د. عبد الله النفيسي بين سيرتين

في الفترة الأخيرة، كثر سؤال (هل شاهدت لقاءات النفيسي في برنامج الصندوق الأسود؟)

تكرر هذا السؤال من كذا طرف ومن أشخاص ربما لا اهتمام لهم بالسياسة، أثار لدي الفضول، وتحتم علي تحت هذا الإلحاح المتصاعد أن أمهد لمشاهدته، واضرب عصفورين بحجر. فقرأت كتاب (من أيام العمر الماضي) كمدخل لهذه المقابلات، خصوصًا أن الكتاب يقف عند فترة زمنية معينة ولا يتجاوزها وهي (بدايات الغزو العراقي للكويت) فقلت من الجيد أن أقرأ هذا الكتاب لمقصدين، وهي أن اجعله مقدمة لمشاهدة اللقاء، وأكمل ما وقف عنده الكتاب، وأن أقارن ما بين أسلوب (الكتابة) و (الإلقاء) في التدوين.

وبعد أن أنهيت الكتاب، تصفحت في وجوه مكتبتي، لأختار الكتاب القادم، فظهر لي كتاب آخر عن سيرة النفيسي وهو للصحفي السعودي علي العميم (النفيسي.. رجل الفكرة والتقلبات.. سيرة غير تبجيليّة). فقلت في نفسي إن لم اقرأ هذا الكتاب الأن فلن أقرأه في قادم الأيام،  هذه فرصة أن أضرب الحديد وهو حامي.

وبعد أن أنهيت كتاب العميم، أتت في ذهني عبارتين، الأولى “لم أرى خيرًا منك قط” ورأيت أن هذا اللفظ يصلح عنوانًا للكتاب، فالكتاب باختصار هو تجميع لسقطات الرجل وإن لم توجد سقطات اختلقها لك اختلاقًا، ولا يقف عند ما هو منصوص بل يستنطق مالم يدل عليه النص! ويخرجه عن مداه وحده ومدلوله ليقول لك في النهاية: هذا هو تاريخ النفيسي! وزد على ذلك الجزم في بواطن النيات “النفيسي يقصد كذا والنفيسي فعل كذا لأجل كذا”.

فرأيت أن هذا الكتاب حتى وإن أتى بنقدٍ موضوعي في بعض الجزئيات، إلا أن ما يعكر عليه عمومًا هو النفسية الناقمة التي تجعل من القارئ متعاطفًا مع الشخص المنقود أكثر من أن يتقبل هذا النقد وإن كان صحيحًا، ومن تصفح خانة المراجعات على (goodreads) ورأى تعليقات القرّاء خلصَ الى نفس النتيجة.

وأما العبارة الأخرى “إن لم تكتب تاريخك كتبه غيرك” وأحيانًا تلك الكتابة قد تكون المصدر الوحيد المتوفر عنك، ومع شح المصادر قد يضطر الباحث اضطرارًا أن يعتمد عليها في تقريب الصورة. وهذا الخطأ غالبًا ما يقع فيه المؤثرون وأصحاب التجارب، فالبعض يقع في ورع بارد وسخيف، ليقول لك: من أنا حتى أكتب مذكراتي؟! مظهرًا شيئًا من ورعه وتواضعه في غير موضعه. فالمتردية والنطيحة قد كتبوا مذكراتهم وحتى من لا تأثير له ومن لا قيمة له، فلماذا يسترخص الشخص نفسه ويجعلها في مقام أقل من مقام هؤلاء؟!

ثم إن لم تكتبها لهذا السبب، أكتبها بدافع حب الخير للآخرين على الأقل! فالشخص الذي مر بتجارب وسقطات وأخطاء من الجيد أن ينبه الناس عليها، فأكتب هذه المذكرات وما فيها محاولًا استنقاذ كل من يمكن استنقاذه! وأن تقي من كان بإمكانه أن يقع في نفس المطب الذي وقعت به.

الآن، بعدما كتب النفيسي مذكراته، بالله عليك من يريد أن يقتني كتاب علي العميم؟ فالماء يغني عن التيمم، فكتاب النفيسي هو بالضرورة إزاحة للكتاب الآخر.

حسنًا، هل أصاب علي العميم في “بعض” انتقاداته للنفيسي؟ الجواب: نعم.

كنا نقول ولا زلنا نقول، أن علوم الآلة (العقيدة والفقه والحديث إلخ …) مقدمة على الفكر الإسلامي، لأنها تحدد المسار وتضبطه، فحينئذ الشخص يضبط الفكر بناءً على النص ومخرجاته، ولكن إذا لم يكن يعرف النصوص كيف يمكن أن يضبط الفكر؟ ولا يلزم أن يتخصص الشخص في كل علوم الآلة وإنما يكفي لأن يأخذ الأساسيات (The basics).

النفيسي لم تتهيئ له الفرصة لأن يؤسس نفسه شرعيًا، ودخل المعترك الإسلامي من البوابة الحزبية والعمل الطلابي أبتداءً. وهذا له أثره في اضطراب النفيسي، وهذا الاضطراب أوضحه العميم في عرضه لكتابين صدرا بنفس العام (عندما يحكم الإسلام) و (مجلس التعاون الخليجي.. الإطار السياسي والإستراتيجي) ببيان أوجه التعارض وعدم التزام النفيسي بكلامه الأوّل.

وأظن أن ما يمكن أن يُضاف هو تغيّر آليات التغيير المحبذة لدى النفيسي عبر امتداد الوقت، وهذا لا يجزم به ولكن يلتمس من مدحه للتنظيمات فأولًا مارس السياسة عبر البرلمان ثم آمن أنها طريق غير سوي لتطبيق الإسلام وأن من يظن ذلك هو واهم، ثم نصحه لحماس عدم دخول السياسة والإستمرار بالقتال والجهاد (سنة 2005) ثم في وقت لاحق قال الحل هي القاعدة وليست حماس (سنة 2009) ثم في نهاية المطاف خلص أن النموذج الأقرب هو نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا (سنة 2017).

التغير في اتخاذ آليات التغير قد لا يتم عن إيمان جازم بها أو قناعة تامة، وهذا سبب التغير من عمل سياسي ثم ثوري أو جهادي ثم سياسي بوجهٍ آخر.

ولكن نحن نتكلم عن كتاب (من أيام العمر الماضي) ربما يكون من آواخر كتبه والتي تمثل خلاصة فكره، وذكر فيه أن التغيير يجب أن يكون من الأسفل، وأن إيمان الناس بأفكار معينة هو ما يفرض على من هم في الأعلى تطبيق توجهات من هم بالأسفل.

وهذا قول مثالي لا واقعي، والسبب أنه لا توجد دولة سوف تتركك تبث أفكارك ومبادئك في الناس حتى تكون لك قاعدة جماهرية كبيرة، تضغط عليها وتؤثر عليها وتجعلها تطبق الإسلام، وتحكم الشريعة، وتبث العدل، وتقضي على المحسوبية والفساد، فالحكومات مستعدة أن تبذل الغالي والنفيس من أجل أن تعزلك عن الجمهور وأن تجعل أثرك محدود أو أن تشوه صورتك وتغتالك إعلاميًا إن أبيت الانصياع أو تُنهيك بالإعتقال، فالخلاصة أن الدولة لها أدوات وأساليب تُلغي أي محاولة تأثير وضغط وتركيع لها. وجميع الحركات الإسلامية التي حاولت التغير من الأسفل لابد أن تسأل نفسها ماذا كانت النتيجة بعد مرور عقود من هذا التصور؟! لم يزداد الناس إلا بُعدًا، فأنت تبني والدولة بسياستها تهدم فكأنك كالذي يحرث في الماء.

وكتاب علي العميم عن النفيسي نشر عام 2012، وهو مستل من كتابه الضخم الآخر (شيء من النقد شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار)، وجزئية النفيسي هذه كتبها عبر حلقات في مجلة (المجلة) من أكتوبر/2004 عبر ثلاث حلقات، أي أنها بعد ظهور عبد الله النفيسي المتكرر على قناة الجزيرة في فترة الأحداث في السعودية سنة 2003-2004 وانتقاده المتكرر للسعودية. ربما هذا الكتاب هو ردة فعل على هذه اللقاءات؛ فالكتاب لم يصدر حديثًا وهذا واضح من المقدمة من أجل ذلك تراه لم يضمن العديد من المواقف والتصريحات التي قالها النفيسي بعد 2004 والتي قد تصب في خانة انتقادات المؤلف.

حسنًا، علي العميم كما يظهر أنه شخص مُطّلع، وناقد، ولكنه متكلف، ولا يكتفي بالظاهر أحيانًا للحكم بل ينبش عن الباطن ولا يكتفي بالظن بل يجزم أن مقصده هكذ! ولكن كتابه سلط الضوء على أمور ربما النفيسي لم يفصّل فيها في مذكراته لاحقًا وهي العلاقة مع جماعة جهيمان. وهذه الجزئية على وجه الخصوص شطحَ فيها بعيدًا عن النفيسي؛ إذ هي زاوية نقد مشترك ما بين النفيسي واليسار المتمثل بدار الطليعة ومن يدعمها، فاستطرد هنا بنقد اليسار والإزدواجية في أحكامه وأفعاله.

أما كتاب الدكتور عبد الله النفيسي (من أيام العمر الماضي) ويقع في (184) صفحة من طبعة مكتبة آفاق الكويتية التي طبعت الكثير من كتب النفيسي، وهي للأسف مكتبة سيئة الإخراج، لا تُكلِف نفسها بتدقيق النص بل تطبعه بأخطائهِ كما أرسله المؤلف.

وهي الجزء الأول من مذكراته وانتهت تقريبًا مع حل مجلس “الأمة” وبداية الغزو العراقي، فلم يذكر النفيسي مشاهدته في الغزو العراقي بقدر ما أجاب على سؤال وهو عنوان الفصل الأخير (الغزو العراقي للكويت: هل كان مفاجأة)؟ والذي برهن فيه أن الغزو لم يكن مفاجئًا بل هنالك شواهد حسية حقيقة لاستعداد العراق لغزو الكويت وقد تجاهلتها الحكومة الكويتية وأدت في النهاية الى هذه الكارثة.

هذه المذكرات لم يبدأ فيها النفيسي منذ النشأة والجذور العائلية وتاريخ العائلة، بل أول ما بدأ بهِ هو رحلته في (مدرسة فكتوريا) الإنجليزية في مصر منذ 1951 الى 1961 (أنهى المراحل التعليمية الثلاث فيها). يقول النفيسي أن مستوى التعليم في هذه المدرسة ليس بتلك الجودة ولم يكن هو الهدف الرئيس من هذه المدرسة، وإنما الهدف من تأسيس هكذا مدارس هو إنشاء جيل موالي للثقافة الغربية ولكن بأسماء عربية، فكانت هذه المدرسة حريصة على أن يكون التعلّم كله بالإنجليزي وأن تُدرّس الثقافة الغربية في الأدب والفن وتُعاقِب بصرامة من ضُبِطَ وهو يتكلم بالعربية مع زميله وتلزم الطالب كعقاب له أن يكتب (I must not speak Arabic) مئة أو مئتي مرة مما يجعل يد الطالب تخدر من كثرة التكرار فيحرّم الكلام بالعربية.

وهذا ما جعل النفيسي ينشئ نشأه جاهلة جهل مركب في الدين واللغة العربية، فسنوات التأسيس الأولى قضاها في جو بعيد عن الدين وعن الثقافة، وهذا ما جعله يجاوز العاشرة وهو لا يعرف الوضوء ولا يحفظ شيء من القرآن ولا يعرف أساسيات اللغة العربية (مما أبعد عنه فرصة الدخول إلى الأزهر أو كلية الشريعة في دمشق) في وقت لاحق.

ويستفيد الشخص من هذه التجارب، أن قذف الطالب في مدارس خاصة ذات توجه غربي محض، دون حتى رعاية ولا مراقبة ولا توجيه، غالبًا لن يخرج الشخص إلا غربيًا أكثر من الغربيين أنفسهم، جاهلًا بثقافته محتقرًا لها، لا يعرف أساسيات دينه ولا لغته ولا يربطه بهذه الأمة رابط طالما فقد الشخص أدوات التواصل معها.

والخط العريض لهذه المذكرات هي السيرة التعليمية والسياسية على وجهٍ خاص، لذلك لا تجد ذكر للعائلة وأفرادها ولا قصة الزواج ولا طريقة تنشأة الأبناء (كما هو الحال في رحلة الدكتور عبد الوهاب المسيري)، فكانت خط المذكرات للنفيسي يبدأ من الدراسة في مصر ثم انجلترا (مانشستر) ثم قفل راجعًا الى الكويت وثم الدراسة في لبنان ثم الدكتوراة في انجلترا ثم التدريس في الكويت وفي أحد المعاهد البريطانية ثم جامعة العين الإماراتية ثم الدخول في البرلمان ثم الغزو العراقي.

أسلوب النفيسي في الطرح “أسلوب شعبوي”، فهو يتكلم في مسائل معقدة باللهجة العامية، لذا تجد هنالك جمهور عريض له، لأنه يتكلم في أمور معقدة بأسلوب يفهمه الكثير. وبالأخص الأفراد الغير متخصصين في هذا المجال وهم جمهور الناس. (وحبذا لو تراجع كلام أحمد سمير في كتابه “معركة الأحرار” عن نجاعة هذا الأسلوب).

وهذا الأسلوب الشعوبي لا يخلو من طرافة، ولا يخلو من الكلام بالعامية وعدم الإلتزام بالنص الفصيح وهذا ما يجعل غير الكويتي أو الخليجي لا يفهم ما المقصود من بعض الحوارت مثل ما هو موجود في ملحق الصور، استغرب النفيسي مع نشاط أحد كبار السن العمانيين، فسأله عن سر ذلك فقال له: “وخر عن الأچل الدسم والنسا” فرد عليه النفيسي: “هذه چايدة” فالرجل الكبير يقول له ابتعد عن الأكل الدسم والنساء فالنفيسي يقول هذه صعبة وعلى هذا قس.

ويظهر لي أن هذه المذكرات هي من كتابة النفيسي شخصيًا، أي أنها ليست نتائج سلسلة لقاءات صوتية ثم تفريغها على شكل كتاب. وعادةً من سلك هذا المسلك فإن لياقته تضعف مع طول الأحداث وتفاصيلها. فتجد في بداية الكتاب تفاصيل كثيرة وفي نهايته اختصار وقفز على المراحل.

تستطيع أن تقارن مثلًا مواضيع الطرح في هذا الكتاب وسلسلة لقاءات في (الصدوق الأسود) تجد أن النفيسي في اللقاءات المرئية أكثر انبساطًا وتفصيلًا من الكتاب.

حسنًا، في فترة مانسشتر، تخصص النفيسي في دراسة الطب وأبلى بلاءً حسنًا، ولكن أقدار الله شاءت أن يترك هذا كليًا بقصة حصلت له، وهو مروره على محل لبيع الكتب المستعملة ووجد فيها كتابًا مستعملًا أسمه (لماذا لستُ مسيحيًا) للفليسوف برتراند راسل، فكان يُنظّر لفكرة الإلحاد من هذا الكتاب في نقد الأديان والمسيحية على وجه الخصوص.

أدى هذا الى انزراع بذرة الشك لدى النفيسي، الذي لم يجد بُدًا من الرجوع الى الكويت وترك الدراسة وخسران البعثة من أجل القراءة عن الإسلام. ومن هنا يعرف الشخص أهمية برامج (صناعة المحاور) التي تقي الشخص مثل هذه المزالق وتختصر عليه الطريق والوقت والجهد.

وفي فترة بيروت عندما التحق النفيسي ببعثة لدراسة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية، كانت تلك الحقبة تموج بالحراك السياسي والطلابي، ويذكر النفيسي هنا مفارقة بين بيروت ومانسشتر فيقول:

وفجأة ارتفع صوت الأذان من مسجد قريب في بيروت.. فاغرورقت عيني من الفرح، وتذكرت مانشستر حيث لا يسمع هذا الصوت.

تكرار الأذان وحضوره الدائم قد يجعلك لا تعرف قيمته الا اذا سكنت في مكان تبقى فيه بالشهور والسنوات لا تسمعه. فالأذان نعمة لا يُقدّر البعض قيمتها إلا بفقدانها.

وفي تلك الحقبة احتك النفيسي مع جهابذة القومية العربية واليسار في هيئة التدريس بالجامعة الأمريكية في بيروت، من بينهم مؤرخ الحزب الشيوعي للعراق حنا بطاطو وفايز الصائغ وصادق جلال العظم وغيرهم وكل هؤلاء وقع معهم بقصة، ولعل أبرزها في نظري مع فايز الصائغ الذي كلفه بجمع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإسرائيل منذ 1948 حتى 1965، هذه التجربة أفادت النفيسي كثيرًا فتراه يقول:

“كانت مهمة مفيدة لي شخصيًا لأنها أطلعتني على سُخف مقولة “الشرعية الدولية” و “القانون الدولي” و “المنظمة الدولية” وتفاهة القرارات الصادرة عنها، وأقنعتني هذه المهمة بأن سياسات القوة هي السائدة في العالم وأن اللهاث وراء سراب ميثاق الأمم المتحدة أو غيره من المواثيق ما هو إلا إطالة عمر الظلم الفادح الذي تتحمله الشعوب المستضعفة”.

البعض لا يريد أن يتعلم من تجارب من سبقوهُ للوصول إلى هذه النتيجة، لابد أن يمر بمرحلة تعليق الأمل بهم ثم يكتشف مع الوقت أنهم متواطئين أو في أحسن حالهم سراب، رأس ماله الإنكار والشجب، الذي لا يغير من المعادلة شيء على الأرض.

حقًا كما قال أحدهم “منطق السياسة في أيامنا لا يحترم إلا أصحاب الأقدام الثقيلة”. وحبذا لو ترجع الى كتاب (تحت وابل النيران في سراييفو) للصحفي أحمد منصور، ورؤية موقف الساسة البوسنيين من دور الأمم المتحدة في الأزمة البوسنية.

في سوريا البعض احتاج سنوات ودماء وفاتورة كبيرة حتى يعلم أن ما يسمى بـ (أصدقاء سوريا) أنهم بلا قيمة ولا تأثير ولا نفع! وأن منظمة الأمم المتحدة لم تستطع أن تنقذ الناس من الحصار ولا أن تمنع القصف ولم تستطع أن تفرض حصارًا حقيقيًا على النظام حتى يسقط. فهي ليس لها إلا التنديد والوعود، وفي أي تجربة قادمة في المستقبل من يعلّق الأمل على هؤلاء فهو كمن اتكل ولم يتوكل.

إن تحرير فلسطين لن يتم إلا بعد التوصيف الحقيقي للدول الغربية وهي أنهم في خندق العدو وليسوا وسطاء، فهؤلاء لم ولن يؤيدوك في تحرير فلسطين، بل أقصى أمانيهم هو التنديد ببعض ممارسات إسرائيل، ومن ظن غير ذلك فهو واهم.

وتكلم أيضًا النفيسي أنه بعدما أصدر كتابه (الكويت: الراي الأخر) ويُسحب منه جوازه ومُنِعَ من العمل وبعد أحداث  مطولة أستطاع الذهاب الى الإمارات، ومن خلال سرد النفيسي تستطيع أن تعمل مقارنة بين الحريات السياسية الموجودة في الإمارات آنذاك وحالها الأن!

فقد أصبح استاذًا جامعيًا في مدينة العين الإماراتية، وقد طلبت منه وزارة الخارجية للإمارات أن يشارك في ندوة عن منظمة مجلس التعاون الخليجي التي تأسست للتو، فرفض أن يشارك لأن رأيه نوعًا ما شديد حول هذه القضية وقد أخبر الخارجية الإماراتية بذلك فرد عليه المندوب: “الخارجية الإماراتية لا تُمانع أن تصدع برأيك ولو كان مخالفًا للرواية الرسمية”.

وتكلم في هذه الندوة “وجلد هذه المنظمة جلد” وأنها ليست إلا نزول للرغبة الغربية في تأسيسها، ويكمل النفيسي قائلًا: “من الغد وفي الصباح الباكر اتصل بي السيد أحمد السويدي المستشار المقرب للشيخ زايد وطلب مني تأجيل عودتي للعين إذ أنه يرغب في دعوتي إلى الغداء في منزله لتبليغي رسالة من الشيخ زايد، …. فقال لي: الشيخ زايد يسلم عليك ومسرور جدًا من المحاضرة ويقول زين سوّيت فيهم وأنت في ديرتك وبين أهلك”. بل قال له وزير الخارجية الإماراتي د. سيف غباش [انتبه لهذا الاسم جيدًا]: “يا أخي تعال عندنا واترك الكويت فنحن أحوج لأمثالك!”.

الغريب أن في الندوة تكلم النفيسي عن مشكلة الندرة السكانية في دول الخليج (الإمارات على وجه التحديد) واستيراد عمالة وافدة أجنبية بكثرة مما رجح الكفّة لصالح الوافدين الأجانب مما جعلهم يكونوا كأغلبية كبيرة (large majority) فسأله د. سيف غباش ما الحل لمعالجة هذه المشكلة؟

فقال النفيسي: “الحل في اليمن، فاليمن فيه كثافة بشرية وفي الوقت نفسه اليمن قريب جغرافيًا. لماذا لا تعمل الإمارات على استيراد العمالة اليمنية وهي عمالة أثبتت نجاحها في ميتشيجان “ديترويت” في الولات المتحدة، وفي شيفيلد في إنجلترا، وثقافة اليمني وعاداته وأخلاقه ودينه ولغته قريبة جدًا من المجتمع الخليجي، والبديل اليمني قطعًا أفضل من الكم الهائل من الفلبينيين والهنود والكوريين وغيرهم إلخ …”.

طيب ماذا كان الرد على المُقترح؟ يكمل النفيسي: “انشرح الدكتور سيف للفكرة وتحمس لها، ووعد بتفعيلها وطرحها على الشيخ زايد، وأظن أنه فعل، وأن الشيخ زايد وافق على هذا الحل كما علمت لاحقًا”.

فأظن أن توطين الجالية اليمنية -الذي حصل في وقتٍ لاحق في الإمارات- كان على ضوء اقتراح النفيسي هذا.

وأيضًا كما يظهر من خلال الكتاب، أن من ينهمك في السياسة قد يزهد بشكلٍ أو بآخر في الأدب، أنا أرى ذلك ماثلًا في نفسي، كلما أكثرت القراءة في الفكر أو السياسة ابتعدتُ تدريجيًا عن الأدب الروائي، وقد رأيت أن هذا الزهد في ظل الحرارة السياسية قد يكون حاضرًا لدى غيري كذلك، مثل كلام النفيسي هذا: “تداولت مع د. سيف عدة مواضيع من ضمنها إعادة النظر كليًا في هيكل جامعة العين وتخصصاتها وكلياتها، فلسنا في الخليج -كل الخليج- بحاجة لدراسة شعر الغزل في العصر العباسي حتى نستورد المختصين بالغزل أو حتى الأدب والفن. هذه ميادين لا تهتم بها المجتمعات والدول إلا إذا استكملت أبنيتها التحتية والفوقية”. الأولوية غالبًا ما تطرد الأدب وتجعله على ضفاف الاهتمامات.

جهيمان العتيبي، قائد عملية الإستيلاء على الحرم المكي عام 1979.

ويُلاحظ تغير أحكام النفيسي على الرموز والشخصيات مع تقدّم الزمن، ففي كتابه القديم (عندما يحكم الإسلام) تراه ينقل الإجماع على كفر الحكام وأنهم نصبوا بدعم القوى الكافرة المتربصة بالإسلام، وفي نفس الكتاب تراه يقول عن جهيمان العتيبي: “جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي ولإخوانه الأطهار الأبرار رحمهم الله وغفر لهم”.

ولكن في كتاب (من أيام العمر الماضي) ترى الآية انقلبت، فهو يترحم على الحكام الذين كفروا (كالسادات وغيره) ويقول عن جيهمان: “له عند الله ما يستحق” وزد على ذلك حذف الكلام عن جهيمان في طبعة الكتابة الثالثة سنة 2011 فيما يبدو لي.

وهنا لابد أن نفصل الشخصية عن مراحلها المتقدمة، فالنتاج الكلي هو ما استقرت عليه في ختام الأمر، وهو ينسخ ما سبق إن كان مخالفًا له. فالتغيّر قد لا يكون عيبًا بحد ذاته، وإنما العيب قد يكون في كثرته.

وتكلم النفيسي أيضًا عن دخوله الانتخابات لمجلس الأمة (البرلمان الكويتي) وفوزه ودخوله برلمان عام 1985 الذي تم حله، وكان الحل بسبب ضغوطات خارجية على الكويت واشتداد المعركة ما بين إيران والعراق، فلم تكن الكويت -حسب وصف النفيسي- ناقصة مشاكل داخلية، فكان الحل “الغير دستوري” محاولة منها لسد جهة ضغط داخلية للتفرغ لبقية الجبهات، والنفيسي في هذا الوقت تكلّم عن نقد ذاتي وقال أنه لم يكن هنالك داعي للضغط على الحكومة أكثر، وأن هذا الضغط حصل بسبب عدم وجود قنوات تواصل ومكاشفة حقيقية بين الحكومة والبرلمان، وأما التراجع الثاني قوله عن مرحلة البرلمان: “قراران في حياتي ندمت عليهما أيما ندم. الأول تركي دراسة الطب في مانشستر سنة 1962 والثاني: دخولي إلى مجلس لأمة سنة 1985”.

ثم طفق ينتقد أسلوب الحركات الإسلامية وأدائها السياسي، وهذا قد تطرق إليه في التفصيل في كتابه (الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق) وكذا في برنامج (المقابلة) مع قناة الجزيرة سنة 2017.

اللفتة الأبرز هي كلامه عن دواوين الاثنين، والديوان هي مجالس شعبية يجتمع فيها الناس للحوار والنقاش وهي أشبه بالملتقى العام في بعض الدول الخليجية. أصبحت هذه الدواوين في الكويت بعد حل البرلمان سنة 1985 هي الملتقى لتوجيه رسائل السخط على قرار الحكومة وأصبحت مكان لمعارضة قرار الحكومة. فعقدت الندوات واللقاءات ضد هذا الحل.

اللافت للانتباه هي الحادثة التي حسب وصف النفيسي جعلته يغسل يده من الجماهير، يقول: “فبدأت الحديث بالقول إن الأمير لا يحق له حل المجلس بالطريقة التي تمت؛ لأن ذلك الحل هو حل غير دستوري ولأنه لم يحدد موعدًا للانتخابات -ستين يومًا- كما ينص الدستور، وهذا أمرٌ مرفوض ولا ينبغي أن نقبل به”.

ماذا حدث بعد أن قال النفيسي كلامه هذا؟

يقول: “فجأة ظهر صوت في الخلف عند مدخل الديوان قائلًا: أنا النقيب هزاع الصلال من أمن الدولة أطلب منك دكتور عبد الله أن تكف الكلام. فقلت له: أنا ضيف عند جاسم القطامي وهذا ديوانه ولست ضيفًا عندك، وإذا طلب جاسم القطامي مني أن أكف عن الكلام فلا أمانع. فقال مندوب أمن الدولة لجاسم القطامي: أطلب من الدكتور عبد الله أن يكف عن الكلام. فقال لي جاسم القطامي: أكمل أبا مهند. فأكملت الحديث مواصلًا. فما كان من الصلال ومعه شرطيان إلا أن اخترقا الصفوف متوجهًا إلينا وعندما وصل إلينا طلب منّا مرافقته. الغريب في الأمر أن الجمهور كان متعاونًا مع الشرطة ومندوب أمن الدولة بطريقة وكأنها (تواطىء)؛ لأنهم كانوا يفسحون الطريق لهم. ولم أسمع كلمة -مجرد كلمة!- احتجاج من هذا الجمهور الكثيف الذي قدّره جاسم القطامي فيما بعد بمفخر شويخ الصناعي بـ700 مواطن كويتي ….. لا أخفي القارئ أن موقف الجمهور في ديوان القطامي وهو موقف سلبي للغاية اتجاه القضية واتجاه صاحب الديوانية الذي استضافهم لنصف قرن ولم يعترضوا حتى لفظًا على اعتقاله دفعني للتفكير العميق في طبيعة الكويتيين وخلصت الى قناعة: ليسعك بيتك!”.

هذا الموقف يصلح كمقياس لشعوب الخليج كافة، فالشعب الكويتي هو الأوعى سياسيًا والذي مارس السياسة عبر أحزاب وتكتلات وكانت هنالك هوامش من الحرية غير موجودة في بقية الدول الخليجية. مما جعله الشعب الأوعى سياسيًا، ومع ذلك خذلت الجموع النخبة في قضية هم يتفقون معها في مشروعيتها.

فالشعوب الخليجية من هذا النص ومن خلال مشاهدة عينية تتفق معك في المبدأ ولكنها لا تمشي معك الى نهاية الطريق. لياقتها ضعيفة، وهذا ما جعل جملة من النخب تشعر بالخذلان مما جعلهم ينكفئون على ذواتهم، ولا يطالبوا بحقوق شعوب هم أول من يتخلى عنهم عند أول امتحان.

فشخّص كل التجارب السياسية في الدول الخليجية التي تحصل حدة الخصام بين الحكومة والمعارضة الى ذروتها وفتش عن الجمهور تجد النتيجة ماثلة أمام عينيك وهي أنهم انتقلوا من مرحلة التأييد الى مرحلة التفرج، ربما الطائفة الوحيدة التي تُحامي عن نخبها هم الشيعة، وهذا مشاهد.

د. سيف سعيد بن غباش، كان أول وزير دولة للشؤون الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة.

حسنًا، الأن نرجع الى اسم ذكره النفيسي وهو (الدكتور سيف غباش) وزير الخارجية الإماراتي. النفيسي يتكلم عن مرحلة تأسيس مجلس التعاون الذي أُنشى عام 1981 بينما الدكتور سيف غباش أُغتيل في سنة 1977! فلا يعقل أن يشارك النفيسي في ندوة عن مجلس التعاون في سنة 1983 ويلتقيه فيها الدكتور سيف بينما الدكتور سيف من المفترض انه ميت قبلها بـ6 سنوات!

أيضًا لو راجعت الى سلسلة (الصندوق الأسود) تجد شيئًا من هذا القبيل، فمثلًا تكلم عن لقاءه مع الملا عمر في أفغانستان في أواخر السبعينيات ولكن الأرجح أنها حصلت في التعسنيات، بدليل أنه في ندوة في سنة 2009 بعنوان (العرب قبل وبعد الحرب على غزة) ذكر تفاصيل متشابه لهذا اللقاء، ولكن في الندوة تكملة وهي قوله: “أنا قابلت الملا عمر شخصيًا وشرفت بذلك، وهو رجل ليس من هذا العصر، كان لا يستقبل الوفود الغربية، يقول لهم: “اذهبوا الى كابل قابلوا وزير الخارجية بينما أنا جالس هنا في قندهار”، فدلت هذه التكملة أن الملا عمر كان آنذاك أمير دولة ولديه وزير خارجية، وهذا لم يتحصل له إلا في مرحلة التسعينيات لا في أواخر السبعينيات التي كان فيها مجرد قائد عسكري عادي غير بارز وهذا تجده في كتاب (حياتي مع الطالبان) للملا عبد السلام ضعيف سفير الطالبان في باكستان وهو كتاب متوفر بالعربية بالمناسبة.

هذه النماذج تدل على أن الدكتور عبد الله مع تقدم العمر وكثرة الأحداث قد يخلط بين التواريخ والشخصيات أحيانًا. وهذا أمر لا يسقط الشخص بالكلية؛ لأنه يحصل مع فطاحلة الحفّاظ قد يقع لهم مثل هذا، فيحصل لديهم شيء من الاختلاط والوهم في الرواية، والمحدثين في تشخيصهم يقولون أن هذا مترادف مع الكبر والتقدم في العمر في بعض الأحيان.

وأنا شخصيًا قد جالست بعض كبار السن وسجلت لهم وهم يَرون شهاداتهم لبعض الأحداث والشخصيات التي مضت منذ وقتٍ بعيد، وقد رأيت أنهم يتذكرون الحدث ولكن يقع الوهم في تسمية المكان أو الشخص أو السنة، فمن خلال قراءات سابقة مؤرخة لا تلغي هذه الشهادة بل تعمل مقاربة لها من خلال ما هو مؤرشف في الوثائق والكتب التاريخية المعتمدة، فمن خلال أسلوب المقاربة بين الروايات تُثري الرواية التاريخية بدلًا من إلغائها جملة واحدة بحجة أن صاحبها يخلط أو يَهم في الأسماء أو السنوات.

وهذا يختلف جذريًا –بلا شك- عن من يكذب متعمدًا أو يُدلّس متعمدًا، فمثل هذا لا تؤخذ روايته ولا تقبل شهادته إلا اذا وافقت رواية غيره مثلما صنع سيد قطب في محاكمته لما أُستدل عليه بأقوال أحد القياديين معه في التنظيم وهو علي عشماوي؛ فقال لا تقبل روايته إلا اذا وافقت رواية بقية القادة كما ذكر ذلك سامي جوهر في كتابه (الموتى يتكلمون).

النقطة الأخيرة من خلال الرحلة في سير الدكتور عبد الله النفيسي، هل غطى برنامج (الصندوق الأسود) أغلب ما في كتاب (من أيام العمر الماضي؟) الجواب: نعم بل زاد عليه الكثير من التفاصيل المهمة، فأسلوب السرد أكثر نجاعة وفاعلية في التوثيق من أسلوب الكتابة، لأن توجيه السؤال يقدح بالذاكرة في الرأس فيسترسل المجيب في الإجابة ويُطنب.

وهذا أسلوب متّبع في الغرب في كتابة المذكرات، يقول الشيخ عمر بن محمود في نص طويل: “كثير من الإخوة ممن يملكون معاناة أو تجربة مهمّة ولكن تمنعهم قدراتهم من الكتابة؛ فالطريقة المعاصرة هي طريقة جيّدة من أجل تجاوز هذا العجز، وتخليد هذه الذكريات لتاريخ وللأجيال، وهي كالتالي:

يحضر صاحب القضيّة التي يُراد كتابة مذكّراته أو ذكرياته أو الأحداث التي يريد أن يتكلّم بها، فيحضّر عند جلوسه عندهم قدرة على كتابة الأسئلة، ويجلسون معه ويسألونه؛ مثلًا تبدأ بالتعريف بالشخصية: من أنت وما هي عائلتك وأين وُلدت، وهو يجيب ويتكلّم. هو لا يعرف الكتابة، هو يتكلّم كما نتكلّم نحن، وكأنه في جلسة انبساط، جلسة حديث عادية، فيتكلّم ويُسجّل له وهم يسمعون.

ثم هذه الأجوبة تنتج أسئلة؛ أنت سُجنت في أي يوم؟ من سجنك؟ هم يعرفون هذه، هو ليس في ذهنه قدرة على صياغة قصة. قد لا يكون قصّاصًا جيّدًا، وبعضهم عنده القدرة على القصّ يعني أن يتكلّم، فتُسجل له الساعات؛ مائة ساعة، مائتي ساعة، وبعد ذلك يأخذون هذه الأشرطة ويفرغونها على الورق. ويبدأ بعد ذلك الترتيب؛ هذه توضع هنا، هذه تُزال، هذه تُرتّب، هذه نقطة غير بيّنة ارجع اسأله السؤال، فيحضّرون هذا السؤال مرة أخرى، وبعد ذلك يكوّنون هذا الكتاب.

فالكتاب يخرج باسمه أنه ذكريات فلان. وهو لم يكتب، وإنما كتبه هؤلاء الصحفيون. عادةً هناك أناس في الغرب مختصون لهذا، وما أحد هناك من المشاهير سواء سياسي أو لاعب كرة قدم أو ممثّل إلا ويكتب مذكّراته بهذه الطريقة. لا يوجد عندهم أحد يأتي بمثل ما عندنا ويضع الكمبيوتر ويكتب مذكّراته ثم ينشرها، هذا لا وجود له، هذا انتهى عندهم” أهـ.

وكذا المذكرات فهي مهمة من حيث قراءتها ومهمة من حيث كتابتها لأهل التجربة، يقول عمر عبد الحكيم في شرحه لكتاب حرب المستضعفين: “فأنا أشجع الإخوة الذين يلمسون في أنفسهم هذه المبادرة، أن يبادروا للكتابة لأننا محتاجون إلى قوّاد يكتبون ويقرأون، مِن أحبّ الكتب إليّ مذكرات الزعماء، مذكرات تشرشل، مذكرات ديجول، مذكرات الإسلاميين، مذكرات العلمانيين، مذكرات الملوك: مذكرات الملك حسين، لأنها عصارة التاريخ، وعصارة التجارب” أهـ.

ثم هنالك نقاط وجدت في الكتاب لم يتطرق إليها في برنامج (الصندوق الأسود)، ولكن بعضها هامشي جدًا ولا يؤثر، بإستثناء نقطة مهمة جدًا وأعتبرها سقط وهي لقاء النفيسي في لبنان لما كان طالبًا مع المصري الغامض الذي كان يبيع الكرفتات (ربطات العنق)، والذي استضافه لاحقًا في منزله المتواضع جدًا، ثم اتضح أن هذا الشخص ليس سوى قائد السرب في سلاح الجو المصري سابقًا اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف الذي كان له الدور الرئيس في انقلاب 23 يوليو 1952 وكان عضوًا في مجلس قيادة الثورة وهو الذي قام بقيادة الفرقة التي حاصرت قصر رأس التين في الإسكندرية ونجحت في إرغام الملك السابق فاروق على التنازل عن العرش. ولما بدأ هذا الأخير يسرد ذكرياته يقول النفيسي: “في حضرته كانت سياستي “دعه يتكلم” فهذا رجل مخزون بالخبرة والقوة والفروسية. ولو تركني على حريتي لأحضرت معي آله تسجيل لأستعيد ما كان يقوله عن انقلاب 23 يوليو 1952 وعن زملائه في مجلس قيادة الثورة إلخ …”.

الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف، من مؤسسي تنظيم الضباط الأحرار.

ربما لم يتطرق الى هذه النقطة رغم أهميتها أن عبد المنعم عبد الرؤوف قد كتب مذكراته في وقت لاحق بعنوان (أرغمت فاروق على التنازل عن العرش) وقد نشرتها دار الزهراء للإعلام العربي. ولكن أحيانًا يكون في الحوار ما هو غير موجود في الكتاب ويستفاد منه في تكميل المشهد، ومع ذلك لم تُذكر هذه الحادثة في البرنامج وأعتبرها هي السقط الوحيد.

تكلم النفيسي في خاتمة الكتاب عن غزو الكويت، وأن ما بعد التحرير، كُوّنت لجنة لتقصي الحقائق حول الغزو، وخلصوا إلى وجود مؤشرات متكررة نقلها بعض السفراء وغيرهم إلى القيادة الكويتية تحذرهم جديًا من حصول الغزو وأن هذا الغزو لم يحدث فجأة، الأمر الذي استغربه النفيسي هو ما قاله: “لم يُقْصِ أحدًا من المسؤولين عن منصبه ولم يحاسب ولم يحاكم بل عاد الجميع إلى ما كانوا عليه…. لو حدث هذا في بلد غير الكويت لكان ما كان بعده؛ لكن ماذا نقول غير: الله المستعان على هذا الهوان”.

وهذا مفارقة، فقد تجد في الدول الغربية لو ارتكب الوزير أو المسؤول خطئًا فقد يستقيل أو يُحال إلى الإستجواب والتحقيق، ورغم أن هذا الخطأ قد يكون محدود الضرر، ولكن في الدول الخليجية أو العربية عمومًا، قد تجد أن بعض المسؤولين قد تسبب إهمالهم في عدم الإستعداد والتحصن مما جعل الإحتلال يدخل بسهولة ويسقط الحكومة في ساعات، فخطئهم تسبب في احتلال بلد كامل، وما تلا ذلك من قتل واعتقال وتعذيب وانتهاك للأعراض ومآسي تجدها مؤرخة في مجموعة كبيرة من كتب التأريخ التي كتبها الكويتيون ولعل من أبرزها في نظري (الكويت وأيام الإحتلال) للمؤرخ محمد عبد الهادي جمال.

فمر حدث الغزو كمرور الكرام، فلا مسائله -رغم تشكل لجنة أثبتت حصول الأخطاء- ولا استقالة ولا محاسبة بل كما قال النفيسي: “لم يقص أحدًا من المسؤولين عن منصبه”. فهذه هي عقلية الحكومات العربية، والأن البعض يريد من وزير النقل أن يستقيل لأن قطارين تصادما أو لأنه حصل حريق في أحد القطارات، فهذه دولة بأكملها احتلت ولم يُسائل أحد، وهؤلاء يريدون أن يُقيلوا الوزير على قطار!

ثم لم تكن هنالك أصوات تحذر من دخول العراق فقط، بل كانت هنالك أصوات علنية لا تحتاج الى رجل استخبارات بقدر ما تحتاج الى باحث أو راصد، تقول إن أمريكا تسعى بقوة للدخول إلى جزيرة العرب، وأن هذا ضمن خطة استراتيجية أتى صدام حسين وطبقها على طبق من ذهب، وقد جمعها الدكتور سفر الحوالي -فرج الله عنه- في كتابه الشهير (وعد كسينجر) أو يعرف أحيانًا بـ(كشف الغمة عن علماء الأمة).

هذا والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الكاتب: أحمد حمدان.

كلمة حق

تقارير ومقالات يتم إعادة نشرها من مجلة كلمة حق.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أما مواقف الدكتور النفيسي، فكلها تخبط في تخبط، وتلون دائم. الرجل له ثقافة بريطانية، لذلك يتقن التلون. ليس له أي أرضية فقهية شرعية. انتقل من الشيوعية الى الاخوان الى التحريريين، وتشبع بالفكر الإخواني الذي يوافق التربية البريطانية (التلون).
    فكان تارة ضد البرلمانات العلمانية، بعدها أصبح هو عضو فيها. وكان مع المفاصلة ضد الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، فأصبح من دعاة الحوار معها والقبول بالأمر الواقع، والتنزالات الخ. وكان من دعاة إقامة الإسلام ككل، فأصبح من صناديد التدرج. وكان من رواد التواصل الإيراني من دول الخليج، فأصبح من المحرضين ضد إيران. وغيرها الكثير من التقلبات.

    ولا يُقال أنه لا حرج في أن يغير المرء رأيه مع الوقت، لا يقال ذلك لأن العبرة ليست بتغيير الآراء، ولكن بنوع تلك الآراء، أهي صائبة أو باطلبة. والمصيبة أن يتحول الشخص في مواقفه من حق الى باطل. والمصيبة الأعظم أن يتحول الشخص من باطل الى باطل. فالدكتور النفيسي، إما تحول في بعض المواقف من حق لباطل، او تنقل من مواقف باطلة الى أخرى باطلة أيضا. والطامة الكبرى، هو أن يموت الإنسان على الباطل. فعند البحث في آراء الأشخاص، يجب النظر اليها هل هي باطلة أو صحيحة.

    نعم، للدكتور النفيسي مواقف طيبة حين ينتقد ديكتاتورية الأنظمة العربية. لكن هذا يقوم به خلق كثير وليس النفيسي لوحده، لكن الأهم من الانتقاد هو طرح البديل والحل الصائب الحق وطرحه بتفصيل، وهنا خفق النفيسي كما خفق غيره الكثير من المنتقدين للأنظمة العربية.

    وليس كل ما ذكر الدكتور النفيسي في مذركراته (من أيام العمر الماضي) صحيح ويؤخذ دون مراجعة ومقارنة، فالحذر الحذر.

  2. من كتاب النفيسي عن مدرسة فيكتوريا البريطانية في مصر التي تتلمذ فيها: (وإنما الهدف من تأسيس هكذا مدارس هو إنشاء جيل موالي للثقافة الغربية ولكن بأسماء عربية، فكانت هذه المدرسة حريصة على أن يكون التعلّم كله بالإنجليزي وأن تُدرّس الثقافة الغربية في الأدب والفن وتُعاقِب بصرامة من ضُبِطَ وهو يتكلم بالعربية مع زميله…).
    السخافة تكمن في أنه رغم أن الدكتور النفيسي وعى على هذا الهدف، إلا أنه أصبح مواليا للثقافة الغربية ويتبجح باللغة الإنجليزية، حيث تجد في لقاءاته كـ”الصندوق الأسود” أو في تغريداته أو كتاباته، يصر على إدراج كلمات إنجليزية، كصبي مراهق يتباهى بما يعرفه من اللغة الإنجليزية. ولما انتقده الجمهور على ذلك، رد قائلا “أنه يتعمد إدماج عبارات إنجليزية لأن الشباب العربي يطرب للغة الإنجليزية، وهو يريد بذلك جذب هذه الفئة من الشباب”، النفيسي يقول هذا الكلام بعدما وصل من العمر عتيا. يا له من خسران وضياع.

    ثم لنقارن صرامة بريطانيا في أن يستعمل التلاميذ اللغة الإنجليزية فقط، رغم أن الطلبة ليسوا بريطانيين ويحق لهم التحدث فيما بينهم بلغتهم الأم، لكن في المقابل نجد المسلمين حتى في التواصل فيما بينهم يصرون على خلط مصطلحات وعبارات إنجليزية (أو فرنسية، حسب نوع الاستعمار) مع لغتهم الأم.

    والأنكى أن تجد حتى موقع “تبيان” العربي الذي يسعى لتوعية الأمة الاسلامية، والذي المفترض أنه يدرك حقيقة الصراع المتشعب بين الحضارة الإسلامية والغربية والذي يشمل صراع الثقافة واللغة، للأسف تجد حتى موقع “تبيان” يصر على خلط عبارات إنجليزية في منشوراته. في هذا المقال لوحده عن النفيسي، سمح موقع “تبيان” بإدراج عدة عبارات إنجليزية، شيء مؤسف جدا! … هل مثلا العربي لا يفهم عبارة “أساسيات” لتضيفوا بعدها المرادف بالإنجليزية؟ وهل “أغلبية كبيرة” عبارة مبهمة لا يفهمها القارئ إلا بإضافة ترجمتها بالإنجليزية؟ وهل العبارة التي وجب على الطلبة في مدرسة فيكتوريا كتابتها عشرات المرات كعقاب لهم على التحدث بالعربية، لم يكن بإمكانكم ترجمتها الى العربية وكتابتها بالعربية “لا يجوز لي التحدث بالعربية”، فتكتبوا في النص مثلا: (… وتُعاقِب بصرامة من ضُبِطَ وهو يتكلم بالعربية مع زميله وتلزم الطالب كعقاب له أن يكتب بـ”اللغة الإنجليزية” (لا يجوز لي التحدث بالعربية) مئة أو مئتي مرة، …)؟؟؟

    شيء مؤسف جدا، فيبدو أن الكل، كما قال النفيسي (وقد صدق وهو كذوب)، يطرب للغة الإنجليزية (والفرنسية)، الكل يرى أن كلامه لا يكون قويا وجذابا ورنانا و”منفتحا” إلا بإضافة ملح “الإنجليزية” أو “الفرنسية”، إنها عقدة النقص التي لم يتحرر منها حتى من يدعى الوعي ويدعي أنه يقوم بمعركة الوعي! إنها خصلة من النفاق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “منْ أحسنَ منكمْ أنْ يتكلمَ بالعربيةِ، فلَا يتكلمَنَّ بالفارسيةِ، فإنَّه يُوَرِّثُ النفاقَ” (والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فما انطبق على اللغة الفارسية التي كانت في ذلك العصر اللغة التي “يطرب” بها المنهزمون نفسيا، ينطبق اليوم على لغات الغرب كالإنجليزية والفرنسية وغيرها.
    فالذي يريد توعية الغير، يبدو أنه هو نفسه يحتاج لمن يوعيه، يحتاج ليكون مثلا عمليا في التوعية.
    الذي يصر على خلط كلمات أعجمية بالعربية، بالتأكيد بعيد كل البعد عن الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى