ما بين موت سكان مضايا جوعًا في الشام، وموت أهل مصر والعراق جوعًا
إن الموت جوعاً هو أشد أنواع الموت؛ لأن صاحبه يفقد الحياة ببطء شديد، وكل يوم يمر عليه يزداد ألمه، ويشتد وجعه، وتهن قوته، ويهزل جسده، ويفقد ماء الحياة حتى يتلاشى، وأنين الجائع أشد من أنين الجريح والمريض والمتألم؛ لأنه أنين ضعيف لا يدل على ما في الجائع من شدة الألم، يخرج من جوف محترق خاو فارغ مما يرطبه.
وهنا أتذكر كلمات الكاتب عزيز ضياء عن تجربته المريرة مع الجوع في بدايات القرن الماضي بعد أن هبت رياح الحرب على مدينة رسول الله وتم حصارها واضطر أهلها للرحيل إلى الشام هربا من الجوع .. إلى الجوع .. حيث قال:
“مازلت أؤمن أن الجوع وحده يظل أخطر أعداء الإنسان، الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه وإنما ينظر إلى الأرض وحدها حيث يتحرى العثور على كسرة خبز أو حبة فاكهة أو عظمة، فلا يكاد يرى ما يبحث عنه فيركض لالتقاطه حتى تكون الهياكل العظمية السائرة في الطريق نفسه قد مدت أيديها تتنازع كسرة الخيز أو حبة الفاكهة العطنة التي زهدت فيها الكلاب.”
والدليل على أن الموت بالجوع أشد أنواع الموت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ نَبِيًّا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ أُمَّتُهُ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَوِ الْجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ، فَقَالُوا: أَمَّا الْقَتْلُ أَوِ الْجُوعُ، فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَكِنِ الْمَوْتُ، فَمَاتَ فِي ثَلَاثٍ سَبْعُونَ أَلْفًا…” رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وميتة الجوع شر من ميتة القتل في الحرب؛ فإن أكثر الذين يقتلون في الحرب هذا الزمان تزهق أرواحهم في طرفة عين بغير ألم يذكر، وإنما الذي يُذكر تألم الجرحى وتشويههم على شدة العناية بمعالجتهم، وأما موتى الجوع فلا يموتون إلا بعد آلام بدنية ونفسية شديدة طويلة الأمد، فيهزلون ويضوون أولاً من قلة الغذاء ثم بفقده، حتى إذا ما وَهَت قواهم الحيوية، وضعف تماسك عضل أبدانهم دبَّ فيها الورم كما يدب في جثث الموتى، ومنهم من يصاب قبل ذلك بالكلب، أو ما يشبهه، ومن يعتريهم الجنون والعياذ بالله تعالى، ولا فائدة الآن في إطالة وصف هذا الرجز الأليم.
واليوم يفترس الجوع المحاصرين في مضايا، فيفتك الجوع بأطفالها وشيوخها، ويهد قوة شبابها، وهو أسلوب لجأ إليه الباطنيون، وصرحوا به
فإن الجوع الذي يفتك بإخواننا في الشام ليس رجلاً فيقتلونه، ولا جيشًا يحاربونه، ولكنه عدو إذا حل ببلد فقد حل فيها الألم، وأسرع إليها الفناء. فالجوع بئس الضجيع وبئس الرفيق.
كانت الشام يوماً بلد الواجدين، قبل أن تتلوث بدموية الباطنيين، قد كملت فيها محاسن العلم والمعرفة مع معاقد الغنى والثروة، يقصدها الناس للعلم أو للعمل، وتغنى الشعراء بهوائها ومائها وخضرتها، وتذكروا طيب فاكهتها وطعامها، وما سكنها أيام عزها أحد فتمنى الرحيل عنها، وكان الناس يفدون إليها يجتنون من خيراتها وأرزاقها، واليوم هي خراب يباب، واليوم يفر أهلها منها، ويأسى الأغراب عنها لها..
كانت أنواع تمرها تزيد على أيام حولها، وأنهارها تتدفق بعذب مائها، ويحف بجنباتها شجرها وثمرها، وأغلى المعادن مختزن في أرضها.. واليوم يخيف أهلها شبح الجوع، فلا ينشدون غنى ويتمنون كفافا وقوتا فقد دمرها الباطنييون على رؤوس أهلها.. يبكيها من يعرفها ويعرف حال أهلها، ويتذكر سابق مجدها وعزها وثرائها. فمن يصدق أن أحداً يموت جوعا في الشام، أرض الخيرات والبركات؟ وهو يقع الآن.. ففي كل عشر ساعات يموت واحد من الجوع، هذا ما أمكن رصده، وما لا يُعلم عنه فالله تعالى أعلم به.
ففي عام الرمادة بالمدينة سنة 18هـ ( 639م) وصلى على إثره أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) صلاة الاستسقاء وكتب إلى ولاته ليفعلوا ذلك..واستمر الجدب الرهيب لمدة 9 شهور حتى كتب المؤرخون:
(حتى أن الناس كانوا يُـرَوْن يـَسْتـَفـّون الرمّة ويحفـِرون نـُفـَق اليراببع والجُـرْذان يـُخرجون ما فيها ويأكلون جلد الميتة مشويا..ورمّة العظام المسحوقة كانوا يـَسُـفـّونها)
إذن فالجوع جعل صحابة رسول الله يأكلون الجيف والفئران..لدرجة أنهم كانوا يحفرون أنفاقها بحثا عنها..
كل هذا يعتبر مع بشاعته مقبولًا..ولكن هل يصل الأمر إلى أكل لحم البشر الموتى؟ نعم للأسف
هذا ما حدث في العديد من المجاعات التي ضربت العالم الإسلامي عبر التاريخ
لقد أكل الناس بعضهم بعضا..وصار القانون الذي يحكم البشر هو قانون شريعة الغاب
حيث القوي يأكل الضعيف فعلا لا مجازا.. ليس هذ بل إن الأدهى والأمر من ذلك أن هذا حدث في مدن ومناطق كانت الحضارة تشع منها لتصل إلى عوالم (أوروبا) المظلمة في ذلك الوقت..
ك(العراق)..و(مصر)..و(الجزائر)..و(الأندلس)
لا تندهشوا فقد صدق من قال الجوع كافر
وهناك مثل شهير يقول:
“ساعة البطون تتوه العقول وساعة القدر يعمى البصر”
فعندما توشك على أن تهلك جوعا..فثق أنك لن يمنعك مانع من الإتيان بأي شيء يمنع هلاكك..حتى وإن كنت تستبشعه، سيسقط عنك ثوب الحضارة والالتزام الذي ألبسته لنا الأديان والشرائع السماوية..لتظهر صورتك العارية الحقيقية، مجرد حيوان مفترس..وحش كاسر لا يعنيه سوى أن يبقى حيا وسط الغابة التي نعيش فيها.. لا تندهشوا، فتلك هي حقيقة الإنسان..إنسان العصر الحجري..جدنا الحقيقي.
وهنا نستعرض مدى الأسى الذي تعرض له أهل مصر والعراق من شدة الجوع قديما عسى أن تتذكر تلك الأجيال مجاعات أجدادهم فيهبون لنجدة أهلهم في مضايا التي تتضوع جوعا ويأكل أهلها الكلاب والقطط وأوراق الشجر.
والآن لنبدأ من الشرق، وما أدراك ما سحر الشرق!
هلموا إلى العراق..هلموا إلى بلاد الرافدين..هلموا إلى بغداد والبصرة
لكنها ليست بغداد الحضارة، ليست بغداد الساحرة
إنها بغداد أخرى.. مختلفة
مجاعات ضربت العراق بغداد والبصرة
في سنة (222هـ)(836م) اجتاحت قرى (العراق) أسراب لا تحصى من الفئران، وأتت على غلات الناس، واشتد الجوع فاضطر الناس لأكل الفئران، وفي سنة 334هـ ( 848م) كثر برستاق القيمرة الكبرى (نوع من حشرة القمل) حتى يئس الناس من غلاتهم، ولكن.. أنهى الخطر ظهور نوع من الطير أكبر حجما من العصفور راح يلقط القمل حتى فني.
وفي شهر ربيع الآخر سنة 446هـ (860م) كثرت الصراصير في (بغداد) كثرة هائلة حتى سمع لها في الليل دوي هائل كدوي الجراد إذا طار،وأتت على الأخضر واليابس، واستبدت المجاعة بالناس فصاروا يصيدون الصراصير ويأكلونها حتى فنيت. وكان الفقير يأكلها كما هي، والعامة يأكلونها مع بعض الخبز، أما الموسرون فقد كانوا يقلونها في الزيت.
هل تقززتم؟
انتظروا قليلا..فوقت التقزز لم يحن بعد.
إن تقززتم من الفئران والصراصير، فماذا سيصيبكم عندما تقرؤوا الآتي؟
ففي سنة 241هـ (855م) نفقت الدواب لإصابتها بداء الصدام*** ثم في سنة 326هـ (938م) تكرر وقوع الوباء في الدواب جميعا فنفقت وأصاب الناس قحط شديد فاضطروا لأكل لحم الدواب الميتة وكان هذا سببا في ظهور جرب وبثور على جلد الناس، ثم تكرر ذلك في عام 329هـ (940م) ووقع الموت في المواشي وأكلها الناس ميتة.
وفي سنة 437هـ (1045م) وقع الوباء في الدواب جميعا حتى الخيل لم تسلم منه، فهلك من معسكر الملك (أبي كاليجار السلجوقي) اثنا عشر ألف رأس ويقال إنه كان ينفق يوميا في عموم العراق ما يزيد عن المائة رأس وكان ذلك يُطرح في نهر دجلة حتى امتلأ به فتجنب الناس الشرب من مائه، وعم القحط والبلاء وتكرر ذلك في عامي 452هـ (1060م) و 459هـ (1067م) وكانت الأعراض عامة هي نفخة العينين والرأس وضيق الحلق وصعوبة التنفس وكان الناس يحضرون الأطباء لدوابهم فيسقونها ماء الشعير فلا يجدي.
وامتد الوباء للغنم حتى أن راعيا قام عند الصباح إلى غنمه ليسوقها لترعى، فوجدها موتى وكانت أكثر من خمسمائة رأس، وطال الوباء حيوانات البرية حتى كان الناس يصيدون حمر الوحش بأيديهم ثم يعافونها.
ووقع غلاء شديد وقحط مفرط وطال الموت جميع الدواب على أشكالها، وتعذر اللحم فاضطر الناس لأكل لحم الدواب النافقة، فأصيب الكثير بشتى الأوبئة..وعم الموت في كل مكان و حينما شدد أبو أحمد الموفق طلحة أخو الخليفة المعتمد على الله (256-279هـ)(870-892م) الخناق على صاحب الزنج**** فألجأه إلى الاعتصام بأحد المواضع في أغوار نهر أبي الخصيب بجنوب العراق في سنة 269هـ (882م) وانقطعت عنه الميرة وغلا سعر القمح عند المحصورين فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله ثم صار قـَويّ الزنج يعدو على ضعيفهم فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه ثم أكلوا لحوم أولادهم ثم كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم وكان لا يعاقب الخبيثُ أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس فإذا تطاول حبسه أطلقه.
وعندما دخل جيش صاحب الزنج (البصرة) في شوال سنة 257هـ ( 871م) وأعمل الجيش الغازي في الناس القتل والحرق والأسر، اختفى كثير منهم خوفا، فكانوا يظهرون بالليل فيأخذون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها والفئران والسنانـيـر (القطط) فأفنوها حتى لم يقدروا منها على شيء.
فكانوا إذا مات منهم الواحد أكلوه ويراعي بعضهم موت بعض ومن قدر منهم على صاحبه قتله وأكله، وعدموا مع ذلك الماء العذب)
انظروا ماذا فعل الحصار بأهل (البصرة) المسلمين.
لقد أسلمهم إلى المجاعة..وأسلمتهم المجاعة إلى التواري عن الأعين بغية الحفاظ على الحياة..ثم ظهرت حقيقة الإنسان، _وكل إنسان_والتي ستظهر جلية يوم القيامة عندما يقول كل منا نفسي..نفسي.
لقد أكلوا الكلاب والقطط (السنانير) بل وحتى الفئران أفنوها. ثم وصل بهم الأمر إلى أكل لحم الموتى، ليس هذا فحسب، بل كانوا يترقبون موت بعضهم، وليس هذا أيضا فحسب، بل كانوا يتقاتلون حتى يقتل أحدهم الآخر فيكون غنيمته فيأكله..ألم أقل لكم إنها شريعة الغاب؟..
ولم يكن أهل (بغداد) من ذلك ببعيد..
طالعوا معي ما يلي:
وحدثت مجاعة ببغداد سنة 329هـ (941م) وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعة من غير غُسل ولا صلاة، وظهر من قوم فيهم دين وصدقة وعطف على الأحياء وتكفين الموتى وظهر من آخرين فجور ومنكرات حيث كانوا ينبشون القبور فيسرقون الموتى ليأكلوا لحومهم ويبيعوا أكفانهم.
ثم حلت بأهل (بغداد) مجاعة أخرى سنة 334هـ (946م) وأكل الناس النوى والميتة وكان يؤخذ البزر (البراز) قـَطـُونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد ويوقد تحته النار ويؤكل فمات الناس بأكله وكان الواحد يصيح : الجوع..ويموت
ووُجِدت امرأة قد شوت صبيا حيا فقـُتِلت
إذن فالمجاعة جعلت أهل (بغداد) يأكلون أي شيء..وكل شيء..
بدءا من الجراد والنوى_وهذا قد يستساغ لدى البعض_مرورا بالفئران والصراصير والجيف..وهذا يثير التقزز والغثيان، ولكن ماذا عن البراز؟..
وماذا عن أكل لحم الموتى؟؟..
وماذا عن شي الأحياء والتهامهم؟؟؟
أليس هذا شيء لا يصدقه العقل؟
فأين كان إسلامهم وقتها؟…
بل أين كانت فطرتهم؟؟..أخلاقهم؟؟..إنسانيتهم؟؟..
ألم أقل لكم إن: الجوع كافر.. أتريدون الأبشع من ذلك؟
هلموا إذن لتقرأوا ما خطه (المسعودي) في ذات الكتاب (مروج الذهب)عن أهل (البصرة)
“إن نسوة حضرن احتضار امرأة وكانت معها أختها وكن جميعا ينتظرن موتها ليأكلن لحمها..فما إن ماتت حتى قطعن لحمها وأكلنه..ولم يتركن لأختها إلا رأسها..فراحت تبكي وتشكي ظلمهن لها في أختها”
ويا له من ظلم!!
فهل كانت الأخت تشتهي ذراع أختها..أم فخذها..أم صدرها؟؟!!
يا الله..لله در من قال:”شر البلية ما يضحك”
أتدرون الأكثر سخرية؟
إنه يقول: “قطعن لحمها وأكلنه”..
إذن فالأكل حدث مباشرة بعد تقطيع اللحم..نعم..لقد كان اللحم نيئا،فجوعهن لم يمهلهن حتى يقمن بطهي اللحم!!!
يقول ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)
“وقع برد عظيم بالعراق سنة 423هـ (1031م) ما رأينا مثله قط..حتى لقد جمد منه ماء دجلة أو كاد، وجمد الخل والنبيذ وأبوال الدواب والناس، ورئيت ناعورة قد توقفت لجمود الماء وصار الماء في فتحاتها كالعواميد، وتوقف دوران الدواليب على دجلة، وجاءت ريح سوداء شديدة فقلعت الزروع وأشجار الزيتون والنخيل حتى لقد قلعت نخلة من أصلها ثم حملت جذعها لدار بينها وبينها ثلاث دور. وقلعت الريح أسقف البيوت والجوامع بجميع القرى، وتساقط البَـرَد حتى كان وزن الواحدة بين الرطل والرطلين، وشوهدت بَـرَدة وزنت مائة وخمسين رطلا وكانت كالثور النائم وقد نزلت في الأرض نحوا من ذراع، واستمر البرد ستة أشهر، وهلكت المواشي، وهلك خلق كثير حتى رئيت الجثث متجمدة في الطرقات لا تجد من يدفنها، وعمت المجاعة، فاضطر الناس لأكل الجيف، حتى إذا فنيت ذبحوا أولادهم فأكلوهم.
وكان الواحد يعارض بولده ولد غيره كي لا تدركه رقة تثنيه عن ذبحه وأكله!
إذن فقد وصل الأمر بالناس إلى ذبح أولادهم وأكلهم..إنه أمر لا يصدقه عقل..ولكنه حدث،وتم توثيقه تاريخيا.
المجاعة المصرية الكبري (الشدة المستنصرية والسنوات العجاف)
قبل أن أتحدث عن الشدة المستنصرية لا أريد أن أحملها أكثر مما تتحمل ولكني أريد أن أقول عندما تحدث هذه المجاعات يتخلى الإنسان عن إنسانيته ويتحول إلى حيوان مفترس.
صاحب تلك الأزمات الإدارية والسياسية للخليفه المستنصر العبيدي !! أزمة اقتصادية طاحنة لعل مصر لم تشهد نظيرا لها – من حيث شدتها وعمق تأثيرها – منذ عصر يوسف الصديق عليه السلام.
حيث تناقص منسوب النيل في السنوات 444 هـ , 447 هـ , 457- 464هـ
فنزع السعر وتزايد الغلاء وأعقبه الوباء حتى تعطلت الأراضي من الزراعة وشمل الخوف وخيفت السبل برا وبحرا وتعذر السير إلى الأماكن إلا بالخفارة الكثيرة وركوب الغرر.
واستولي الجوع لعدم القوت حتى بيع رغيف خبز في النداء بزقاق القناديل من الفسطاط كبيع الطرف بخمسة عشر دينار وبيع الإردب من القمح بثمانين دينارا وأكلت الكلاب والقطط حتي قلت الكلاب فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير وتزايد الحال حتي أكل الناس بعضهم بعضا وتحرز الناس فكانت طوائف تجلس بأعلي بيوتها ومعها سلب وحبال فيها كلاليب فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه.
ثم آل الأمر إلي أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره وصار يجلس على حصير وتعطلت دواوينه وذهب وقاره وكانت نساء القصور وتخرجن ناشرات شعورهن تصحن ( الجوع الجوع ) تردن السير إلي العراق فتسقطن عند المصلى وتمتن جوعا واحتاج المستنصر حتى باع حاية قبور آبائه، وجاءه الوزير يوما علي بغلته فأكلتها العامه فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم وأفضى الأمر إلى أن أُعدم.
وقيل إن مصر فقدت في هذه الأزمة ثلث سكانها حتى أن أهل البيت الواحد كانوا يموتون في ليلة واحدة وكان يموت كل يوم ألف نفس علي الأقل، ثم ارتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثمانية عشر ألفا، وكان المستنصر يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفا على حسابه الخاص وخلت القرى من سكانها ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون.
وكثر الوباء بالقاهرة ومصر حتى أن الواحد كان يموت في البيت فيموت في بقية اليوم أو الليلة كل من بقي فيه وخرج من القاهرة ومصر جماعة كثيرة إلى الشام والعراق وأكل بعض الناس بعضا. ومن جملة ما بلغ من أمر الغلاء أن امرأة كان لها حلي باعت ما يساوي ألف دينار بثلاثمائة دينار واشترت به حنطة فنهبت منها في الطريق، فحصل لها ما جاء رغيفا واحدا وكان السودان يقف في الأزقة يخطفون النساء بالكلاليب ويشرحون لحومهن ويأكلونها. واجتازت امرأة زقاق القناديل بمصر وكانت سمينة فعلقها السودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها فخرجت من الدار واستغاثت فجاء الوالي وكبس الدار فأخرج منها ألوفا من القتلي وقتل السودان.
مجاعة في عصر الدولة الطولونية
فقد تعرضت مصر لزلزال شديد،وعلى ندرة الزلازل بمصر إلا أنها كانت شديدة الوطء فوقعت بمصر رجفة عظيمة سقطت فيها دور كثيرة ومات خلق كثير..وظن الناس بها زلزلة الساعة.. فاضطربوا وعم البلاء والغلاء، حتى بلغ سعر مُد القمح (13) دينارا، وانعدمت الأقوات حتى أكل الناس بذر الكتان.. فمات خلق كثير حتى امتلأت أسواق مصر موتى وكانوا يحملونهم على الجمال على كل جمل ثمانية موتى ويحفرون لهم حفرة عظيمة ويلقونهم فيها.
مجاعة في عصر الدولة الاخشيدية والفاطمية
كانت البداية مع الجراد في سنة 327هـ هجم على مصر جراد لا توصف كثرته حتى منع شعاع الشمس أن يقع على الأرض فأتى على الكروم والفواكه والنخل حتى خربت البساتين والحقول، فعمت المجاعة وخرج الناس في طلبه ليأكلوه حتى أفنوه.
وفي سنة 347هـ شهدت مصر جرادا طبق الدنيا فأتى على جميع الغلات والأشجار، ونفقت الماشية وعمت مجاعة أشد وطئا من الأولى، وما أفاد الناس ما أكلوه منه إذ عم الموت في كل مكان، فأكل الناس الكلاب والقطط ثم أكلوا جيف الماشية مع اشتداد الوباء والأمراض بالقاهرة..وبلغ مد الوباء درجة كبيرة من العنف فكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم فكانوا يطرحون موتاهم في النيل ولا شك أن اقتراف الناس لتلك الخطيئة في حق موتاهم كان يعود عليهم بمزيد من البلاء فقد أدى ذلك إلى انتقال العدوى وتفشي الوباء..وفني نصف سكان مصر.
وأخيرا أقول:
“في تاريخ الأمم، تقترب نهاية الدولة الظالمة رويدا رويدا وقبل التمكين تحدث المحنة وتتفاخم الأزمات.. ثم يأتي النصر والتمكين، ولا غالب إلا الله.”