تلاميذ.. طفولة مسروقة
الحرب لم تقتل الجسد فقط، بل خطفت الطفولة أيضًا. أكثر من 60% من المدارس في شمال دارفور خرجت عن الخدمة، بحسب تقارير OCHA. الأطفال لم يعودوا يعرفون الطباشير والكتب، بل يعرفون صفير القذائف وهدير الرصاص. بعضهم صاروا جنودًا صغارًا أو عمالًا في السوق السوداء، والبعض الآخر يقضون يومهم في البحث عن طعام.
التعليم الذي كان نافذة الأمل في دارفور بات حلمًا بعيدًا. والجيل الذي يُحاصر اليوم هو نفسه الذي سيحمل غدًا جراح الحرب في جسده ونفسه.
جرائم الدعم السريع: عقاب جماعي

ما تعرض له سكان الفاشر لا يمكن وصفه إلا بجرائم حرب. فقد وثقت الأمم المتحدة أكثر من 1,100 انتهاك خطير ضد الأطفال؛ قتل، واغتصاب، وتجنيد قسري، واختطاف. كما استهدفت قوات الدعم السريع مخيمات النازحين بشكل مباشر، مثل مخيم أبو شوق الذي شهد في أغسطس 2025 مقتل أكثر من 40 شخصًا بينهم نساء وأطفال، وإصابة العشرات.3
حتى قوافل المساعدات الأممية لم تسلم. ففي يونيو 2025، هاجمت قوات الدعم السريع قافلة إنسانية في الكومة، ما أسفر عن مقتل 5 موظفين وإصابة آخرين، مما دفع الأمم المتحدة لتعليق الكثير من عملياتها.4
الفاشر: من حصار الجسد إلى حصار الروح
الحصار لم يكن مجرد منع للطعام والدواء، بل محاولة لخنق الروح المعنوية. لكن المفارقة أن المدينة لم تنهَر كما توقع من فرض الحصار. ظلّت الفاشر صامدة، بفضل روابطها المجتمعية العميقة، وتضامن قُراها وأحيائها، وأصوات المساجد التي تذكّر الناس بالصبر والثبات.
أهل الفاشر حوّلوا المأساة إلى طاقة مقاومة: لجان أحياء تنظم توزيع القليل المتوفر، شباب يجمعون المياه من الآبار البعيدة، نساء يخبزن من دقيق الذرة ما يكفي أطفال الحي. إنها تفاصيل صغيرة، لكنها ترسم معنى الصمود.5
تحديات ما بعد الحصار
لكن الطريق طويل أمام الفاشر لتنهض:
1. غياب الاستقرار السياسي: لا يمكن البناء في ظل فوضى.
2. ضعف المؤسسات المحلية: التي افتقدت الكوادر والموارد.
3. فقدان الثقة المجتمعية: بسبب الانقسامات والجرائم.
4. شح الموارد: إذ يرزح السودان تحت أزمة اقتصادية خانقة.
5. هجرة الكفاءات: التي تركت دارفور بحثًا عن الأمان.
إعادة الإعمار لا تعني فقط جلب الأسمنت والحديد، بل تعني أولًا إعادة بناء الثقة، وإحياء العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين.
خاتمة: الفاشر كرمز للصمود السوداني

الفاشر اليوم جرح نازف في جسد السودان، لكنها أيضًا رمز للأمل. فهي تثبت أن الإنسان، حتى في أقسى الظروف، قادر على الصمود والتمسك بالكرامة.
قد ينهار الحجر، وقد تُحرق الأسواق وتُهدم المستشفيات، لكن روح الفاشر لم تُهزم. وما دام في السودان قلوب تنبض بالأمل، فإن هذه المدينة قادرة على أن تُبعث من جديد.
ولذلك، حين يُكتب تاريخ هذه الحرب، لن تُذكر الفاشر كمدينة محاصرة فقط، بل كمدينة صمدت في وجه الجوع والدمار، ورفعت راية الكرامة الإنسانية عالية.
الهوامش
- After 500 days under siege, children in Sudan’s Al Fasher face starvation, mass displacement, and deadly violence – UNICEF. ↩︎
- 2025 Saudi Hospital Attack. ↩︎
- Over 500 days of siege: Women and girls trapped in El Fasher face the risk of starvation and death. ↩︎
- Sudan’s RSF committed crimes against humanity in al-Fashir, UN mission says. ↩︎
- Starvation or execution: Sudanese under siege face ‘death everywhere’. ↩︎