الدجّال.. الشرُّ القادم من الشرق
إنَّ مما لا يخفى على أيّ مسلم أكرمه الله تعالى بالبصيرة، أنَّ ربَّنا سبحانه وتعالى قد أوجدنا في هذه الدنيا اختبارًا وامتحانًا، وقد أخبرنا الملك سبحانه بأنَّ جزاءَ من امتثل أوامره، فأتى من الواجبات ما يستطيع واجتنب المَنْهيّات والمحرّمات -بعد تحقيق التوحيد واجتناب نواقضه- أنَّ جزاءَ من كان هذا حالُه الجنة، وأن من خالف أوامرَ الله تبارك وتعالى فلم يأتِ بالواجبات وانتهك المحرّمات أنَّه يكون بذلك قد عرّض نفسَه للعقوبة الشديدة في نار جهنم عياذًا بالله منها، ولما أنْ كانتِ الدنيا دارَ اختبارٍ لزم ألَّا تخلو من عراقيل وكَبَوات، يتفطّن لها ويجتنبها المخلَصون، ويكبو فيها ثم يتوب الموفَّقون، وينتكس بها ويضلُّ الهالكون.
وهذه العراقيل التي نتحدث عنها إنّما هي الفتن التي لا يكاد يخلو عصرٌ من كِبارها، فهي بمثابة الغرابيل التي يظهر بها الغثُّ من السمين، وبها ينكشف الصادقُ من الكاذب.
والمؤمن لا يثبت في وجه هذه الأعاصير بفضل نفسه وجهده، بل بمحض فضل الله وتوفيقه، وإنّما مبلَغُ جهد العبد مع الفتن أَخذُه بأسباب الهداية والثبات، يطلبها من المولى فيكرِمُه بها بجوده، أما من كان في قلبه مرض أو قَصُرَت أعماله وتخلَّفَ حالُه عن طلب الثبات اجتالته الفتن فأردته صريعًا قد ضلَّ بعد الهدى، واستحال بعد البصر إلى العمى فاللهم العافية.
وقد أخبرتنا النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه أن الفتن تشتدُّ في آخر الزمان حتى تصيرَ الواحدةُ منها كالداهية تترك الحليم حيرانًا قد فلَّت حدَّه وأوهنت عزمَه، كلّما أقبلت واحدة قال هذه مهلكتي إلى أن تنجلي وقد سلَّم الله منها من رَحِم.
وإن من أعظم هذه الفتن فتنةٌ مُرَّة كالعلقم، لم يزل رسول الله ﷺ يستعيذ بربه العليِّ القدير من شرّها، في التشهد الآخر من كل صلاة إلى أن لحق بربِّه، إنها فتنة المسيح الدجال!
فمن هو هذا المسيح الدجّال، ولماذا كانت فتنتُه هذه من أشَرِّ الفتن وأخطرِها على الإطلاق؟!
الدجّال، اسمه وصفاته الخَلْقيَّة
بدايةً فإنّ اسمه المشهورَ في السُنَّة هو المسيح الدجّال، وكلمة المسيح مأخوذة على الصحيح من أقوال أهل العلم من أحد معنَيَين؛ الأول من السياحة أي أنه يسيح في الأرض جميعًا، والثاني على أنه ممسوح العين، وكلمة الدجّال مأخوذة من الدَّجَل أي الكذب، ويشهد لهذا المعنى ما سمّاه به رسول الله ﷺ من أنه مسيح الضلالة كما عند ابن حبّان من حديث أبي هريرة.
والصحيح الثابت أن الدجّال من البشر لا من الجن، فقد أطلق عليه رسولُ الله ﷺ اسم الرجل في أكثر من موضع كلها في الصحيح، بالإضافة إلى ثبوت رؤية الناس له وقت خروجه وأنهم يكلّمونه، وهذا لا يتوافق مع احتمال كونه من الجن فالبشر لا يرون الجن، وقد شكَّ بعض الصحابة زمن النبي ﷺ برجل اسمُه ابن صائد وظنّوه الدجال، وهذا يدلُّ أيضاً على أن المستقرَّ في أذهانهم هو أن الدجّال من البشر لا من غيرهم.
ومُجمَل ما جاء في الآثار الصحيحة عن رسول الله ﷺ في وصف خِلقَة هذا الرجل أنه:
- شاب. (أي ليس كبيرًا في السن)
- شديدُ جُعودة الشعر. (قَطط، كما في لفظ الحديث)
- أبيضُ البشَرة. (وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أحمر، والعرب تسمي أبيض البشرة أحمر)
- جُثَّتُه عظيمة ضخمة، واسع المنكبين، ومع ذلك فهو قصير القامة، ورأسه كبير، وفي شكل رجليه تشوّه كأن فيما بين الساقين أو الفخذين تباعد. (أفحج)
- أعور العين اليمنى، تغطيها جلدة ثخينة. (كأنَّ عَينَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَة)
- مكتوب بين عينيه كفر أو كافر، وهذه الكلمة أخبرنا رسول الله ﷺ أنه يقدر على قراءتها كل مؤمن ولو كان أُميًّا.
- في ظهره انحناء (فيه دَفَأ)، ولحيته غير مكتملة من أعلاها ناحية أذنيه، ينحسر فيها الشعر إلى جبهته. (أجلى الجبهة)
- يُحسِن اللغة العربية. (كما في حديث الجسّاسة)
متى يكون ظهوره، وأين؟
إن الذي دلّت عليه النصوص بمجموعها أن ظهور الدجّال يكون في آخر الزمان وأن ظهوره علامةٌ على اقتراب قيام الساعة بحيث لا يكون بين ظهوره وطلوع الشمس من مغربها زمان طويل جدًا، وأما عن مكان ظهوره فظاهر النصوص أنه يظهر أول ما يظهر بـ(خُراسان)؛ لحديث أبي بكر رضي الله عنه المرفوع كما عند الترمذي، وليست (خُراسان) هذه المدينة المعروفة الآن وإنما المقصود بها الإقليم التاريخي الذي يضم أجزاءً من أكثر من دولة مثل إيران وتركمانستان وأوزبكستان، وأخص منها أنه سيخرج بـ(أصفهان) التي هي في إيران اليوم، حيث سيتبعُهُ منها سبعونَ ألفًا من يهودها عليهم الطيالسة كما ذكر رسول الله ﷺ والحديث عند مسلم من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، أو أنه سيظهر في خُلَّة بين الشام والعراق كما دلَّت نصوصٌ أخرى، والجمع بين هذه النصوص ممكن معقول، فقد يكونُ أولُ ظهوره في إيران ثم يسمع به الناس بعد أن يستفحل شرّه وقد وصل إلى ما بين الشام والعراق، ثم إنَّه لا يترك بلدًا أو مدينةً إلا ويدخلها سوى مكة والمدينة.
الدلائل على أن هذه الفتنة عظيمة جدًا
والأدلة التي تخبر بأن هذه الفتنة خطيرة؛ مستفيضة جدًا، فمنها أنَّه ما من نبي إلا وحذّر قومه من فتنة الدجّال، ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((ما من نبيٍّ إلا وأنذر قومَه الأعْوَرَ الدَّجَّالَ))، ومن الأدلة أيضًا أن رسول الله ﷺ كان يستعيذ في تشهُّد الصلاة الأخير من شر فتنة المسيح الدجّال وأمر بذلك كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((إذا فَرَغَ أحدُكُم من التشهُّدِ الآخِرِ فَليَستَعِذ باللَّهِ من أربعٍ يقولُ: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من عَذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنةِ المحيَا والمماتِ، ومن شَرِّ فتنة المسيحِ الدجَّال))، ومن الأدلّة على شدّة خطورة هذه الفتنة ما ذكره رسول الله ﷺ من التفاصيل التي تصحب مسيرة الدجال عند ظهوره إلى هلاكه، وفيها دواهٍ يشيب لها الولدان ويتزعزع منها ثباتُ ضعيف الإيمان ((وإنَّ من فتنتِه أن يقولَ للأعرابيِّ: أرأيتَ إن بَعَثتُ لك أباك وأمَّك أَتَشْهَدُ أني ربُّك؟ فيقولُ: نعم، فيتمثّلُ له شيطانانِ في صورةِ أبيه وأمِّه، فيقولانِ: يا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فإنه ربُّك، وإنَّ من فتنتِه أن يُسَلَّطَ على نفسٍ واحدةٍ فيَقْتُلُها، يَنْشُرُها بالمِنْشارِ حتى تُلْقَى شِقَّيْنِ، ثم يقولُ: انظُرُوا إلى عَبْدِي هذا، فإني أَبْعَثُه ثم يَزْعُمُ أنَّ له ربًّا غيري، فيبعثُه اللهُ، ويقولُ له الخبيثُ: مَن ربُّك؟ فيقولُ: رَبِّيَ اللهُ، وأنت عَدُوُّ اللهِ، أنت الدَّجَّالُ، واللهِ ما كنتُ قَطُّ أَشَدُّ بصيرةً بك مِنِّي اليومَ، وإنَّ من فتنتِه أن يأمرَ السماءَ أن تُمْطِرَ، فتُمْطِرُ، ويأمرَ الأرضَ أن تُنْبِتَ، فتُنْبِتُ، وإنِّ من فتنتِه أن يَمُرِّ بالحيِّ فيُكَذِّبونه فلا يَبْقَى لهم سائمةٌ إلا هَلَكَت، وإنَّ من فتنتِه أن يَمُرَّ بالحيِّ فيُصَدِّقونه فيأمرُ السماءَ أن تُمْطِرَ فتُمْطِرُ، ويأمرُ الأرضَ أن تُنْبِتَ فتُنْبِتُ حتى تَرُوحَ مَواشِيهِم من يومِهِم ذلك أَسْمَنَ ما كانت وأَعْظَمَه..)) والحديث بطوله أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي أُمامة الباهلي.
ويكفي في بيان خطر هذه الفتنة وبيان شرّها المستطير، أن الله تبارك وتعالى قد أبقى عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام إلى آخر الزمان ليكون هو الذي يقتله.
واجب المسلم إن أدرك الدجّال
وإن من الأصول التي دلّت عليها نصوص الشريعة الغرّاء أن المؤمن لا يطلب الفتنة ولا يتعرّض لها، بل يسلك سبُلَ السلامة ويطلبها ويرجوها من الله تعالى، وهذا المعنى قد اختصره نبينا صلوات ربي وسلامه عليه في الحديث الذي أخرجه البخاري رحمه الله من حديث عبد الله بن أبي أوفى: ((لا تَتَمَنَّوا لقاءَ العدوّ، وسَلُوا اللَّهَ العافِية، فإذا لَقِيتُمُوهُم فاصبِرُوا))، ولهذا فإن الأصل أن يستعيذَ الإنسانُ ويستجير بالله من الدجال وفتنته، وقد أخبرنا رسول الله ﷺ أن المؤمنين الذين يدركهم الدجالُ يهربون من فتنته ويلحقون بالجبال، ففي الحديث كما عند مسلم من رواية أم شريك رضي الله عنها: ((ليفرَّن الناس من الدجّال في الجبال))، فليس من منهجية المسلم التعرّض للفتن ولو غلب على ظنه أنه يثبت، لكن لو قدّر الله على أحدٍ أن تدركه الفتنةُ فإنه يستعين بالله تعالى ويصبر ويحتسب الأجر من الله ويُري الله تعالى من نفسه خيرًا، ولا يتعارض هذا المعنى مع ما ورد في الصحيح من أنَّ رجلًا يخرج في طلب الدجّال وأن الله يثبِّتُه عند لقائه ففي بعض طرق الرواية ((فيمنعه أصحابُه خشية أن يُفتتن به))، فجماعة المؤمنين وقتها ملتزمون بالأصل: والذي هو عدم التعرّض للفتنة ما استطاعوا لذلك سبيلًا، وقد علّمنا رسول الله ﷺ وِرْدًا من القرآن يقرؤه من أدرك الدجّال فإن الله تعالى يمنعه به إن شاء الله، ففي صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
((من حفظ عَشرَ آياتٍ مِن أوَّل سورة الكهف عُصِمَ من الدجَّال)).
كيف يُفتتن الناس بالدجّال وقد أخبرت الأحاديث عن صفته؟
وإن من الأمور التي قد تُشكِلُ على البعض، أن الأحاديث بمجملها تدلُّ على افتتان الأكثر الغالب من الناس بالدجّال عند ظهوره، وأن الذين يعصمهم الله تعالى بفضله وجوده هم الأقل، فيقول: كيف يكون ذلك وقد أخبرنا رسولُ الله ﷺ عن صِفَة الدجال، وعن مكان خروجه، وعن أفعاله وأقواله وتصرفاته، بل حتى لقد أخبرنا بالوِرْد من القرآن الذي يعصم الله تعالى به من الدجّال، أما أسهب النبي ﷺ في نعته وبيان وصفه؟! فقال ﷺ كما عند مسلم من حديث أنس بن مالك: ((الدجَّالُ مَمسُوحُ العَيْنِ مَكتوبٌ بينَ عَينَيهِ كافِرٌ)) فكيف بعد كلِّ هذا يضلُّ به كلُّ هؤلاء؟
وإنَّ هذا الإشكال سهلٌ يسير، فإنه ليس كلُّ من يعرف الدواء يأخذه!
وقد رأينا وللأسف كثيرًا من أمة النبي ﷺ من قد افتتن بما هو أهون من الدجّال، وزلَّ وضلَّ بما هو أيسر وأقل شرًا، فكيف وقد أخبر رسول الله ﷺ أن الدجال يخرج على قِلَّة من الإيمان وأهلِهِ وضَعْف من العلم، ففي مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((يخرجُ الدجَّالُ في خَفْقَةٍ من الدِّين، وإِدبَارٍ من العلم))، فإذا كان افتتان الناس اليوم بما هو أهون من الدجّال مع وفرة العلم والعلماء ووجود أهل الإيمان، فكيف إذا كانت الفتنةُ فتنةَ الدجّال وكان العلم قد اندثر وأهل الإيمان قلَّة! نسأل الله العافية.
هل الدجّال موجود الآن، أم أنه لم يخلق بعد؟
إنَّ الصحيح الذي لا مِريَة فيه أنَّ الدجّال حيٌّ يرزق، وأنه في جزيرة من البحر قد كُبِّلت يداه ورجلاه، فإذا أذن الله بخروجه انكسر قيده وخرج، ويشهد لهذا المعنى حديث فاطمة بنت قيس الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وهذا الحديث هو الذي اصطلح كثير من أهل العلم على تسميته بحديث (الجسّاسة)، وقد آثرتُ أن أنقله كاملاً مع طوله لما فيه من الغرائب، ففي الحديث أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت -وفي أول الحديث قصة -: ((فصلَّيت مع رسول الله ﷺ فكنتُ في صفِّ النساء التي تلي ظهور القوم، فلمّا قضى رسولُ الله ﷺ صلاتَه، جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: لِيلزَم كلُّ إنسانٍ مُصلَّاه، ثم قال: أتدرون لما جمعتكم؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداري، كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم، وحدَّثني حديثًا وافق الذي كنتُ أحدّثكم عن مسيح الدجال، حدثني؛ أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين رجلًا من لَخْم وجِذام، فلعب بهم الموجُ شهرًا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابَّةٌ أهْلَب كثير الشعر، لا يدرون ما قُبُله من دُبُره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلَك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدَّير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لمّا سمَّت لنا رجلًا فَرِقنا منها أن تكون شيطانة، قال فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدَّير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قَطُّ خَلْقًا وأشدَّه وِثاقًا، مجموعةٌ يَداه إلى عُنُقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قَدِرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرًا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلَقِيَتنا دابّة أهلب كثير الشعر، لا يُدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعًا وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل (بيسان)، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أَمَا إنّه يوشك ألا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة (الطبرية)، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إنَّ ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين (زغر)، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبيّ الأُميّين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرَّمتان عليّ كلتاهما، كلما أردتُ أن أدخل واحدةً، أو واحدًا منهما استقبلني مَلَك بيده السيف صَلْتًا يصدُّني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.
قالت: قال رسول الله ﷺ، وطعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة، -يعني المدينة- ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟
فقال الناس: نعم.
قال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قِبَل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق))
مَكْث الدجّال في الأرض وهلاكه
يمكث الدجَّال في الأرض أربعين يومًا يعيث فيها فسادًا وينشر فيها الفتن ويضلُّ فيها الخلق، ولا يترك مدينةً أو حاضرةً إلا ويدخلها سوى مكة والمدينة كما مرَّ معنا، وهذه الأربعون وإن كانت قليلةً في العدد إلا أنّها شديدة طويلة، فهي شديدة لما يحصل فيها من مصائبَ وفتنٍ عظيمة، وطويلةٌ لأن اليوم الأول منها يكون بطول سنة كاملة وثانيها بطول شهر وثالثها بطول أسبوع، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث النوّاس بن سمعان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال وقد سأله الصحابة عن مكث الدجّال في الأرض: ((أربعون يوماً، يومٌ كسنة ويومٌ كشهرٍ ويوم كأسبوع، وسائرُ أيّامه كأيامكم)),
فإذا اشتدت الكُربةُ على المؤمنين، وعمَّ البلاء وبلغت الفتنة قَدْرها الذي قدَّره الله في غيبه، أنزل الله تبارك وتعالى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام عند منارة بيضاء شرقيَّ مدينة دمشق، فيجهّز الجيش من المسلمين ويخرج في طلب الدجّال، فإذا سمع الدجّال بنزول ابن مريم عليه السلام فإنه يهرب منه إلى فلسطين، فيدركه عيسى عليه السلام عند مدينة اللُّد، فإذا أدركه ذاب الدجّال كما يذوب الملح في الماء، ويُريح الله تعالى منه البلاد والعباد، ويكشف الغمَّة عن المؤمنين، ففي صحيح مسلم من حديث النوّاس بن سمعان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مَهْرُودَتَيْن، واضعاً كفَّيه على أجنحة مَلَكين إذا طأطأ رأسَه قَطَر، وإذا رفعه تحدَّر منه جُمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحِلُّ لكافرٍ يجد ريحَ نفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفُه، فيطلُبُه حتى يدركَه بباب لُدٍّ فيقتله)).
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.