هجرة العقول العربية واستنزافها..أما آن للجرح أن يندمل؟

قالت العرب قديما على لسان الشاعر الجاهلي لبيد ابن الأعوص:

كالعيس* في البيداء يقتلها الظمأ **** والماء فوق ظهورها محمول

*عيس: (اسم)، جمع أعيسُ وعيساءُ : إبل بيض يخالط بياضها شُقْرة ، وهي كرائِم الإبل

هذا البيت الشعري يلخّص تماما واقعنا في العالم العربي فقد كانت ولا زالت الدول العربية بيئة ملائمة لتفريخ الكفاءات والعقول  ولكن دون الاستفادة الفعلية منها. وهو ما يتلخص جليًا في ظاهرة “هجرة الأدمغة” أو ما يصطلح على تسميته بالانجليزية “brain drain”، الذي يعني هجرة العلماء والكفاءات من الدول النامية إلى نظيراتها المتقدّمة. وقد ظهر هذا المصطلح بعد ما يسمى صدمة “سبوتنك” التي تمثلت في إرسال روسيا لأول قمر صناعي يسبح في الفضاء سنة 1957، وعقبه صعود يوري غاغرين السوفييتي إلى الفضاء الخارجي سنة 1961، فسارعت  الولايات المتحدة الأمريكية لاستقطاب الكفاءات والأدمغة من كل أصقاع المعمورة لتمييل كفتها في الحرب الباردة.

نبذة تاريخية

بدأت هجرة العقول العربية منذ القرن التاسع عشر خاصة من سوريا، ولبنان والجزائر نحو فرنسا ودول أمريكا اللاتينية

أسباب هجرة الأدمغة العربية

تعتبر العوامل السياسية من أكثر الأسباب المنفرة للأدمغة العربية. فالأنظمة السياسية القمعية سارعت في احتواء الكفاءات وتدجينها تحت المظلّات الحزبية، وضيقت الخناق على الأقلام الحرّة، وصلت حد التصفيات الجسدية والاختفاءات القسرية والاعتقالات. فالديكتاتوريات لا تقبل بشعب مفكّر ناقد. فكان للبلاط شيوخه وعلمائه وهو المجال الحيوي الوحيد المسموح به لإظهار النبوغ والابتكار، وهو ما افرز جيلًا من العلماء تبنّى سياسة قمع الآراء و وجهات النظر الأخرى الناتج عن التربية الانتهازية، زد على ذلك استشراء الفساد والبيروقراطية والعوائق الجبائية التي أثقلت كاهل كل من أراد بعث مشروع علمي يخدم البلاد والعباد.

ولئن خرجت القوى الاستعمارية بجيوشها من البلدان العربية فإن الاستعمار التربوي لا زال نافذ المفعول إلى هذه الساعة من خلال استقطاب كل من بزغ نجمه في العلم. كما ساهم عدم الاستقرار السياسي والحروب في دفع العقول إلى الهجرة، والأمثلة عديدة؛ حيث أدّى الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية إلى حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الأساسية في الوطن والأرض والمال والجنسية مما أسهم في هجرة علمائه وفنييه إلى أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وإلى البلدان العربية النفطية، فأسهموا في بنائها في الخمسين سنة الماضية، وبعضها منحتهم الجنسية والمال والحرية وامتيازات أخرى زادت من هجرتهم من فلسطين. كما حدثت هجرة مماثلة من العراق على مرحلتين من 1991 إلى 2000 ومن 2003 إلى يوم الناس هذا. ومن التعسف حصر أسباب هجرة العقول سياسيا واقتصاديا فقد ساهمت أيضا الظروف الاجتماعية والثقافية في تنفير العقول وجعلها تبحث عن ضالتها المادية وراء البحار

أرقام مفزعة

سنستند في هذا المقال أساسا إلى أرقام منظمة العمل العربية، فقد بينت دراساتها أن 95% من الطلبة العرب لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية؛ فلتونس مثلا حسب إحصائية كتابة الدولة للهجرة بعنوان سنة 2012:  57 ألف طالب بالخارج بنسبة عودة لا تتجاوز 10%. ففي السنوات الخمسين الأخيرة هاجر من العالم العربي  ما بين 25 – 50% من حجم الكفاءات، وقد قدرت الخسائر المادية جراء هجرة العقول ب 200 مليار دولار (11 مليار في عقد السبعينات). أما الدول المستقطبة فهي أساسًا الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا، حيث تصطاد 75% من الأدمغة العربية، ف 34% من أطباء الاختصاص ببريطانيا ينحدرون من أصول عربية

مليون خبير واختصاصي عربي مهاجرون

شعب كامل من الكفاءات شدّ الرحال إلى الغرب حيث بينت المؤسسة العربية أن بأمريكا وأوروبا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا

  • مصر والعراق في المقدمة

تساهم مصر ب 60 % من العلماء والمهندسين العرب في الولايات المتحدة الأمريكية تليها العراق بنسبة 15%.

استنزاف العقول العربية.. أما آن للجرح أن يندمل؟

زادت الثورات العربية في حجم كارثة “استنزاف العقول” فقد أصبح العالم العربي مجموعة من بؤر التوتر، فتزايد عدد اللاجئين الذي أصبح يحصى بالملايين، حيث أظهر تقرير للجامعة العربية ارتفاع نسبة المتعلمين من بين المهاجرين من الدول العربية، وارتفاع نسبة تسرب الأدمغة والأشخاص المتخصصين بمجالات معينة، وأن الكثيرين من المهاجرين العرب هم أطباء يبحثون عن دولة يتم فيها تأمين مكان عمل لهم وللأسف فإن ما تعيشه المنطقة من هزّات وحروب لا يوحي بانفراج قريب، لتظل أدمغتنا رحّالة تبحث عن أحضان غربية ترتمي فيها. فالأوضاع في العالم العربي لا تحفّز إلا على البراغماتية ولسان الحال يقول:

قبل أن تسألوننا ماذا قدمّنا لأوطاننا اسألوها أولا ماذا قدّمت لنا.

طارق العمراني

أستاذ مدارس ابتدائية، ومدوِّن تونسي مهتم بالشأن السياسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى