تصحيح مفاهيم: للديمقراطية مفهوم واحد
من أخطر الأساليب التي تسوِّغ الكفر وتزيِّنه للمسلمين ليألفوه ويقبلوا به، هو تغيير المسميات أو معانيها. فمثلا سمَّوا الربا فائدة أو رسومًا، وسمَّوْا الرشوة هدية، وسمَّوا التأمين تعاونية، وسمَّوا الخمر مشروبات روحية، وسمُّوا غناء وأفلام الفسق والفجور فَنًّا الخ!
والتحريف الأكثر خطورة الذي ما زال يُروَّج له بكل قوة حتى من يُحسبون على “الإسلاميين” هو ادعائهم أن الديمقراطية هي انتخاب الشعب للسلطة التي تحكمه، أو هي التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان والحريات الدينية وحرية الرأي، أو أن الديمقراطية هي الشورى!
ويقول أدعياء هذا التحريف أن لفظ الديمقراطية لم يرد في الشرع ذمٌّ له أو مدح ومن ثم-حسب زعمهم-يجوز استعمال اللفظ بالمعاني المنقولة عنهم فوق! وهذا من تدليس إبليس، وكأنه يجب أن يذكر لنا القرآن والسُّنة كل الأسماء المذمومة حتى نعتبر استعمالها حرامًا! فالألفاظ تكون مذمومة ومرفوضة شرعا إذا كانت تحمل معنى أو تشير إلى مضمون حرام شرعًا، فالعبرة بالمعنى والمدلول وليس فقط باللفظ في حد ذاته.
مفهوم الديمقراطية كما أراد لها صانعوها
فلُبُّ الديمقراطية ومحور ما تدور حوله هو أن يكون التشريع (وضع قوانين تنظم حياة الناس) من حق الشعب وليس من حق فرد أو أقلية، ولا من حق الله. فهذه هي العقيدة الديمقراطية، تجعل حق التشريع ابتداء للبشر (سواء لأغلبية من الناس أو لأقلية ممن أعطي لها حق التشريع).
أما كيف يمارس الشعب حقه في التشريع فيكون عن طريق انتخاب أفراد ينوبون عنه في القيام بوظيفة التشريع وفِي تنفيذ التشريعات. فلا يمكن تصور دولة وحكم وسلطة في الدنيا بدون صلاحيات التشريع، وبالتالي فمن الكذب والسطحية تصور الديمقراطية أنها هي الانتخاب لسلطةٍ أو تكوين أحزاب سياسية أو تداول سلمي للسلطة الخ، بل لُبُّ الديمقراطية هو أن يكون التشريع من صلاحيات الشعب أو نوابه، وليس من صلاحية الدين أو الله أو أن يستفرد شخص بالتشريع دون أن يخول له الشعب ذلك الحق.
أما تكوين أحزاب سياسية وانتخاب برلمان وانتخاب سلطة تنفيذية ومحاسبتها الخ فكل هذه وسائل لتمكين الشعب من التشريع أو بالأحرى لإعطاء صبغة شعبية على التشريعات التي يضعها زمرة قليلة من الناس، أي أنها أساليب لتكون التشريعات تعبر ما أمكن (ولو صوريا) عن إرادة الشعب أو أغلبية منه.
نظام حكم الإسلام (الخلافة)
فانتخاب الشعب للسلطة التي تحكمه، وإنشاء أحزاب سياسية والتداول السلمي للسلطة هي وسائل فقط تستعملها الديمقراطية كما تستعملها أنظمة ونماذج حكم أخرى كنظام حكم الإسلام (الخلافة)، فمثلا الخليفة عند المسلمين يصل إلى الحكم عن طريق رضا الشعب به بانتخابه له أو بانتخابه من قِبَل نواب عن الشعب (أهل الحل والعقد).
وكذلك الأحزاب السياسية شرعها الإسلام لتكون وسيلة قوية ومأثرة وفعالة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}(آل عمران)، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}(المائدة)، وإذا أمر الرسول بتأمير شخص على جماعة من ثلاثة فما فوق إذا كانوا في سفر “إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ”(سنن أبي داود)، فمن الأولى إذا اجتمع أناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يختاروا من بين صفوفهم أميرا ليُنَظَّم عملهم ويصبح أكثر تنسيقا وفعالية ويساند بعضهم بعضا، فيكون تجمعهم هذا تحت أمير ولغرض محدد يتعاونون عليهم حزبا سياسيا يحاسب الحكام ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! فالأحزاب السياسية ليست من صنع الديمقراطية ولا أمر خاص بها!
الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحريات
أما ما يقوله أدعياء الديمقراطية بأنها تعني احترام حقوق الإنسان والحريات الدينية وحرية الرأي، فأولا هذه “الخصال” هي مترتبة على ما شَرَّعه الشعب أو نوابهم، إذًا هي فرع عن أصل. فالديمقراطية كأي اصطلاح آخر تُعَرَّف بالأصل وليس بِما تفرع عن الأصل.
ثانيا، القول بأن احترام حقوق الإنسان والحريات الدينية وحرية الرأي التي تدعوا لها الديمقراطية لا تعارض الإسلام: كذب، ويدخل ضمن التحايل في تغيير المسميات أو معانيها.
هل حرية التدين في النظام الديمقراطي هي نفسها في النظام الإسلامي؟
فحرية التدين التي تعنيها الديمقراطية ليست هي ما تعنيه آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وما شابهها من نصوص في القرآن والسُّنة. فالديمقراطية تقصد مثلا بحرية التدين حق المسلم في الردة، وجواز إقامة علاقات جنسية بين رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، أو بين رجل وامرأة، ما دام هناك تراضٍ بين طرفي العلاقة! وتُحدِّد الديمقراطية حرية التدين ضمن إطار فصل الدين عن التشريع والسياسة، وتحصر الديمقراطية حرية التدين في بعض العبادات وبعض الأحوال الشخصية. وتختلف درجة الحرية التي تسمح بها الديمقراطية حسب نوع ديانة الأشخاص، فالمسلمون تضيق عليهم الديمقراطية حتى في حريتهم الشخصية بحيث تمنع مثلا ارتداء الحجاب وتمنع تعدد الزوجات الخ.
أما “حرية التدين” في الإسلام فخاصة بأهل الكتاب، أما المسلم فمكلف بأحكام الشرع كلها لا اختيار له فيها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)} (الأحزاب)، والمسلم لا يجوز له الارتداد عن دينه ولا يجوز له تحريف الإسلام ليوافق هواه!
حرية الرأي بين الإسلام والديمقراطية
وحرية الرأي التي تدعوا لها الديمقراطية تختلف عن التي يدعوا لها الإسلام، فالديمقراطية تعتبر من حرية الرأي سب الله والرسول، ومن حرية الرأي تحريف الإسلام والافتراء عليه. وفِي المقابل تحد الديمقراطية الغربية من حرية رأي المسلمين، فلا يجوز لهم مثلا التشكيك حتى في عدد اليهود الذين أحرقتهم ألمانيا النازية، ولا يجوز لهم التشكيك في شرعية دولة إسرائيل في فلسطين. ولا يجوز للمسلمين حتى في بلدانهم الإسلامية الدعوة لإقامة خِلَافَة على منهاج النبوة وتطبيق الشريعة، وهذا هو الذي يجعل أدعياء الديمقراطية من المسلمين يدعون للديمقراطية، يخافون الغرب فيتبنون الأفكار والمصطلحات والأهداف التي لا تخرج عن رأي الغرب ورضاه!
هل الشورى بديل للديمقراطية؟
والخطأ الكبير الذي يقع فيه الكثير من المسلمين، حتى من الذين يرفضون الديمقراطية جملة وتفصيلا ويعتبرونها كفرا، هو أنهم يضعون الشورى المقابل والبديل للديمقراطية في الإسلام، فيقولون لا حاجة لنا بالديمقراطية فعندنا في الإسلام الشورى! وهذه مقارنة خاطئة.
فالمقابل للديمقراطية هو الإسلام أو الحاكمية لله وليس الشورى!
فالشورى هي أحد أدوات إدارة شؤون العامة تستعملها الديمقراطية ويستعملها الإسلام، حيث يُستشار الناس ضمن حدود الشورى وشروطها وصلاحياتها التي يحددها كل نظام: الديمقراطية والإسلام!
فالشورى ليست الديمقراطية ولا المقابل لها في الإسلام، وبالتالي لا يمكن مقارنة وجه الاختلاف أو التشابه بين شيئين ليسا من نفس الجنس! فالشورى أداة تستعملها الديمقراطية ويستخدمها الإسلام، مع الاختلاف بين نظام حكم الإسلام ونظام الديمقراطية في تفاصيل ما يُستشار فيه، ومع من يُستشار وفي ماذا، وكيف يُؤخذ القرار بعد الاستشارة… الخ.
والشورى وإن كانت واجبة في الإسلام، لكن فوقها يأتي شرع الله-حاكمية الله-، فهي-أي الشورى-فرع وليست أصلًا، ولذلك فشعار المسلمين مثلا في ثورتهم يجب أن يحمل مدلولا على الأصل الذي تعتقده الأمة ومستعدة لتموت من أجله، كَـ “الحاكمية لله لا للبشر”، أو “العبودية لله لا للبشر”…
حكم الديمقراطية
فطرح الديمقراطية كمقابل للشورى يُهَوِّن من عظم جرم الديمقراطية ومدى كفرها وشركها، إذ الديمقراطية تعني أن المشرع والمحلل والمحرم هم الناس، فهي حاكمية للبشر، في حين المشرِّع في الإسلام هو الله، فالحاكمية في الإسلام لله!
فالديمقراطية كفر بواح، ولا يجوز تجزئتها إلى ديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام وديمقراطية تخالف الإسلام، ولا يجوز القول بأنه يجوز استعمال المصطلح إذا غيرنا مفهومه ليوافق بعض ما جاء به الإسلام أو إذا حملنا مفهوم الديمقراطية على بعض جزئياتها التي لا تخالف الإسلام، فالله حرم على المسلمين استعمال كلمة عربية لها معنى سليم طيب عند العرب لمجرد أنه كان لها معنى إضافي سيئ عند اليهود، قال الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}(البقرة)، قال القرطبي: [حَقِيقَةُ رَاعِنَا فِي اللُّغَةِ ارْعَنَا وَلْنَرْعَكَ، فَتَكُونُ مِنْ رَعَاكَ اللَّهُ، أَيِ احْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرِعْنَا سَمْعَكُ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكُ لِكَلَامِنَا…. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ لِنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاعِنَا عَلَى جِهَةِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ -مِنَ الْمُرَاعَاةِ -أَيِ الْتَفِتْ إِلَيْنَا، وَكَانَ هَذَا (أي راعنا) بِلِسَانِ الْيَهُودِ سَبًّا، أَيِ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا: كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآنَ نَسُبُّهُ جَهْرًا، فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ] (ا.هـ).
قال ابن كثير في تفسير الآية: [وَالْغَرَضُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ “. فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ، وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لَمْ تُشَرَّعْ لَنَا وَلَمْ نُقَرَّرْ عَلَيْهَا] (ا.هـ).
تساؤلات مشروعة
فإذا حرم الله استعمال كلمة عربية يعني بها العرب مفهوما طيبا لمجرد وجود معنى آخر سيّئ للكلمة يعنيه اليهود، فما بال بعض المسلمين يصرون اليوم على تسويغ مصطلح الديمقراطية، وهو مصطلح غربي محض ويحمل-على أقل تقدير-مفهوما قطعيا للكفر البواح! فإن سلَّمنا لكم جدلا أن الديمقراطية تعني الشورى، فلماذا لا تستعملون كلمة الشورى التي وردت في القرآن والسُّنة بدلا من الديمقراطية!؟ وإذا سلَّمنا لكم جدلا أن الديمقراطية تعني الانتخابات واختيار الحاكم، فلماذا لا تستعملوا مصطلحات “الانتخابات” و “حق الاختيار”، الخ!؟ لماذا تصرون على استعمال لفظ الديمقراطية!؟
ثم دلُّونا يا أدعياء الديمقراطية على دولة واحدة تطبق شريعة الإسلام من تحت عباءة الديمقراطية؟ فكل الجماعات الإسلامية التي تدَّعي أنها تدعوا للديمقراطية للتمويه على الغرب والتعمية عليه حتى لا يحاربهم ويسمح لهم بالحكم في بلاد المسلمين، شاركت في آخر المطاف في برلمانات يُشرِّع فيها البشر بغير ما أنزل الله، وباتت تدافع وتقاتل من أجل الحكم بغير ما أنزل الله، وتحارب بشراسة وخبث الدعاة لإقامة خِلَافَة على منهاج النبوة تقيم شرع الله!
قال ابن تيمية رحمه الله: [يَأْخُذُ هَؤُلَاءِ الْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيُودِعُونَهَا مَعَانِيَ هَؤُلَاءِ (الكفار)، وَتِلْكَ الْعِبَارَاتُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا سَمِعُوهَا قَبِلُوهَا، ثُمَّ إذَا عَرَفُوا الْمَعَانِيَ الَّتِي قَصَدَهَا هَؤُلَاءِ ضَلَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ] (مجموع فتاوى ابن تيمية، الجزء السابع عشر).
اقرأ أيضًا: المصطلحات الملغمة في خطاب الجماهير.