وثائق بنما: حينما كشفت التسريبات أن بلاد المسلمين موطنٌ لنهب الثروات
“اعمل نفسك من بنما” .. الجملة التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي بعد فضحية التسريبات العالمية. ومَن لا يريد أن يكون من بنما، خاصة إذا كان رئيساً، سياسياً، رجل أعمال، أو حتى رياضياً! فهي الملاذ لثروتك المسروقة بعيداً عن أعين الضرائب والأرصدة المتعقبة، لا تجد أحداً يسألك عن مصدرها أو فيم تنفقها.
لكن هذا لم يستمر طويلاً؛ فقد أطلت علينا “وثائق بنما”، تلك الوثائق التي أرقت نوم الكثيرين ولم تهنأ ليلتهم إثر هذه التسريبات التي افتضحت أمرهم وكشفت عن حجم الفساد والاختلاس -الظاهر سلفاً- ولكن بشكل أكثر إثارة.
سلَّم “شخص” مجهول 11.5 مليون ملف سري من شركة “موساك فونسيكا” مقرها في بنما إلى الصحيفة الألمانية ” زود دويتشه تسايتونج” منذ العام الماضي، وتضم هذه الملفات حسابات بنكية، ومراسلات بريدية، جوازات سفر، وسجلات عملاء عددهم 14000 عميل بين عامي 1977 إلى 2015م، وقدمت هذه الشركة خدمات لـ 140 سياسياً وشركاءهم وعائلاتهم، ومسئوليين حكوميين، و12 من قادة العالم الحاليين والسابقين، والطغاة والفاسدين في العالم العربي، ولقد شاركت الصحيفة هذه المعلومات مع الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية الذي يقع في واشنطن، و400 صحافي من 107 مؤسسة صحفية في 78 دولة لتحليل هذه المعلومات.
الملاذ الضريبي Offshore
يلجأ أصحاب الثروات الهائلة لإخفاء ثرواتهم بعيداً عن الضرائب، فهم يبحثون عن دول لا تبذل جهوداً في التحقق من هوية مالكي الشركات. وتعد بنما، وسويسرا، جزر الكاريبي، الجزر البريطانية، قبرص، البهاما، وهونج كونج من أهم هذه الدول ذات النعيم الضريبي.
فدول الملاذ الضريبي هي تلك الدول والجزر في العالم التي تنشط فيها عملية غسيل الأموال وإخفاء الثروات؛ ففي هذه الدول من السهل إنشاء شركة وهمية أو حساب بنكي للتهرب من الضرائب والرقابة على الأموال في الدول الأخرى. وتدار هذه العمليات عن طريق شبكات وهمية من الشركات ليس لديها منتج أو خدمة تقدمها، فعملها هو تحويل مصادر الأموال إلى مصدر آخر مع إخفاء هوية مالك الأموال وتسجيل الأوراق والاتفاقيات بأسماء القائمين على إدارة الشركة. ومن هذه الشركات، وتعد من أكبر أربع شركات على مستوى العالم في ذلك هي شركة “موساك فونسيكا” ومقرها بنما. تقوم هذه الشركة بتحويل أصول المليارات إلى شركات تقدر بأكثر من 214 ألف شركة من الشبكات الخارجة عن إطار قوانين دولهم، وبأسماء غير أسماء ملاكها، فبذلك يصعب ترقبها وتحديد المستفيد منها.
وقالت هذه الشركة في بيان لـ CNN: “رغم أننا ضحية لعمليات سرقة معلومات إلا أنه لا شئ مما رأيناه في هذه الوثائق التي حصلوا عليها بصورة غير قانونية يقترح أننا كنا نقوم بأمر خاطئ أو غير قانوني. وهذا يثبت أننا حافظنا على سمعتنا التي بنيناها على مدى الأربعين عاماً الماضية حيث قمنا بأداء الأعمال بصورة قانونية وصحيحة. وسنقوم بكل ما بوسعنا للتأكد من أن المسؤولين عن هذا الخرق سيمثلون أمام العدالة”.
قُدرت خسائر الدول النامية بسبب التهرب الضريبي في 2014 بين 66 مليار دولار و84 مليار دولار سنوياً. وكذلك ميزانيات الدول التي تعد مراكز مالية ضخمة وملاذات ضريبية بـ 18 تريليون دولار أي ما يساوي ثلث الناتج المحلي للعالم بأكمله.
الفساد في وثائق
يتمتع القادة ورجال الأعمال والسياسيين الغربيين والعرب بآلاف المليارات من الثروات المعروفة وغير المعروفة، بينما تعاني الكثير من دول العالم -العربية والإسلامية خاصة- من الفقر والجوع والمرض والتشرد والتهجير والإبادات الجماعية، وتسارع الدول الغربية في تحسين ماء الوجه بتقديم المساعدات لتلك الدول على أنها منّة عليهم، وهي في الحقيقة ثرواتهم وأموالهم التي ينتهكونها ويغتصبونها باسم “الرأسمالية والعولمة”. فمن الطبيعي أن يتم افتضاح أمرهم ولو قليلاً، فلا يغرنا هذه التسريبات؛ فحجم الثروات المسروقة والمنهوبة أكثر من ذلك كثيراً، بالفساد والاستبداد وكافة أنواع الطغيان. فقد قالت متحدثة مفوضية الاتحاد الأوربي “كاثرين آشتون”:
مصر لديها ثروات تكفي لمساعدة ربع الدول الأوروبية، و ما تمت سرقته وإهداره من أموال وأرصدة مصر الطبيعية خلال الـ15 عاماً الأخيرة من نظام مبارك يبلغ 5 تريليون دولار أمريكي، وهو مبلغ يكفي لتحويل مصر إلى دولة أوروبية متقدمة، ويكفي لظهور 90 مليون مليونير كبير في مصر.
هذا في بلد واحد فقط، فما بالك ببقية البلدان! وإن يُظهر من شئ، فهو يفضح وجه “الديموقراطية” التي يزعمون أنها قائمة على الرقابة والتفتيش وإنفاذ القانون. وهذا ما كشفت عكسه هذه التسريبات.
لا يكاد تخلو دولة أو مؤسسة أو حتى شخصية عرفها العالم من هذه الفضائح، فإفريقيا القارة الأكثر فقراً وجوعاً ومرضاً حاضرة بقوة في قضايا السرقة هذه، من السنغال وغانا وغينيا والكونغو، وبلا شك الدول العربية أيضاً. مروراً بدول الخليج والشام. ومن ضمن القادة المتورطين في هذه الوثائق: الرئيس الأيسلندي، والأوكراني، والأرجنتيني، ملك السعودية، رئيس الإمارات العربية. وتضم أيضاً رئيس وزراء جورجيا سابقاً، وأمير قطر السابق. وأقارب وأصدقاء عدد من الرؤساء مثل: والد رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون”، ابنة الرئيس الصيني، أصدقاء الرئيس الروسي، وستة أعضاء في مجلس اللوردات البريطاني، وثلاثة أعضاء سابقين في مجلس العموم البريطاني.
وذكرت أفراداً من الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” الذين تورطوا في قضايا فساد ورشوة. وعلى ذكر هذا، يأتي أيضاً لاعب نادي برشلونة “ليونيل ميسي” هو والده في اتهامات بالتهرب الضريبي من ملايين الدولارات.
الغياب الأمريكي من المشهد
“لماذا لا نرى الأميركيين في وثائق بنما؟” وجه هذا السؤال إلى أستاذة القانون في جامعة يوتا الأمريكية “باراداران بومان” التي قالت: “أن الأميركيين قادرون على تسجيل شركات وهمية في عدة ولايات أمريكية بما يستثني الحاجة للذهاب إلى بنما”. وقد أكد هذا “جيمس هنري” كبير المستشارين الضريبين أن الأمريكيين يستخدمون شركات Offshore في كل وقت، فهم الرواد في هذا المجال؛ ففي السبعينات تورط 200 شخص أمريكي في قضايا تهريب عرفت باسم “كاسيل بانك آند تراست” وهو بنك في جزر البهاما، فهم فعلاً لا يحتاجون لبنما لأنهم يمتلكون صناعة داخلية من التهرب الضريبي تحافظ على السرية مثل أي مكان آخر.
استثناء الولايات المتحدة الأمريكية من “وثائق بنما” لا يبرئها بأي شكل من الأشكال من قضايا الفساد والسرقة الخفي منها والظاهر؛ إذ ساهمت عوامل عدة في تخفيها عن أكبر فضيحة في التاريخ ليس بسبب شفافيتها ونزاهتها.
وكما اختفت في هذه التسريبات، اختفت أيضاً في نشرها وتغطيتها، وتساءلت الصحف العالمية والمواقع عن سر تجاهل الصحف الأمريكية الخبر ولم تعطه التغطية المناسبة! فقد كشف موقع “فوكاتيف الأمريكي” أن 8 من 10 صحف أمريكية الأكثر رواجاً ، لم تعط “وثائق بنما” التغطية التي تستحق على صفحاتها، فيما اكتفت صحيفة “واشنطن بوست” بزاوية صغيرة حول هذه المسألة في الصفحة الأولى، وخصصت صحيفة “يو إس إي توداي” لها المانشيت الرئيسي. وانتهى الدور الأمريكي في أكبر وأهم خبر في الصحافة العالمية.
ويمكن أن يكون الجواب لهذه الأسئلة المتكررة التي يعرضها الجميع عن الغياب الأمريكي، هو أن الوثائق قد ذكرت أن أصدقاء وشركاء الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يمتلكون شبكة معقدة من الشركات والصفقات تنتهي إلى بوتين، ومن بينهم شركات باسم صديقه عازف آلة التشيلو “سيرغي رولوغن” الذي يمتلك ملايين الدولارات من صفقات مشبوهة، واستولت شركاته على أكبر شركة لصناعة الشاحنات وقطاع الإعلانات في التليفزيون الروسي، ولكن تقول الوثائق أن شركات صديقه ما هي إلا غطاء لإخفاء المالك لها وهو بوتين نفسه.
ولقد ندد الكرملين بهذه التسريبات معتبراً أن الرئيس هو المستهدف منها لزعزعة الاستقرار، وأضاف الناطق باسم الكرملين أن موسكو تتعهد ملاحقة المسئولين عن التقرير قضائياً. وهذا ما أكده موقع التسريبات “ويكيليكس” أن الحكومة الأمريكية وراء فضيحة التسريبات مع الملياردير الأمريكي “جورج سوروس”، وهم من قاموا بتمويلها مباشرةً للهجوم على الرئيس الروسي.
فقد تم افتضاح أمرهما جميعاً بالفضيحة الروسية والصمت الأمريكي..
الفساد العربي في “وثائق بنما”
قبل أن يتم عرض ردود الفعل حول هذه الوثائق، سنتعرض في إطلالة سريعة على أسماء العرب المتورطين في هذه الوثائق، وللمزيد على موقع الصحافة الاستقصائية من هنا
وثائق بنما والحرب السورية
رامي وحافظ مخلوف، ابني عم بشار الأسد، يمتلكان شركة في جزر فيرجن البريطانية، وحسابات مصرفية في جنيف لإدارة الاستثمارات الناشئة عن علاقتهم بابن عمهم. وفي عام 2002، شارك “رامي مخلوف” في تأسيس سيرياتل، شبكة الهاتف المحمول السورية، بنسبة 73%.
كما أظهرت الوثائق أنه في نفس العام الذي اندلعت فيه التظاهرات ضد الأسد، ناقش موظفون في موساك فونسيكا عبر البريد الإلكتروني مزاعم بالرشوة والفساد وجهت لعائلة مخلوف والعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية عليهما. وكشفت صحيفة “لوموند الفرنسية” أن شركاتهما الثلاث “بانغاتس إنترناشيونال” و”ماكسيما ميدل إيست ترايدينغ” و”مورغان أديتيفز”، وفروا الوقود للطائرات الحربية السورية التي تبيد في الشعب السوري. هذا الذي دفع لفرض عقوبات ضدهم، لكن استطاع “حافظ مخلوف” الحصول على 4 مليون دولار من البنوك السويسرية.
مصر
يمتلك “علاء مبارك” نجل الرئيس السابق حسني مبارك، شركة “وورلد للاستثمارات” في جزر فيرجن البريطانية. وعقب ثورة 25 يناير، تم اعتقاله مع والده، وأخبرت السلطات المصرية شركة موساك بتجميد أصول شركته. تم تصنيف علاء مبارك على أنه “عميل عالي الخطورة”، ولم يرد على هذه الاتهامات إلى الآن. بالإضافة إلى 270 مصرياً آخر ضمن فضيحة التسريبات.
دول الخليج تحت التسريب
المملكة العربية السعودية
محطتنا مع آل سعود، خادم الحرمين الشريفين “الملك سلمان” الذي حصل على قروض عام 2009م تبلغ 34 مليون دولار كرهن عقاري على ممتلكاته وسط لندن. كما ذكرت الوثائق أن الملك هو المستخدم الرئيسي ليخت بخاري على اسم قصره في الرياض “برقع” بطول ملعب كرة قدم. ولم تعلق المملكة على هذه التسريبات. ومما يذكر أن السعودية تعاني عجز في الميزانية واضطرت إلى بيع حصص نفطية لإنشاء صندوق للثروة بقيمة 2 تريليون دولار.
الإمارات العربية المتحدة
يمتلك “الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان” حاكم الإمارات 30 شركة في جزر فرجن البريطانية، جعلته يسيطر على عقارات في لندن تبلغ قيمتها 1.7 مليار دولار على الأقل، وتم تمويل هذه العقارات عبر قروض من بنكي “أبو ظبي الوطني” و “رويال بنك أوف سكوتلاند”.
في عام 2011 كتبت شركة موساك فونسيكا أنه متردد عادةً في الإدلاء بهويته وتوفير المعلومات عنه. وبمثل ما يفعل العرب، امتنعوا على التعليق على التسريب على لسان شركة بريطانية تمثل آل نهيان.
قطر
تمكن رئيس الوزراء القطري السابق “الشيخ حمد بن جاسم” من تسجيل يخت “المرقاب” الذي تبلغ قيمته 300 مليون دولار، وذلك بعد أن اشترى في عام 2002 شركة في جزر فيرجن البريطانية، وثلاث أخرى في جزر البهاما. وفي عام 2011، اشترى 4 شركات في بنما لها حسابات مصرفية في لوكسمبورج، ولكن لم يتم الكشف عن حجم الأموال التي دخلت هذه الحسابات. وكان قد نشر الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية نسخة من جواز السفر الخاص بأمير قطر، وهو ما لم يستخدمه في الآونة الأخيرة لتجنب الملاحقة القضائية في بريطانيا؛ لأنه متهم بسجن مواطن بريطاني زوراً وأخضعه للتعذيب.
وجاء الرد من المتحدث باسم الشيخ حمد إنه ليس لديهم حق الرد على أية أسئلة حول هذه الوثائق لأنه ملتزم بالسرية والمهنية.
اقرأ أيضًا: تحويل بلاد المسلمين إلى ميدان لنهب الثروات وسوق لتصريف المنتجات.
جدل عالمي وتجاهل عربي
بعد أن تحدث الجميع بعد “ثورات الربيع العربي” أنه سيتم استرداد تلك الثروات المنهوبة، ولكن كان هذا تأمل وتمني فقط، تم تسكينه على هيئة مخدرات باسم ” لجان تقصي الحقائق” أو “جهود الحكومة للتعاون مع السلطات الأجنبية لاسترداد الأموال”. ولكن هل سيتغير رد الفعل هذا مع “وثائق بنما”!
تباينت ردود الفعل على هذه الوثائق؛ فبعادة العرب، التزم المتورطين منهم في هذه الوثائق بالصمت وعدم الإدلاء بأي تصاريح تؤيد أو ترفض الاتهامات الموجهة لهم، أو تحرك ساكن الحكومات للضرب على أيدي الفسدة وسارقي أموال الشعوب. بينما اشتعلت النيران في الدول الأوروبية مما أدى إلى استقالة البعض وفتح التحقيقات مع الآخرين.
لقد طالبت هيئة تنظيم القطاع المالي البريطانية 20 شركة مالية وبنكاً بإجراء متابعة لمعرفة إذا ما كانت تربطها علاقة بشركة موساك فونسيكا. وفرنسا سارت على نفس خطى بريطانيا أيضاً. وفي النمسا , قدم رئيس تنفيذي لبنك استقالته، ليكون واحداً من أوائل كبار المصرفيين الذين يقدمون استقالتهم بسبب التقارير المتعلقة بهذه الوثائق. ودعا البرلمان الأيسلندي إلى إجراء انتخابات مبكرة لاستقالة رئيس الوزراء الذي ورد اسمه مع زوجته. وفي أستراليا، أصدرت مديرية مكتب الضرائب، قرارًا بإجراء تدقيقات على أرصدة 800 استرالي، وردت أسماؤهم في وثائق بنما، والتحقق من تسديد الضرائب المترتبة عليهم.
وأعلن المحامي الأوروجوياني “خوان بدرو دامياني” الذى ورد اسمه فى فضيحة أوراق بنما، استقالته من لجنة الأخلاق التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم.
ولكن السؤال الذي لا يزال قائماً إلى الآن، من هم الـ 14000 عميل الذين شملتهم الوثائق وما هم برجال أعمال أو سياسيين، ويريدون إخفاء هذه الثروات عن أعين الجميع؟