تاريخ المسجد الأقصى- الجزء الثالث

تحدثنا في المقال السابق عن سنة الإستبدال، وبعثة النبي محمد ، وأن الله أوحى إليه بأن الروم ستغلب الفرس كما غلبوهم أول مرة، وسيكون ذلك في بضع سنين، وقد كان فمن أصدق من الله قيلا! ولكن فلنعد قليلاً إلى الوراء قبل أن نستأنف حديثنا في أحداث إسترجاع الروم للقدس.

حادثة الإسراء والمعراج

في عام 620م، وكان ذلك قبل الهجرة، حدثت الحادثة العظيمة التي لا تغيب عن أحدٍ منّا، سمي هذا العام بعام الحزن، وذلك لأن النبي فقد فيه عمه ونصيره، وفقد أول المؤمنين وأم المؤمنات والسند خديجة -رضي الله عنها- التي أقرئها جبريل – عليه السلام- السلام من الله وبشرها بقصرها في الجنة، حزن الرسول حزنا شديداً، فأراد الله أن يخفف من آلامه ويواسيه فكانت حادثة الإسراء والمعراج.
أسرى الله -سبحانه وتعالى- بنبيه محمد من مكة إلى القدس، وكانت الهجرة بجسده وروحه أعظم ما حدَثَ في حياته ، وكان في ذلك إشارة إلى مكانة بيت المقدس، ونبهت على خصوصية القدس لدى المسلمين ومنزلتها العظيمة عند الله -عز وجل-، فقد كان بالإمكان أن يكون المعراج من مكة المكرمة إلى السماء مباشرة، ولكن الله –سبحانه وتعالى- أراد أن يكون المعراج من بيت المقدس، ونزلت الآيات الكريمة في تلك الحادثة، قال تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصي”، وسميت سورة الإسراء بهذا الإسم نسبة لتلك الحادثة.
كانت تلك الرحلة في ليلة واحدة في رحلة المفترض أن يكون مسيرها شهراً، لكنها قدرة الله -عز وجل- وقد أحيا الله الأنبياء والمرسلين للنبي في المسجد الأقصى حتى صلى بهم إماماً، وفي الحديث أنه لما سئل عن عدد الرسل قال: “ثلاثمائة” وسئل عن عدد الأنبياء فقال: “مائة وأربعة وعشرون ألفاً” فقال أبو ذر -رضي الله عنه-: جمٌّ غفير، فقال النبي : “جمٌّ غفير”. فهذه الأعداد الهائلة من الأنبياء والمرسلين، اختار لهم الله أن يجتمعوا لأول مرة في هذا المكان الطاهر، وما اجتمعوا قط على الأرض في غير هذا المكان، لشرفه وعظيم منزلته، فهو مهبط الوحي وأرض الرسالات السماوية، وأرض المحشر والمنشر، فصلى الأنبياء والرسل جميعاً بإمامة النبي ، وكانت تلك أعظم صلاة في التاريخ.

الهجرة النبوية الشريفة

حدثت الهجرة الشريفة في عام 622م من مكة إلى المدينة المنورة، وكانت هذه الهجرة بعد هجرتهم إلى الطائف، حيث انتقل النبي وأصحابه إلى المدينة، وبدأت فيها الدولة الإسلامية الصغيرة، وبدأت تلك النواة تكبر وتزهر وتشرق في الوجود بإشراق جديد على البشرية جمعاء.

الروم يستعيدون القدس

تحقق وعد الله -سبحانه وتعالى- في غلبة الروم على الفرس في بضع سنين، والبضع هو من 3 إلى 9 سنين، وكان ذلك بعد الهجرة بخمس سنوات، أي بعد 7 سنين من انكسار الروم، الذي خرجوا من الحرب بهزيمة كبيرة، وكانت إعادة الغلبة لهم شبه مستحيلة، وكان ذلك الخبر محور إستهزاء بالنسبة للمشركين الذين أخبرهم الرسول بوحي الله.
في ذلك العام قام هرقل بإعداد جيش ضخم، وهاجم الفرس في فلسطين، واستطاع أن يهزمهم، وكعادة اليهود في غدرهم بعد أن كانوا تحالفوا مع الفرس ضد الروم بسب اضطهاد الروم لهم وطمعاً في السيادة والملك في أرض فلسطين والقدس، لكن الفرس لم يعطوهم شيئاً بل أثقلوا كاهلهم بالإضطهاد والعذاب، فقاتل اليهود مع النصارى ضد الفرس للتخلص من ذلك العذاب الذي أحاط بهم، وتلّقوا وعوداً من النصارى بتمكينهم في أرض فلسطين وبيت المقدس فيما لو قاتلوا غلى جانبهم، وتحقق وعد الله -عز وجل- وتمت الهزيمة.

اليهود تحت اضطهاد النصارى

رغم أن اليهود وعدوا من قبل النصارى بالتمكين في أرض فلسطين، والعفو عنهم وعلى قتالهم مع الفرس ضد الروم، إلا أن رجال الدين آنذاك أعادوا إلى ذاكرة الروم المجازر التي شارك فيها اليهود مع الفرس ضد النصارى، وقتلهم النصارى وهدم الكنائس والمقدسات المسيحية، ورفضوا أن يتم العفو عنهم، وأصروا على هرقل أن يقتلهم. استجاب هرقل لمطالب رجال الدين، ونكث العهد معهم، وأمر بقتلهم، وأحدث النصارى مجزرة كبيرة بحق اليهود، قتلوا منهم أعداداً كبيرة، وفرّ الباقون منهم خارج فلسطين، واختفى قسم منهم داخل فلسطين، فلم يعد لليهود أثراً في الأرض المقدسة.

دعوة هرقل للإسلام

في عام 628م، بعد أن استرد هرقل فلسطين، دخل إليها دخول المنتصرين، واحتفل بالنصر احتفالاً كبيراً، في تلك الآونة وصله خطاب النبي يدعوه إلى الإسلام، وجاء فيه: “من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أسلم تسلم، فإن لم تسلم فعليك إثم الأريسين -الروم بمجموعهم-“. كان لهذا الخطاب وقع شديد على نفس هرقل، فقد كان من القساوسة العالمين بالنصرانية، وعارفاً ببشارات هذا النبي المنتظر، ويجد في الإنجيل علامات لظهوره، لكنه لم يتوقع أن يخرج هذا النبي من الجزيرة العربية من ظهراني العرب، وكاد هرقل أن يسلم، وبدأ يدعوا القساوسة إلى أن يُسلموا، لكنهم رفضوا وأصروا على القتال، فبات موقفه حساساً، عرف الحق وأذعن قلبه له، لكنه وقع بين أمرين، إما أن يشهر إسلامه فيضيع منه الملك وإما أن يسمع كلامهم تمسكاً بالملك والحفاظ على الزعامة، فآثر على البقاء على النصرانية، وأرسل إلى النبي خطاب مفاده أنه أسلم، وقال الرسول حينما بلغه أمر هرقل: “كذب عدو الله، وإنما غرّه الملك فتمسك به”.

خيانات يهودية متوالية

في عام 7 للهجرة 629م حدثت غزوة خبير، وكانت هذه الغزوة حصيلة عدة معارك بين النبي واليهود في المدينة، فقد غزا قبلها بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، فما كان من أمر اليهود إلا أن فروا من يثرب وتجمعوا في خيبر، وكانت كل تلك الغزوات سبباً لخيانات اليهود المتوالية، وكانت مؤامراتهم ضد النبي وأصحابه كثيرة جداً، فهم لم يضيعوا فرصة لنكث العهد والغدر إلا انتهزوها، وانتهكوا العهود والمواثيق التي آتوها الرسول في المدينة، وكانت خيانتهم الكبرى في غزوة الأحزاب. انتظر الرسول حتى قام بعمرة الحديبية، حيث صالح قريش في الحديبية، وأمّن جبهة قريش أولاً ثم تفرغ لليهود. جمع أصحابه واتخذ قراراً بمهاجمة اليهود في خيبر، فكانت معركة عظيمة، دمرهم النبي وقضى على حصونهم وأخذ أموالهم، غير أنهم توسلوا للنبي أن يبقوا في أرضهم ويكونوا أجراء عنده، فوافق النبي على ذلك، فكانوا يزرعون أرضهم ويعطوا غلالها للمسلمين، فبقي جزء منهم أجراء وقسم ضاق به هذا الحال فرحل إلى فلسطين.
ولم يتسمر هذا الحال طويلاً، فلقد غلب على أمرهم الخيانة والغدر وأعتادوا عليه، وملئت صحائف تاريخهم الملطخة بالدماء النكث والخيانات والجرائم السوداء، ففي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قاموا بقتل أحد المسلمين غدراً، فاتخذ عمر –رضي الله عنه- قراراً حكيماً بإجلائهم من المدينة كلها، وطردهم من جزيرة العرب إلى غير رجعة، فتوجهوا إلى سيناء فقام –رضي الله عنه- بطردهم منها أيضاً، فتوجهوا نحو فلسطين، ومن هنا بدأ التجمع اليهودي مجدداً في فلسطين.
في هذه الأثناء كانت قد بدأت المعارك بين المسلمين والروم، واستمرت حتى كانت غزوة مؤتة الشهيرة، ولكن المسلمين وقتها لم يتمكن المسلمين من الإنتصار على الروم، وانسحبوا من المعركة بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في حركة عظيمة.

وفاة خاتم النبيين والمرسلين

توفي النبي في الحادي عشر للهجرة -11هـ – 633م، انتقل النور وخير البشرية إلى الرفيق الأعلى، وحصلت بعد وفاته ردة كبيرة في صفوف المسلمين، قامت على أثرها حروب الردة التي بدأ بها أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- ثأراً لدين الله ودفاعاً عنه، وبعد أن استق الوضع في الجزيرة العربية وسيطر -رضي الله عنه- على الأوضاع، بدأ بتنفيذ لرسائل رسول الله التي وجهها لأمراء الفرس والروم وتحذيرهم لدخول الإسلام وعدم استجابتهم لرسائله ، فبدأ بتجهيز وتجييش الجيوش لقتال أعظم دولتين في العالم في ذلك الوقت فارس والروم.

دانا إبراهيم

إن صدقت العزم لوجدت الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى