اختيارات المحرر

التنمية في الإسلام

التنمية في اللغة مأخوذةٌ من مادة (نَمَا) الشيءُ يَنْمُو نُمُوًّا ونَمَاءً: أي زاد وكَثُر. والتنمية بهذا المعنى تعني الحفاظ على الموارد وتنميتها بما يفي بحاجات الإنسان من مأكلٍ ومشربٍ ومسكنٍ وتعليمٍ وصحةٍ، ويضمن للأجيال القادمة حياةً آمنةً مستقرة.

وللتنمية جانبٌ ماديٌّ وجانبٌ معنويّ، ولا يستغني أحدهما عن الآخر في تحقيق السعادة والرفاهية الإنسانية. فأما الجانب المادي فيتمثل في إعمار الأرض وإصلاحها، وأما الجانب المعنوي فيتمثل في أداء العبادات من صلاةٍ وصيامٍ زكاةٍ وحجٍّ، والتزام الأوامر والنواهي الشرعية.

قال الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب} [هود: 61]. 
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك: 15].
وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الجمعة: 10].

ولا يزال المسلم يبني ويُعمِّر حتى لو لم يبق من عمر الدنيا إلا لحظات قليلة؛ لأنه يعلم يقيناً أنّ الدنيا لا تنفكُّ عن الآخرة. ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ” (أخرجه البخاري). وفي الحديث دلالةٌ واضحةٌ على استثمار الموارد وتنميتها مهما كلف ذلك من جهد، وهو ما يعرف في عصرنا الحاضر بـ (التنمية المستدامة).

ولكي تتحقق هذه التنمية، لا بد من مراعاة أمورٍ عدة، وهي فيما يلي:

العدالة والاندماج الاجتماعيّ والمساواة

إنّ العدالة النسبية في توزيع الخدمات بين أفراد المجتمع تُسهمُ بشكلٍ كبيرٍ في الرضا الاجتماعي، الذي يدفع بدوره إلى التنمية وتحقيق الرفاهية المنشودة.

يقول الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر: 37].

إنّ التوازن الاقتصاديَّ في توزيع الخدمات يدفع إلى الاستقرار المعيشي، ويُمكِّن الإنسان من البقاء في وطنه دون حاجة للجوء إلى وطنٍ آخر بحثًا عن لقمة العيش.

فعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان للأنصار أرضٌ وضرعٌ وزرعٌ، بينما لم يكن للمهاجرين مالٌ. وبما أن التنمية تحتاج إلى تضحيةٍ على المستوى الشخصيّ من جميع أفراد الوطن؛ حرّم النبي صلى الله عليه وسلم -بصفةٍ مؤقتة حتى تتغير الأحوال- تأجير الأرض الزراعية، فقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ” (أخرجه البخاري).

ثم تأتي المساواة، وهي أن يتمتع جميع أفراد الوطن بكافة حقوقهم دون تمييزٍ يقوم على الدين، أو اللون، أو الجنس، أو الرأي، فالأجر على قدر الجهد. وهذا كله يؤدي إلى التفاني في العمل ودفع عجلة التنمية، وهو ما حرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطَّ بيده دستور المدينة؛ إذ ضمن المساواة بين جميع أفراد الوطن حتى بين طوائف اليهود: “وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ…إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتَغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ”(ابن هشام، السيرة النبوية) .

إنّ التنمية هي رؤية للحاضر والمستقبل، رؤية في جانبها المادي والأخلاقي تضمن لأبناء الوطن عيشًا كريمًا، وحياةً مستقرةً آمنة.

إن التنمية كفاح متواصل، وعمل دؤوب، وتطور مستمر، ففي الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، لأَنْ يأخُذَ أحَدُكُم حَبَله على ظَهرِه فيَحْتَطِب؛ خيرٌ من أن يأتي رَجُلًا، فيسأله، أعطاه أو منعه” (أخرجه البخاري)، وفي الحديث ما يدل على أنّ التنمية يشارك فيها الغني والفقير؛ لأن أساسها العمل؛ وقد شارك نبي الله داود عليه السلام في غناه وجاهه في التنمية، فلم يمنعه غناه أن يمتهن مهنة، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: “ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” (أخرجه البخاري).

الابتكار والبحث العلمي 

إنّ التنمية علمٌ قائم على الابتكار، وإعمالٌ للعقل في شؤون الحياة المادية والمعنوية. وقد رغَّب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في البحث والتأمل والنظر في الكون للوصول إلى الحقائق التي تخدم الإنسانية.

الابتكار والتنمية

فذات مرة قال لأصحابه: “إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟”. قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: فوقع في نفسي أنها النخلة. فكانت هي. فقال عمر له: “لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا”(أخرجه مسلم). وفي الحديث دلالة واضحة على أنّ الإسلام يدعو إلى الابتكار والتفكير العلمي القائم على الحِسِّ والمشاهدة.

ومن أبلغ الأدلة على أهمية الابتكار والتجربة في أمور الدنيا، ما رواه أنس رضي الله عنه: “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ. فَخَرَجَ شِيصًا (تمر رديء)، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ” (أخرجه مسلم).

الترشيد في الموارد 

مما يسهم كذلك في عملية التنمية الحفاظ على الموارد والحد من الإسراف.

 قال الله تعالى: { يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31].

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].

ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى في العبادات، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ” (رواه ابن ماجة).

الإسراف في الماء

كما أنّ الإسراف يأكل الفائض من الموارد، والتي من الممكن أن تبقى محفوظةً عند مواجهة الأزمات، وفيما نسميه (بالمتغيرات البيئية)، فمن الممكن أنّ تتعرض التربة لموجاتٍ من الجفاف والتصحر، أو يصاب الزرع بآفة، فإن لم يكن هناك فائض يسُدُّ جوعة الناس لكان هناك مشقة؛ فالمحافظة على الموارد وقاية من ذُل السؤال والحاجة، ونبي الله يوسف عليه السلام يعلمنا كيف أنّ الإدخار للفائض من الموارد يقي من ذل السؤال، ويحفظ ماء الوجه، قال الله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون} [يوسف: 47]، ثم بيَّن لهم كيف يواجهون السبع الشداد، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون} [يوسف: 48]، ففي الآية دعوةٌ إلى الحفاظ على الموارد وقت الرخاء بوسائل الطرق الحديثة من إنشاء الصوامع التي تحفظ الغلال من التلف.

ختامًا:

إنّ التنمية في الإسلام تحمل جانبين متلازمين: جانبًا أخلاقيًا وجانبًا ماديًا. فأما الجانب الأخلاقي فيعتمد على الصدق والأمانة ومراقبة الضمير وإتقان العمل. وأما الجانب المادي فيقوم على العدالة النسبية في توزيع الثروات؛ كي لا تكون دُولة بين الأغنياء، وتشجيع الابتكار والبحث العلمي لاستثمار ثروات الأرض، وضمان الترشيد في استخدام الموارد واجتناب الإسراف.

وهكذا، فإن الرؤية الإسلامية للتنمية رؤية شاملة متوازنة، تهدف إلى بناء إنسان صالح ومجتمع مزدهر، في الدنيا والآخرة.

وبالله التوفيق،،،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى