معركة النَصّ… حينما يحمي الفقيه سياج الشريعة

في مدخل وثلاثة وعشرين فصلًا أمتعنا أستاذ الثقافة الإسلامية– الدكتور فهد العجلان-بتحريره لِما طرأ على الساحة الإسلامية من مفاهيم وانحرافات أدّت إلى خلق رُؤًى ومناهج تُصادِم النص الشرعي صراحة، وتدعو لرؤية مغايرة بالكلية للأحكام الشرعية، ثم هي-وبحسب طارحيها لا تُعارض النص ولا تُناقض أحكامه، وإنما تخالف تفسيرًا فقهيًا معيَّنًا لا يُقرُّه النص ولا يتوافق مع أصول الشريعة!

فأخذ الكاتب في تأصيل المفاصلة مع هذه المناهج، وتبيان الحدود، وإيضاح الإشكالات فوضع سياجًا يحمي به الأصول والقواعد والنصوص الشرعية، وأخذ يُؤصِّل وينافح عنه. في كتاب مثير، تتساءل مع كل فصل ما الجديد هذه المرّة؟ تتشوق لقراءة مقدمة الفصل علّك تفكك الإشكال قبل إكمال الفصل، ولكن في كل مرّة ستجد ما لم يخطر على بالك، وقد وضّحه الكاتب بسلاسة ويُسر.

فرغم أنّ الكتاب يظهر كمجموعة من المقالات التي تتناول كل واحدة منها إشكالًا وتردّ عليه، إلا أنه امتاز من أوله إلى آخره بأربع ميزات رئيسية عكست شخصية الكاتب الأكاديمية:

1- البُعد التأصيلي المستند إلى النص الشرعي، والوقوف عند حدوده وعدم المساس بمنهجية تأويله.

2- ذكر المآلات واللوازم من كل قول، وذلك بتفكيك الجمل والعبارات قبل تمريرها.

3- الحوار العقلاني المبرهن في ضوء النص الشرعي.

4- ذِكر الأمثلة والتطبيقات العملية في كل إشكال. فصبغ الكتاب بنوع من الأمان، فتقرأ وأنت مطمئن أنّ هذا الذي تقرأه وتفتح له عقلك يستحق.

الكتاب يعالج إشكالية تواجهنا كثيرًا حينما نتعرض لتفنيد الرؤى والأيديولوجيات، التي ما هي إسلامية محضة ولا ليبرالية ولا علمانية أصيلة، بل عندما ننظر فيها نجدها تستند إلى أقوال فقهية بل ونصوص شرعية… فيحدث التساؤل: كيف انطلقت هذه الأقوال مستندة إلى نصوص شرعية ثم وصلت لاستنتاجات وآراء ضالة؟!

قصة المعركة

فيجيب الشيخ عن هذه الإشكالية بتوضيح “قصّة المعركة” وأن أغلب المخالفات تُقدّم في قالب التفسير الفقهي للنص أي أنها تُقدم كرأي اجتهادي تفسيري للنص. وبهذا تحركت بوصلة المعركة من المواجهة المباشرة للنص كما في العلمانية الغربية، إلى تخطٍ للنص عن طريق مسايرة النص الشرعي بجعل كل الرؤى والمفاهيم المنحرفة المأخوذة من القيم الوافدة وكأنها داخلة في مفهوم النص، ويقبلها الفهم والتفسير الفقهي.

وينوه الشيخ أن هذا الرأي قد يراه البعض تراجعًا في موقف خصوم النص، إذْ تراجعوا من مصادمة النص إلى التحايل عليه ومحاولة إعادة تفسيره بدعوى أن النص يقبل كل التفسيرات، فكلٌّ حسب فهمه. إلا أن الشيخ يؤكد أن هذا التراجع أكسبهم معركتهم في كسب الشعوب المسلمة، لأنهم يستندون إلى نصوص شرعية-رغم أنهم يفرغونها من مضمونها-لكنهم ما عادوا يصادمون النص. فهذا التغير خطير جدا لأن أغلب الناس ليس لديهم القدرة على معرفة الحق والباطل وإنما معيارهم هو مخالفة النص الشرعي أو إعماله، فيصبح من السهل التلبيس على الناس.

فيسلط الكتاب الضوء على أبرز ما انطوت عليه هذه المعركة من إشكاليات وتبيان انحرافها وموضع الخلل الذي أخطأوا فيه فوصلوا لهذا الانحراف. نتناول هنا أبرزها.

الانقياد المشروط

والإشكالية الأساسية التي يعالجها الشيخ الفقيه في هذا الفصل: هي التوقف في العمل بالنص الشرعي بسبب الخلاف بين الفقهاء، فأوقفوا كلام الله وشرعه على الاتفاق بين العلماء! فوضع الشيخ قاعدة دقيقة قال فيها: إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ولم يكن حالهم حال المُعرِض تمامًا عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ، فإن لم يجد ما يؤيد رأيه احتج بأن المسألة فيها خلاف فقهي!

البقع السوداء

استكمالًا للانحرافات التي تؤدي بأصحابها للتستر تحت عباءة الخلاف الفقهي، فصدّر الكاتب الفصل بعنوان “البقع السوداء” مستهلًا الحديث بأن هؤلاء الذين يسبحون في بحر الخلاف الفقهي ليبحثوا عما يتسترون به، سرعان ما تحيط بهم بقعة سوداء يميزهم بها المسلم.

وضرب مثالًا لذلك بمسألة الخلاف الفقهي في مسألة تغطية الوجه، فيقول وكثيرًا ما يتكئ المنحرف عن النص لتبريره التبرّج والتعرّي على مسألة الخلاف الفقهي في تغطية الوجه، والعاقل البصير يعرف أنّه أمام انحراف فكريّ يفسد المرأة المسلمة. فيتعدّى الانحراف مسألة كشف الوجه ليثني على السفور وإبداء محاسن الوجه، وكيف أن كشف الوجه يُحقّق للمرأة ثقة وراحة لا يؤدّيها الغطاء الذي يعرقل مسيرتها ويثير الغرائز نحوها! هذا إذا اكتفى بهذا ولم يتناول تغطية الوجه بشيء من السخرية.

والحاصل أن هذا الذي يُشنّع على المرأة تغطية وجهها متسترًا بالخلاف الفقهي في المسألة لا يكاد يُنكر على كل أشكال التبرج والسفور التي تمرّ عليه يوميًا دون أن تضيق بها نفسه حتّى!

في الطريق إلى العلمانية

يستهل الكاتب هذا الفصل بمبدأ اعتدنا عليه، ومنطلق لكثير من الانحرافات الفكرية والشرعية، بيد أنه يمر علينا مرور الكرام بل وأحيانًا نقف أمامه عاجزين، ألا وهو:

الأحكام الشرعية لا يصلح فيها الإلزام أو المنع؛ مَنْ أحب أن يصلي أو يزكي أو يترك الحرام فهو إنسان يعرف مصلحة نفسه، ومن لم يفعل فلا يصلح أن نلزمه أو نمنعه؛ لأن هذا شأن بينه وبين ربه.

فحين تكون الأحكام والتكاليف الشرعية، شأنًا خاصًا يُحمد فاعله ولا يُتعرض لتاركه، وليس لها تعلُّق بنظام أو سلطة فإننا أمام حال من رواسب الفكر العلماني المتنصّل من الدين، فالدين الإسلامي متجه بخطابه إلى الفرد كما المجتمع، لا يفصل أحدهما عن الآخر. فحين يتوجه إلى الفرد بالمنع يتوجّه أيضًا للمجتمع-متمثلًا في ولي الأمر-بالعقوبة.

يؤمنون بالشريعة… إلا قليلًا!

في هذا الفصل ينبه الكاتب إلى واحدة من العبارات الخادعة، الملغومة إذ يقول القائل “إن الشريعة ما جاءت إلا بما يستحسنه العقل ويحقق المصلحة” والحاصل أن هذا القول يُخفي من المعارضات ما يتنافى مع التسليم لله ورسوله. فهو انقياد للنصوص الشرعيّة مشروط بألّا تخالف العقل والمصلحة. فيزعم القائل بهذا أن الشريعة لا بد وأن تتوافق مع عقله هو، وما استحسنه هو، وما يراه هو مصلحة.

ولا تهنوا… في طريق المطالبة بالشريعة

يميل بعض الإسلاميين إلى تصوير تطبيق الشريعة في النظام الإسلامي بما يتوافق مع تطبيق القانون في النظم السياسية المعاصرة، مما جعل تطبيق الشريعة ليس إلا مادّة من موادّ الدستور يجري عليها ما يجري على أي مادّة أخرى من إمكانية الحذف والتعديل والتقييد، ومن كون المشروعية والقوّة فيها تعتمد على كونها رغبة الناس وإرادتهم لا كونها شريعة من ربّ العالمين.

ومِن المعلوم أنه من المرفوض تمامًا في الثقافة الديمقراطية المعاصرة أن يقوم دستور على انتهاك أي حقّ من حقوق الإنسان أو حرياته-على وفق المعيار الغربي-، أيكون قَدْر الإسلام في قلوب أتباعه دون قدر حقوق الإنسان لدى أولئك الغربيين!

بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس

وكثيرًا ما يختبأ دعاة التحرر من الأحكام الشريعة، تحت عباءة المقاصد الشريعة. وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله، فعندهم (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الامن و (حدّ الردةّ) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحريّة و (الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة. و (كلّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و (الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين.

والحقيقة أن المصالح المعتبرة والملغاة شرعًا، إنما أُقيمت على ما فيه مصلحتي الدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع ولم تقم على مصلحة أحدهم دون الآخر، حتى يستحسن الإنسان من المصالح المتوهمة ما يدفع به الحكم الشرعي.

هوس التفسير السياسي

يتعجب الكاتب لقدر الصرامة التي تمتع بها الفقهاء من أئمة السلف فيما يتعلق بالدخول على السلاطين وتولي القضاء لهم وإسقاط الرواية عمن وجدوه مترخصًا في ذلك. والعجيب أن الدراسات الفكرية المعاصرة التي حاولت نبش التراث الإسلامي، ترى أنّ الأحكام والنصوص لم يكن مردّها إلى التشريع والديانة بقدر ما هي متأثّرة بواقعها الذي صاغته السياسة. فأحدهم يقرر تأثير السياسة على الشافعي لأنه (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارًا راضيًا). فغفل عن أن الشافعي وُلِد (سنة 150هـ) أي بعد زوال الدولة الأموية بثمان عشر سنة!

هل معنى هذا أن السياسة لا تؤثّر ولا تستغلّ الأحكام الشرعية؟

أبدًا، بل لها تأثير ولا شكّ في ذلك، لكن تأثيرهم لم يمسّ أصل الشريعة ولا نصوصها ولا مذاهب الفقهاء وأصولهم، فالتأثير يكمن في استغلال بعض النصوص والمواقف، وربّما في تقديم بعض الفقهاء لأهوائهم وشهواتهم إرضاء للسياسة لكن ذلك لا يضرّ إلا من فعل، أما نصوص الشريعة وأصول الاستدلال وقواعد الفقه فقد كانت في منعة–أي منعة-عن التأثّر بذلك.

التسرُّبات الفكرية

في هذا الفصل يوضح الكاتب تبعات التصدر للرد على الشبهات والدخول في المناظرات والنقاشات أو حتى مجرد متابعتها، دون قاعدة علمية تأصيلية تحميه ويستمد منها أصوله وقواعده، حيث يدخل المحاور والقارئ هذه الحوارات، وفي غمار معمعة قضاياها وأمواج إشكالاتها يتخذ لنفسه عددًا من الأصول والقضايا الثابتة يدافع عنها ويجيب عن الشبهات بناءً عليها.

وقد غفل عن أن هذه الأصول والقضايا لم تأتِه من قراءة تدبُّرية لكتاب الله، ولا من جلوس طويل على صحيح السُّنة ولا من دراسة بحثية لكتب الفقه؛ وإنما جزم بها من خلال هذه الحوارات وحسم أمرها بعد إلزامات ألزم بها نفسه عندما دخل في مأزق لم يستطع الخروج منه، ولم يستقيها لا من التدبر في الكتاب ولا السنة أو فحصٍ لكلام الفقهاء.

الخصم الأكبر!

ضرورة تقديم خطاب عقلاني وبرهاني وعلمي لدعوة الناس إلى الإسلام، وأنّ سبب جفولهم عن الإسلام راجع إلى ضعف الخطاب الموجّه لهم.

يرى الكاتب أن هذه العبارة مما حفلت به كثير من الحوارات والمناسبات، إلا إنه ليس لديه تحفظ كبير على صحّة العبارة، إلا أنه يذكر أنه كلما سمعها قفز إلى ذهنه المناظرات العلمية والإعجاز العلمي ودورها في دعوة الناس إلى الإسلام، فهي أضعف وأبعد بمراحل كثيرة من دور الموعظة الحسنة أو التعامل اللطيف أو الخطاب العقلي الميسّر. فالخصومة الحقيقية والمشكلة الأكبر التي تصدّ الناس عن الإسلام ليست الدلائل العقلية بقدر ما هي (الأمراض) التي تسكن النفوس.

المعيار المنكسر

على المستوى النظري كثيرًا ما نردد “أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المعيار الذي توزن به الأمور” ولكن أحيانًا يضعف تأثير هذه القاعدة على المستوى العملي. إذ إن هذا المعيار والميزان الشرعي ينكسر أحيانًا فلا يكون معيارًا، بل يبقى نورًا محجوبًا زاحمته معايير أُخَر وشاركته أحقيته في الوزن والقياس.

من الذي كسر هذا المعيار؟

توجد كثير من العوامل التي تضغط على هذا المعيار فتكسره أو تنحيه أحيانًا، اكتفى الكاتب بذكر اثنين منها وحصرهما في جانب السياسة الشرعية:

  • النسبية: حين نتحدث عن الأحكام الشرعية والحقوق والحريات يُرحب الناسُ كثيرًا بهذا الحديث، ولكن ما تلبث إلا أن تسمع “على فهم مَن” وكأن الشريعة بناء خاملًا خاويًا على عروشه، ليس له إلا القيمة الشكلية الروحية، لكنه معيار محايد لا يقيس ولا يزن.
  • مساواة الحقِّ بالباطل: فيقولون كما تمنع الباطل يجب أن تمنع الحق! وكما من حقك أن تفعل الحق فيجب أن تجعل للباطل مثله وإلا وقعت في الظلم!

أين الثوابت والمتغيرات؟

يتساءل الكاتب عن تاريخ نشوء هذا المصطلح بل ودخوله في الشريعة الإسلامية، إذ يُقرّ الكاتب ألا مشاحة في الاصطلاح، ولا إشكال فيها بحد ذاتها ما دامت محتفظة بخصلتين: ألا تحتوي على مخالفة شرعية، وأن يتم توضيح المقصود بها بما يزيل الإشكال. لكن الإشكال في استحداث مصطلح جديد ثم بناء الأحكام الشرعية عليه.

وفيما يخص الثوابت والمتغيرات فإن حقيقة التفسيرات التي وضعوها له ترجع لمعنى واحد؛ فالثوابت لديهم هي الأصول الكلية القطعية المتفَق عليها، والظنيات هي ما كان دون ذلك من الظنيات والفروع. وإلى هنا ليس هناك إشكال، إنما يبدأ الإشكال حين تُبنى الأحكام الشرعية على هذا المصطلح الذي لم يحرره العلماء، فيقول فريق من مستحدثي هذا الاصطلاح: أن الثوابت هي ما يجب أن نخضع له من الشريعة، والمتغيرات هي الأمور المُختلَف فيها لذلك نحن في سعة منها، نأخذ ونذر بحسب ظروف المرحلة وما يحقق المصلحة وما يتلاءم مع تطور المجتمع.

وهذا تفسير مختلٌّ؛ لأنه يلغي دائرتين واسعتين من الشريعة، هما الأوسع من أحكام الإسلام: دائرة المختلف فيه، ودائرة الظنيات.

ختامًا

ما عانيت في قراءة الكتاب أبدًا، رغم عمق القضايا التي ناقشها، ولكن عانيت في تلخيصه، فعند كل محاولة اقتباس أجدني أضطر إلى نقل النص كاملًا، وهذه طبيعة كتابات الدكتور فهد العجلان: تأصيلية، هذّبها ميزان الشرع، عميقة، مُقدَّمة في قالب سهل يسير الفهم، دون حشو أو زيادات. فلا يُغني هذا التلخيص عن قراءة الكتاب، إنما هو عرض مختصر لأهم ما ناقشه الكتاب.

رابط تحميل كتاب معركة النص.

مي محمد

طالبة علم، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى