بين الروم والمسلمين: لمن الغلبة اليوم -الجزء الثاني-

توقفنا في الجزء الأول عند تغير موازين القوى بين الروم والمسلمين وسلب المسلمين نصرهم وعزهم وذكرنا أن السبب في ذلك هو تغير أسلوب العدو في المعركة واختفائه من المواجهة المعلنة بعد أن عبث بالقيم المجتمعية والسياسية لدى شعوبنا وأعاد تشكيلها بالصورة التي تخدم مصالحه فلم يعد في حاجة للمواجهة المعلنة التي تستفز غضب الجماهير وتحي فيهم الحمية للدين فانتقل إلى دور إداري خفي يحرك كل ما أنتجت قيمه من دساتير وقوانين ورجال ومؤسسات من وراء ستار.

قد تختلف الأنظمة التي شكلها العدو في البلاد التي رسم حدودها -كما تحدد مصلحته-في الأسلوب لكن أينما ذهبوا تجمعهم منظومة قيمية واحدة-تخدم مصلحته-تلك المنظومة صنيعة عقود من تجريف الهوية وسلب المسلمين إسلامهم.

ولتجريف الهوية وزرع التبعية استخدم العدو عدة أسلحها كان أبرزها تغيير مناهج التعليم لتنشئة جيل بعد جيل من مسلوبي الإرادة معدومي الهوية وصناعة نخب مزيفة للعبث بالعقول وهدم الثوابت والاستبداد والفقر لضمان الحصار الفكري.

أولا النخب المصنعة:

كانت النخبة المصنعة أول أسلحتهم في ميدان اللاعنف تلك النخبة المنسلخة من دينها وتراثها الموالية تماما للغرب ولَّوها مسئولية الثقافة والإعلام والتربية والبناء ليشوهوا القادم من الأجيال فها هو (لورد ميكالي) رئيس اللجنة التعليمية في الهند يقول:

يجب أن ننشئ جماعة تكون ترجمانا بيننا وبين الملايين من رعيتنا وستكون هذه الجماعة هندية اللون والدم إنجليزية الذوق والرأي واللغة والتفكير

ثانياً الحكومات والأنظمة العميلة:

وكأن لسان حالهم: لنحكمهم بأبناء جلدتهم ولنسحق قيمهم ومبادئهم بأيديهم ولنحمي عصابتنا تلك بحفنة من المنافقين ولندع هؤلاء المنافقين يعلموهم جزء من دينهم ويخفوا الجزء ليردهم عن دينهم وليجد الصادقين المخلصين منهم أضعاف ما وجدوا منا من العذاب والاضطهاد ولنمجد ونخلد ذكرى الطواغيت منهم ولنملأ كتب تاريخهم بانتصاراتهم المزعومة ولنجعلهم قادة وقدوة لغيرهم من العملاء فلنصنع من أمان الله خان بطل أفغانستان ومصطفى كمال أتاتورك عظيم تركيا وعبد الناصر وزبانيته أسطورة مصر.

لقد نجحت أسلحة العدو الفتاكة في تغيير معتقد ملايين من المسلمين جعلت منهم مسوخًا وسلبت منهم كل معاني العزة والكرامة لم يكن التغيير مباغتًا، وما ينبغي له، لقد تسلل ببطيء لقلب العالم الإسلامي ليزرع فيه سمومه بالتدريج واعتمد في خططته الخبيثة على محاور ثلاثة:

المحور الأول (الإفساد الأخلاقي):

يقول زويمر – رئيس المبشرين – في مؤتمر القدس سنة (1934م):

نريد أن نخرج جيلا لا صلة له بالله، ولا صلة له بالأخلاق التي تقوم عليها الأمم

المحور الثاني (التشكيك في مصادر التشريع الإسلامي وتمييع نصوصها):

حيث شككت النخب المصنعة وما أكثر تواجدهم، وما أخطر المواقع التي يتبوَّؤنها، والتي منها يطلون علينا ليل نهار يدكون حصون هويتنا، وثقافتنا في القرآن أمثال طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي و هُوجِمت السنة الشريفة في كتبهم أمثال: (أضواء على السنة المحمدية) (الإسرائيليات في البخاري) وكتبت مجلة العربي ( راجعوا البخاري فليس كل ما فيه صحيح) وحاولوا الطعن في الصحابة وتضخيم مساحات الاختلاف بينهم، وظهرت كتابات تنادي بالذوبان بالغرب مثل كتابات  طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) حيث يقول:

علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحبُّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب.

المحور الثالث (تمزيق أمة المسلمين):

ومن وسائله ظهور:

دعوات القومية: العربية والكردية والهندية.

الدعوات العالمية: كالشيوعية.

الدعوات الإنسانية الماسونية – اليهودية – وفروعها مثل نوادي الليونة، والروتاري، شهود يهوه، بني برث، (أبناء العهد).

الفرق (الكافرة) المنسوبة للإسلام كـ : القاديانية – البابية -البهائية – النصيرية- الدروز… إلخ.

القومية العربية تلك اللعنة التي أصابت العرب صنيعة الروم ظهرت أول ما ظهرت على يد عملائهم من النصارى العرب لتقطع الصلة بين العرب والدولة الإسلامية أنداك كما أحيت العصبة الجاهلية للعرق لتستخدم المغفلين من العرب لمحاربة الدولة العثمانية كالشريف حسين.

يقول الشيخ عبد الله عزام:

إن واقع العرب يدل على النتائج التي توصلت إليها الدعوات القومية والعلمانية من قطع صلة العرب بالدولة الإسلامية وتمزيق العالم العربي إلى دويلات هزيلة حتى تبقى في قبضة العالم الغربي والشرقي، تتسابق في ولائها لأمريكا أو إلى روسيا لتحمي أنظمتها في المنطقة وتضخم الكيان الإسرائيلي وانهيارات في النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.

وما أجمل كلمة سيدنا عمر بن الخطاب ننهي بها هذا الحديث:

نحن قوم أعزنا الله بهذا الدين ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)  (الأنبياء:10).

 فالمسلمون والعرب يُذكرون بالقرآن، فبسبب من هذا الكتاب تذكر هذه الأمة، ولقد تقدم العرب أول مرة إلى البشرية على هدي هذا القرآن، وأمسكوا بزمام البشرية بعد أن تمسكوا بالكتاب وأقاموه في حياتهم.

يقول سميث-مبشر أمريكي-:

وتاريخ الشرق الأدنى الحديث يدل أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة للنهوض بالواجب الشاق، وما لم يكن المثل الأعلى إسلاميًا على وجه من الوجوه، لن تثمر الجهود البتة.

وهكذا تغيرت قيم الأمة تغيراً جذرياً لتنشأ أجيال ليس لها هوية ولا مبدأ في الحياة لا تعلم لما تعيش؟ ممزقة خلقيًا واجتماعيًا مفككة أسريا يقول زويمر مخاطبا المبشرين:

إنكم أعددتم شبابا في ديار الإسلام لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام فجاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم للعظائم، ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات.

لقد أصاب أمتنا الوهن الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (حب الدنيا وكراهية الموت). ففي الحديث الصحيح: الذي رواه أحمد:

يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.

وهكذا فتت الاستعمار العالم العربي إلى نحو 22 دولة، وفتت العالم الإسلامي إلى ما بلغ بمجموعه أكثر من 55 دولة، وقد تسلط على حكم تلك البلاد بترتيب دقيق ومباشر من الاستعمار نماذج متعددة من أنظمة الحكم ساست شعوبها بالقمع والظلم والقهر ومارست عليهم سياسات الإفقار والتجهيل والإفساد.

فانحط العالم الإسلامي إلى أسفل قائمة الدول المتخلفة التي تعاني من كم هائل ومتنوع من الأزمات وبسبب ذلك بجانب ما أوجد الغرب في تلك البلاد من التيارات الفكرية والسياسية المتعددة بين فلسفات الشرق الشيوعي الاشتراكي الملحد والغرب العلماني الليبرالي قام صراع مرير على السلطة في كثير من تلك البلاد وتمكنت كتل سياسية مناوئة للأنظمة الحاكمة من الوصول للحكم وقدمت نماذج مغايرة عنها لم تكن أقل منها تبعية للغرب لتضمن بقائها والغرب في ذلك يجلس جلسة المتفرج ليختار أشدهم له ولاءً وأكثرهم لدين الله عداوة.

كما دخلت كثير من الأنظمة المصطنعة حروبا إقليمية فيما بينها أهلكت مئات آلاف الأرواح وأفقرت البلاد والعباد ولم يكن منها صراع واحد يمكن اعتباره على حق وباطل وإنما قتال على نزوات الملوك والحكام والنفط والأموال.

وفي ظل هذه الأوضاع احتل اليهود فلسطين بخيانة قيادات الجيوش العربية السبعة سنة 1948 م.

ومنذ الاتفاقات الخيانية للرئيس السادات سنة 1980 ثم ما تلاها من خسارة العرب كل شيء بما فيها أرضهم ومقدساتهم بل وكرامتهم، وأما في بقية العالم الإسلامي فقد تجرع المسلمين مر الخسارة مرة بعد مرة فاحتلت الهند كشمير واحتفظت روسيا بالقفقاس وجمهوريات وسط آسيا وفقد المسلمون استقلالهم وأكثر بلادهم في دول أوربا الشرقية وكذلك في العديد من الدول الأفريقية وجنوب شرق آسيا.

ومنذ 1990 اتخذت أمريكا من الشرق الأوسط -معظم العالم العربي والإسلامي-مجالا لغزواتها وطموحاتها الإمبراطورية ونهبها الاستعماري ووصل العالم العربي والإسلامي إلى أشد حالات الانحلال والتفكك وكان فاتحة ذلك احتلال أفغانستان ودخول القوات الأمريكية بغداد في أبريل 2003م.

وبالاختصار، فقد سجلت العقود السبعة الأخيرة تاريخا أسودًا محزنا للعرب والمسلمين، وامتلأت فيه الأرض بين جور الحكام وعدوان المستعمرين جورًا وظلمًا وظلمات وهزائم وبلاءات لا يعلم مداها إلا الله.

 

إن فهم معادلات القوى في صراع الإسلام والمسلمين مع الحملات الصليبية يشكل مادة أساسية في مواجهتهم اليوم وأساسًا لازمًا للبحث عن سبل صحيحة للمقاومة وصولاً إلى النصر بإذن الله.

المصادر:

  • كتاب خط التحول التاريخي
  • كتاب السرطان الأحمر
  • كتاب أضواء على القومية العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى