تقاریر غربیة خطیرة «المستشرقون الجدد»

أدرك أعداؤنا بوضوح أن الإسلام یمثّل تهدیدًا محتملًا وقویًا لمصالحهم إذا استثمر دعاة التغییر عناصر القوة فیه شعبیًا، ولذلك لا تعجب حین تعلم أن الإسلام بكل ما یتعلق به من تیارات وجماعات (حتى ولو كان تعلقًا زائفًا) صار هو مادة البحث الرئيسية عند مراكز الفكر الغربية خاصة الأمريكية التي اهتمت بدراسة منطقة ما سموه “الشرق الأوسط” مثل مراكز: راند، بروكینجز، كارنیجي، وكُتبت في ذلك الأبحاث والتقاریر والتوصیات، وتناول كثیر من الأبحاث صورة الإسلام الذي یمكن اعتباره معتدلًا وسبل توجیه المسلمین لهذا النموذج من “الإسلام الأمریكي المعتدل”.

وأخطر هذه المؤسسات تناولًا لهذه المواضیع هي مؤسسة راند في العالم، وهي منظمة بحثیة یقع مقرها الرئیسي في ولایة كالیفورنیا الأمیركیة، تعود نشأتها إلى فترة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة، أُسست تحت إشراف وزارة الدفاع الأمریكي “البنتاجون”، یعمل في المؤسسة ما یقارب 1800 باحث وموظف یحمل غالبهم شهادات أكادیمیة عالیة، وتكمن خطورتها في شدة تأثیرها وقربها من مراكز اتخاذ القرار في الإدارة الأمریكیة، كما أن تقاریرها تمتاز بالعمق السیاسي والاستراتیجي، ومن أخطر ما یمكن قراءته من تقاریر وكتب صادرة عنها هو:

تقارير وكتب راند

تقریر راند 2005 الإسلام المدني الدیمقراطي

وهو التقریر الذي صرح بأنه لا یمكن إحداث “الإصلاح” الأمریكي المطلوب في منطقة “الشرق الأوسط” إلا بفهم طبیعة الإسلام الذي یقف سدًا منیعًا أمام محاولات التغییر، وأوصى في داخله بدعم توجهات فكریة محددة كالصوفیة مثلًا!

تقریر راند 2007 بناء شبكات مسلمة معتدلة

وهو تقریر یقدم توصیات محددة وعملیة للحكومة الأمریكیة بأن تعتمد في مواجهة أفكار الإسلام على الخبرات التي اكتسبتها أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشیوعي، ویوصي بدعم وبناء شبكات تمثل التیار العلماني واللیبرالي لتواجه الأفكار الإسلامیة المتشددة من وجهة نظر التقریر

تقریر راند 2008 كیف تتلاشى الجماعات الإرهابیة

وهو التقریر الذي خلُص عبر دراسة متأنیة إلى أن التدخل العسكري الكامل لیس مجدیًا إذ أنه لا یقضي إلا على (7%) من التنظیمات “الإرهابیة”، فكانت التوصیة أن یتم التعامل مع هذه الجماعات من خلال طرق أخرى أثببت كفاءة أعلى، كدمجها في العملیة السیاسية (Politicization) عن طریق الضحك علیها بلعبة الدیمقراطیة.

كتاب عام 2008 بعنوان “صعود الإسلام السیاسي في تركیا”

وهو كتاب صدر 2008 وكان یضع الاحتمالات أمام مستقبل التیار الإسلامي الحاكم في تركیا وقد أوصى التقریر بأهمیة جعل تركیا نموذجًا یُحتذى به للتغییر في باقي دول الشرق الأوسط إذا استمرت على نفس الخط “المعتدل”.

معركة المعرفة

هذه المراكز البحثیة الضخمة التي صارت جزءًا لا یتجزّأ من السیاسة الأمریكیة والغربیة تدل على ما تكلمنا عنه من خطورة (المعرفة) وأهمیتها في المعركة، إنك حین تتأمل التقاریر الصادرة من هذه المراكز وترى ضخامة الدراسات التي یتم إعدادها بداخلها، وحین تعرف مدى اعتماد القادة السیاسیین علیها في قراراتهم المتعلقة بنا وبمنطقتنا، تفهم بوضوح لماذا تمكنوا من السیطرة علینا!

إنها “المعرفة”.. روح المعركة، إنهم یعرفوننا ویدرسوننا أكثر مما نعرف نحن أنفسنا ولذلك تحكموا بنا، لقد امتلكوا في معركتهم معنا وعیًا متراكمًا بنى فیه كل جیل على من قبله، ولا سبیل لمواجهة ذلك إلا بوعي مماثل! القراءة في التقاریر السیاسیة الغربیة وتحلیلها شيء في غایة الأهمیة والخطورة، خاصة تلك التقاریر التي أصبح لها صدى سیاسي كبیر أو كانت صادرة من مراكز بحث مقربة من دوائر اتخاذ القرار كمؤسسة راند ویلیها في الأهمیة (بروكینجز – كارنیجي)، لیس من الضروري أن تتحول كل التقاریر التي تصدر في الغرب إلى سیاسات تتفذ على أرض الواقع لكنها على الأقل تكشف لك النصائح والتوجیهات والتوصیات التي تتلقاها الإدارة الأمریكیة من المفكرین والباحثین والخبراء، وتكشف لك أیضًا التهیئة الفكریة التي تتم داخل الشعوب الغربیة التي تجعلهم بعد ذلك یتقبلون قرارات قادتهم.

ولك أن تتصور أن مشروع الشرق الأوسط الكبیر لم یكن إلا أطروحة سیاسیة للباحث برنارد لویس!! لویس هذا كان من أكثر الأكادیمیین تأثیرًا على صناع القرار في إدارة جورج بوش، وكان من أوائل الداعین لغزو العراق بعد 11 سبتمبر وهو ما تم بالفعل، ووصل تأثیره لكون القادة السیاسیین في أمریكا كانوا یستخدمون كلماته بالنص مثل تكرار ولفویتز -أحد الصقور في إدارة بوش- لمقولته: “تركیا هي أفضل نموذج سیاسي للشرق الأوسط”.

كذلك الخبیر الاقتصادي میلتون فریدمان صاحب النظریات الاقتصادیة الرأسمالیة المتطرفة وهو أحد المؤثرین بقوة في السیاسة الأمریكیة، ألمحت الباحثة الكندیة نعومي كلاین في كتابها “عقیدة الصدمة” إلى دوره المباشر والغیر مباشر في معظم الكوارث التي رعتها أمریكا، ومن كتبه المشهورة جدًا “الرأسمالیة والحریة”، كان لمیلتون فریدمان تأثیر هائل في السیاسة الاقتصادیة الدولیة ووُصف بأنه كارل ماركس الرأسمالیة، عمل كمستشار لرئیسة الوزراء البریطانیة مارغریت ثاتشر، وللرئیسین الأمریكیین الأسبقین ریتشارد نیكسون ورونالد ریغان وكذلك عمل مستشارًا لإدارة جورج بوش.

فتأثیر الخبراء والباحثین ومراكز الفكر داخل السیاسة الأمریكیة كبیر جدًا، فهم یلعبون دورًا خطیرًا في توجیه السیاسات وتشكیل الرأي العام الغربي وتكوین أفكار القادة، ویجب ألا یتم إهمال ما یصدر عنهم من توصیات وأطروحات ونظریات، خاصة والواقع أثبت تأثیر ما یصدر عنهم على المستوى السیاسي إلا أننا كل مرة نستیقظ متأخرًا فنبدأ في تحلیل إصداراتهم بأثر رجعي! ولیس اهتمام أعدائنا بالفكر ولید اللحظة، فالتقاریر التي تتناول الإسلام والمنتسبین له من تیارات وجماعات لیست إلا امتدادا لظاهرة الاستشراق القدیمة وهي ظاهرة تنم عن مدى إدراك أعدائنا لقیمة “المعرفة” وأهمیة الحرب الفكریة عندهم.

المستشرقون

“المستشرقون” لقب قدیم لأولئك الذین ألزموا أنفسهم بدراسة تراثنا الدیني والثقافي والتاریخي بغیة التحكم فینا بعد ذلك عبر فهم سبل تفكیرنا وطبائعنا النفسیة والاجتماعیة وعوامل القوة والضعف عندنا، والباحثون الیوم المتخصصون في دراسة الإسلام وجماعاته یمكن اعتبارهم “المستشرقین الجدد”، وما هم إلا امتداد للمستشرقین القدامى الذین صاحبوا فترات الاحتلال الأجنبي علینا.

وظاهرة الاستشراق لیست بالظاهرة البسیطة، فلقد كتب المستشرقون القدامى كتَّبًا في غایة الأهمیة والخطورة عن الإسلام والمسلمین، وقاموا بترجمة مئات الكتب الإسلامیة للسیاسیین والباحثین الغربیین، كما أنهم سرقوا كثیرًا من المخطوطات الإسلامیة الأصلیة ومازالت هذه المخطوطات في الغرب حتى هذه اللحظة! إلا أنه هناك فارق بین المستشرقین القدامى والمستشرقین الجدد، فالمستشرقون القدامى توجهت دراستهم أكثر نحو العلوم الشرعیة باختلاف أنواعها، فدراستهم كانت تعتمد على كتب التراث في كل فروع العلم الشرعي كالفقه والحدیث واللغة الخ، أما المستشرقون الجدد فهم لا یدرسون الفقه ولا العقیدة ولا الحدیث وإنما یهتمون بدراسة واقع المسلمین الیوم ویدرسون الحركات والمنظمات والجماعات “الإسلامیة” دراسة واقعیة میدانیة.

تنبؤات المستشرقین الجدد حول مستقبل “تیارات الإسلام السیاسي”: إذا تأملت معظم أبحاث المستشرقین الجدد ستجدهم توصلوا لنبوءة مبكرة جدًا منذ التسعینات تقریبًا وصاروا یؤكدون علیها في بدایات هذا القرن بصورة جماعیة وكأنها أصبحت شیئًا بدیهیًا عندهم جمیعًا، ملخص هذه النبوءة هو: أن كل حاملي “الشعارات” الإسلامیة من جماعات ما یسمى بالإسلام السیاسي سوف یواجهون فشلًا وسقوطًا بمجرد وصولهم للسلطة! وسیصبح من السهل جدًا تشویههم وعزلهم عن الجماهیر بحیث لا یصبحون مطلبًا جماهیریًا كما كانوا.

والمستشرقون یرجعون ذلك لطبیعة تیارات الإسلام السیاسي نفسها وأن مساحة ما تملكه هذه التیارات من مشاریع سیاسیة لا یتخطى الشعارات الإسلامیة البراقة التي ترفعها، وأحیانًا یرجعون أسباب الفشل لشكل الدولة الحدیثة السلطویة بوضعها الحالي والتي هي جزء من نظام آخر متسلط یتحكم في كل شيء وهو النظام العالمي، فهذا الشكل للدولة داخلیًا وخارجیًا سیجعل حاملي الشعارات الإسلامیة إذا ما وصلوا إلى السلطة في ظل الوضع القائم أمام مصیرین لا ثالث لهما: الأول:- الذوبان الكامل داخل الدولة السلطویة الآكلة المسماة “الدولة الحدیثة” وبالتالي إذا ذابوا في هذه الدولة واستسلموا لها سیظهر كذب شعاراتهم “الإسلامیة” وعدم اتساقهم معها لأن هذه الشعارات “الإسلامیة” ستتصادم بالفعل مع قواعد هذه الدولة داخلیًا وخارجیًا.

وإذا لم یكن المصیر الأول ورفضوا الذوبان الكامل داخل الدولة العمیقة، فالمصیر الثاني الذي سیواجههم: هو الفشل، مما سیظهرهم أیضًا بمظهر الكاذبین أمام الجماهیر حیث سیكتشف الجمیع أنهم لا یمتلكون أي رؤیة لتحقیق نهضة سیاسیة واقتصادیة واجتماعیة تتوافق مع شعاراتهم “الإسلامیة” التي رفعوها وأنهم غیر قادرین على تخطي سیطرة الدولة “الحدیثة” ولیس عندهم نموذج بدیل لهذه الدولة یقدرون على تنفیذه على الأرض! وحول هذه النتائج تواترت الكتابات الاستشراقیة الغربیة، فعلى سبیل المثال: كتاب مثل “فشل الإسلام السیاسي” للمستشرق الفرنسي أولفییه روا صدر عام 1992 تكلم عن فشل الإسلام السیاسي في السلطة، وهو تنبؤ مبكر جدًا، كما تنبأ في نفس الكتاب بظاهرة سماها “ما بعد الإسلامویة” وتحدث فیها عن ظهور ما یمكن تسمیتهم إسلامیین جدد ربما سیتصالحون كثیرًا مع قیم العلمانیة، واعتبرت الأوساط الثقافیة أن كلامه هذا كان تنبؤا مبهرًا بالنموذج التركي الأردوغاني الحالي وهو ما أعطى لكتابه قیمة كبیرة في الأوساط الاستشراقیة وأعطى الكاتب شهرة كبیرة.

عصفوران بحجر واحد

وزير الخارجية الأمريكي جون كيري متحدثًا عن سماحة الإسلام في جيبوتي.

وفي نفس الاتجاه تحدثت التقاریر الصادرة من مراكز البحث الأمريكية، فمنذ عام 2004 وهناك توصیات متكررة للإدارة الأمریكیة بضرورة دعم العملیة الدیمقراطیة والسماح لتیار الإسلام السیاسي بالوصول للسلطة وذلك بهدف احتواء العاطفة الإسلامیة لدى الشباب حتى لا تتوجه نحو “التطرف” وكذلك من أجل أن یفشل هذا التیار في السلطة بعد ذلك مما سیحقق مكسبًا أمریكیًا كبیرًا في معركة الأفكار وساحة العقول والقلوب، فالفشل سیُنسب إلى الفكرة الإسلامیة نفسها ولیس إلى تیار الإسلام السیاسي “المعتدل” فقط ، وفي ذلك تجد كتابًا مثل “الظل المنحسر للنبي” لمؤلفیه “تاكیا” و”جفوسدیف” الصادر عام 2004 والذي یعتبر أن أمریكا إن سمحت بوصول الإسلامیین “المعتدلین” إلى السلطة فإنها ستضرب عصفورین بحجر واحد:

العصفور الأول: أنها ستُقصي أصوات الرادیكالیین أو المتشددین “ویقصد هنا التوجهات الجهادیة”، حیث أن وجود منفذ للتغییر و”تطبیق الشریعة” عن طریق الدیمقراطیة سیؤثر بالسلب على أفكار هذه التیارات “المتشددة” من وجهة نظره، وذلك لأنه قد أصبح هناك منفذ سهل وقانوني للتغییر سیتجه إلیه الجمیع بدلًا عن العنف، أي ببساطة هو یرید لأمریكا أن تستخدم الدیمقراطیة والوصول إلى السلطة كإسفنجة تمتص بها العواطف الدینیة لدى الشباب حتى لا تخرج عن سیطرته.

العصفور الثاني: أن المعتدلین إذا وصلوا بالفعل إلى السلطة فلن یُظهروا -في الغالب- قدرات سیاسیة مناسبة، وهو الأمر الذي أوصى الكتاب بوجوب استغلال الولایات المتحدة له في حربها على الإرهاب، فحینها یمكن نسبة الفشل للفكرة الإسلامیة ككل وهي خطوة أمریكیة مهمة جدًا في معركة العقول والأفكار التي تحدثنا عنها.

یمكن أن نلخص ما قاله الكتاب بجملة واحدة: إذا وصل الإسلامیون المعتدلون إلى السلطة؛ فإن وصولهم سیكون إیذانًا بخسارة قضیتهم وفقدان مصداقیتهم! هذا غیر أن في كل الأحوال وصول الإسلامیین المعتدلین للسلطة لا یمثل مخاطرة ولا تهدیدًا لأنهم -بحسب الكتاب- حتى ولو لم یكونوا مؤیدین لواشنطن إلا أنهم سلمیون ومستنیرون ویمكن احتواؤهم لأقصى حد.

وهذا ما أوصى به “جرهام فوللر” رجل المخابرات الأمریكیة السابق في كتابه “مستقبل الإسلام السیاسي” الصادر عام 2003 حینما قال كلمته الخطیرة جدًا: “لا شيء یمكن أن یُظهر الأسلمة في صورة غیر جذابة أكثر من تجربة فاشلة في السلطة” ویشرح الباحث الشهیر “بایمان” هذه السیاسة فیقول: “إن الهدف الأساسي للولایات المتحدة لیس هو حب المسلمین لها، وإنما هو كرههم لعدوها”.

وهو أمر لا یتطلب الترویج لأمریكا كصدیق للعالم المسلم، وإنما یتطلب ما هو أسهل من ذلك بكثیر، إنه یتطلب الإشارة إلى السجلات السوداء للإسلامیین، سواء في داخل السلطة أو خارجها.

وطبعًا المقصود بذلك تشویه الإسلام ولیس الإسلامیین فقط! وهذه نظرة مختلفة لمعركة كسب العقول والقلوب، “فبایمان” في طرحه یجعل مسألة حب الشعوب لأمریكا قضیة فرعیة، وأن الأهم هو كره الشعوب للأفكار التي تخافها أمریكا! هذه التوصیة بوصول التیار الإسلامي للسلطة علت نبرتها بشدة في الأبحاث والكتب الأمریكیة عام 2003 وبدأت تدخل في حیز التجربة عام 2005 مع الإخوان المسلمین في مجلس الشعب في مصر عندما حازوا على 88 مقعدًا في البرلمان، وفي نفس الفترة تقریبًا كان وصول حماس للسلطة، ثم أصبحت الخطة قید التنفیذ الحقیقي بعد “الثورات” الأخیرة حیث سمحت أمریكا بتقدم التیار “الإسلامي” نحو السلطة في مصر وتونس كنوع من الاحتواء للإسلامیین حتى لا یتوجّهوا إلى مسارات أخرى قد تهدد أمریكا فعلًا، وكذلك لیتم استخدامهم في امتصاص الثورة.

المذاهب الأمريكية في قضية الإسلاميين

ثم سمحت بعد ذلك بإفشالهم في مصر لتضرب عصفورین بحجر واحد كما شرحنا، وأما في تونس فقد اختار الإسلامیون الذوبان الكامل في الدولة خوفًا من أن یلقوا مصیر إخوانهم في مصر! بالمناسبة هذه النظرة تجاه التعامل مع “الإسلامیین” لیست محل اتفاق تمامًا، فدائمًا یوجد داخل الإدارة الأمریكیة مذهبان حول قضیة الإسلامیین وكیفیة التعامل معهم، كل مذهب من المذهبین له من یدعمه فكریًا من الباحثین والخبراء والتقاریر السیاسیة رفیعة المستوى:

المذهب الأول: هو مذهب الأغلبیة داخل الإدارة الأمریكیة والأغلبیة كذلك من الباحثین، وهو المذهب الذي ذكرناه آنفًا، فأصحاب هذا المذهب یرون -كما بینا- أهمیة التفرقة بین الإسلامیین المعتدلین وغیر المعتدلین، والمعتدلون عندهم هم الذین یدعمون العمل الدیمقراطي ویرفضون العنف ولا یعلنون العداء للغرب، ویرى أصحاب هذا المذهب إمكانیة التعامل مع “المعتدلین” ولو بصورة مرحلیة مؤقتة، ویدعون دائمًا إلى تضمین الإسلامیین داخل السلطة وداخل اللعبة السیاسیة، ویرون أن هذا التضمین یساعد على احتواء “التطرف” في العالم الإسلامي ویقلل من میل الشباب نحو “العنف والتشدد”، كما أنه یساعد أیضًا على تغیر الإسلامیین أنفسهم مع الوقت ویجعلهم یتنازلون عن كثیر من أفكارهم، وإذا لم یتغیروا فالفشل هو مستقبلهم، ودائمًا التقاریر الداعمة لهذا المذهب توصي القادة السیاسیین في أمریكا بضرورة الضغط على الأنظمة المستبدة في بلادنا من أجل إجراء إصلاحات دیمقراطیة وإعطاء مساحة أكبر للإسلامیین.

وإن كان كثیر من أصحاب هذا المذهب یوصون أیضًا بالحذر أثناء دعم “الإسلامیین المعتدلین” حتى لا ینقلب السحر على الساحر، ویرفضون فكرة الدعم المطلق لهم، وإنما هو دعم مرهون بمصالح أمریكا ومرهون بالتنازلات المستمرة من قبل “الإسلامیین المعتدلین”.

أما المذهب الثاني: فهو مذهب المتشددین داخل الإدارة الأمریكیة، أصحاب هذا المذهب یرون ضرورة إقصاء الإسلامیین ككل، وعدم التعامل مع أي تیار منهم، ولا یفرقون بین المعتدلین وغیر المعتدلین، ویرون أن كل الأفكار “الإسلامیة” تؤدي إلى العنف والتطرف ومعاداة الغرب، ویرفضون تمامًا فكرة تضمین الإسلامیین داخل اللعبة الدیمقراطیة مطلقًا، حیث یرون أن هذا قد یعطي لهم مساحة أكبر للانتشار والتوسع، وأن “المتطرفین” قد یستفیدون من تواجد “المعتدلین” في السلطة ولیس العكس، وأن دعم “الإسلامیین المعتدلین” قد یضعف من قوة “التیارات اللیبرالیة والعلمانیة”.

وبالتالي أصحاب هذا المذهب یؤیدون دعم الأنظمة الاستبدادیة كلها في بلدان ما یُسمى “الشرق الأوسط” ویرفضون تمامًا سیاسة الضغط على تلك الأنظمة من أجل دعم العملیة الدیمقراطیة، فهم یرون أن ذلك لیس في مصلحة أمریكا ولا الغرب عمومًا، یؤید هذا المذهب السیاسیون المتعصبون بقوة لإسرائیل، كما أن الأنظمة الاستبدادیة في بلادنا ترتاح جدًا لأصحاب هذا المذهب لأنه یتفق مع مصالحها بالطبع، لم أفصّل الحدیث في هذا المذهب بصورة كبیرة لأن المذهب الأول هو الذي تعتمده السیاسات الأمریكیة حالیًا.

أما هذا المذهب فهو یُستخدم فقط كورقة ضغط على “الإسلامیین المعتدلین” بطریقة (العصا والجزرة) كما أن تقسیم الأدوار بین المذهبین حاضر وموجود، وقد یتقاطع أصحاب المذهبین في قرارات كثیرة، ومحصلة المذهبین في النهایة واحدة؛ ففي كلا الحالتین سیتم إقصاء “الإسلامیین” في النهایة! ملخص ما فات: هو أن أمریكا تخوض الیوم حربًا فكریة ضد الإسلام لا تقل شراسة عن الحرب العسكریة، هم یعرفون أن محو الإسلام تمامًا من كیان الشعوب وإخراجهم منه كلیة مستحیل واقعیًا، ولذلك فهم یلجؤون إلى محاولة احتوائه وتفریغه من بعض المبادئ التي تهددهم كما شرحنا، لیتحول إلى جسد بلا روح.

الإسلام الأمريكي

وهذا لا یمكن تحقیقه إلا عن طریق الاستعانة بأشخاص “منتسبین للإسلام” تقوم أمریكا بدعمهم بصورة مباشرة أو عبر الأنظمة الداخلیة، یتولى هؤلاء الأشخاص عملیة التوجیه الفكري للأمة تحت شعارات براقة مثل: الدعوة إلى الاعتدال والوسطیة ورفض التطرف والإرهاب! فأمریكا إذن تحسن وتجید ترتیب أعدائها والاستفادة منهم، فهي تقسم المسلمین إلى: إسلامیین وغیر إسلامیین، وتقسم الإسلامیین إلى متشددین ومعتدلین، بل حتى في بعض التقاریر جاءت التوصیة بتقسیم “المتشددین” أنفسهم كما في تقریر راند 2006 (ما بعد القاعدة) ، وبناء على هذه التصنیفات تحدد أمریكا خطواتها القادمة، فیمكن أن تقوم مثلًا بدعم “الإسلامیین المعتدلین” في مواجهة “المتطرفین”، ثم تقوم بدعم العلمانیین في مواجهة “الإسلامیین المعتدلین”، وهكذا حتى توجه الأفكار في بلادنا نحو اتجاه محدد وتقضي على كل الأفكار التي لا تریدها تدریجیًا.

وقد تدعم أمریكا بعض التیارات الیوم ثم تحاربها غدًا، یحدث هذا كثیرًا جدًا مع “الإسلامیین”، ففي كثیر من البلدان تبدأ الأنظمة الحاكمة بتوصیة من أمریكا في إعطاء مساحة أكبر “للإسلامیین المعتدلین” من أجل أن تواجه بهم وتحتوي الأفكار المتشددة والمتطرفة من وجهة نظرهم، فإذا تم تحجیم تأثیر تلك الأفكار “المتشددة” تبدأ الأنظمة مباشرة في محاربة المعتدلین الذي كانوا أصدقاء الأمس، والقاعدة المشهورة في ذلك قد ذكرها مركز مكافحة الإرهاب في تقریره (سرقة دفتر خطط القاعدة) حیث قال: “یجب أن تعلم الإدارة الأمریكیة أن أصدقاء الیوم هم أعداء الغد “!

وكذلك تقریر راند 2004 “الإسلام المدني الدیمقراطي” دعّم جدًا نفس النظرة التصنیفیة للمسلمین! وهو ما نراه یتحقق ویتكرر على أرض الواقع بوضوح مما یدل على استجابة القیادة السیاسیة الأمریكیة لهذه التوصیات، بل هي الاستراتیجیة القدیمة أصلًا التي كانت تتبعها أمریكا منذ حربها مع الشیوعیة فعلى سبیل المثال أمرت أمریكا الأنظمة بإفساح المجال “للجهادیین” لتواجه بهم الشیوعیة والاتحاد السوفیتي، ثم بعد القضاء على الاتحاد السوفیتي توجهت سهامها نحو الجهادیین بنفس الاستراتیجیة المعهودة في ترتیب الأعداء بعدما تستفید من تقاطع المصالح! وما نفعله عبر سطور هذا الكتاب من أوله إلى آخره ما هو إلا مواجهة منا لهذه الحرب الأمریكیة على الأفكار، وكشف لزیفها وإظهار للحقائق أمام الجمیع وهذا ما نقصده بمعركة الوعي كما بینا سابقًا.

ختامًا

وإن من السفه السیاسي والغباء الثوري والتزییف للحقائق ما یقوم به البعض من محاولات إخراج الإسلام تمامًا من كل معارك التغییر، وكأن الحرب لا علاقة له به، بعیدًا حتى عن الحكم الشرعي لذلك، فإنه قد اتضح للأعمى قبل البصیر أن أعداءنا فیما یُسمى النظام العالمي قد أدخلوه في قلب الحرب، وإن المتتبع للتقاریر الغربیة التي صدرت من مؤسسات وشخصیات قریبة من مراكز اتخاذ القرار العالمي –كما وضّحنا- سیدرك بما لا یدع مجالًا للشك أنهم یعتبرون الإسلام أقوى وأخطر ما تحمله الشعوب فیما سموه “منطقة الشرق الأوسط” بل ربما یعتبرون أن هذه الشعوب صارت لا تمتلك من عوامل القوة غیره، إنهم یظهرون وكأنهم یحاولون بكل السبل الإبقاء على هذا المارد غارقًا في سباته، مستعدین لبذل كل ما یملكون من أجل تنحیته عن المعركة في أذهان الشعوب.

لأنهم یعلمون أنه إن قام بحقٍ في قلوب حاملیه فسیحسم المعركة ولابد؛ فهو أداة وَحدة هذه الشعوب تاریخیًا، ومصدر إلهامهم القیمي والثقافي والحضاري، ولا سبیل لانتهاض هذه القلوب التي أماتتها الشهوات والشبهات إلا بدین حيٍّ القیم وصلب الثوابت كالإسلام، وهو كذلك الدافع الأول والأكبر لمقاومة هیمنتهم ورفضها، وإن الأمة وإن تردى حال شعوبها إلا أن الإسلام مازال هو أكبر محرّكٍ یمكن تحریكهم به، فمازالت عاطفتهم الدینیة حیة حتى وإن بدت أنها على وشك الممات، كل هذا من منظور سیاسي واجتماعي وتاریخي محض، فكیف وهو دین رب العالمین ولا یسع المسلم التخاذل عنه، وإن سنة الله في الأمة حین تتخاذل عنه أن یسلط الله علیها ذلًا لا ینزعه عنها نازع، والواقع خیر شاهد.

وإننا حین نقول أن الإسلام هو أصل الحرب وأنه سیظل دافعنا للتغییر والتحرك لا نعني بذلك عرضه عرضًا تجاریًا في معارك الوهم التي تسمى الانتخابات، هذا العرض التجاري الذي یحوّل الإسلام إلى مجموعة شعاراتٍ مجوَّفةٍ فارغةٍ عن كل حقیقة، والتي ینتهي دورها بعد الوصول إلى السلطة في منظومة فاسدة قد علم الجاهل قبل العالم استحالة إصلاحها بالدخول فیها، خاصة والدخول فیها لا یكون إلا بهدم الدین نفسه والبدء في سلسلة من التخاذلات والتحالفات المشبوهة التي تضیع المبادئ وتنسف الثوابت، وإنما مقصدنا بالإسلام هو الإسلام الحق كما أنزله لله، إسلام الثوابت والمنهج والبذل والتضحیة الذي یرسم لنا الطریق الصحیح لخوض هذه المعركة.

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى