أمريكا التي رأيت بين تجربتي الأربعينيات والألفية الثانية

إنه لمثير للإعجاب ذلك التشخيص الدقيق والنظرة العميقة والدراسة المتأنية المتينة التي عرض بها سيد قطب خلاصة ملاحظاته وتحليلاته لواقع أمريكا وتفاصيله، والتي ستصادفنا بلا شك بين فصول صفحات كتاباته الثرية تحت عناوين مختلفة، أين نثر الرجل الذي مات شنقًا لتعيش كلماته خالدات وتساهم في انبعاث أمة تشقى، ترزأ تحت ركام الاستضعاف والهيمنة والانهزامية للغرب الكافر ولا زالت تنشد الخلاص.

نثر من عبق فهمه الرصين بحسب ما يقتضيه المقام والمقال مع كل ما يتعلق بـ “الظاهرة الأمريكية” و”الهيمنة الأمريكية”، ولأن الموضوع مصيري واحتل مساحة كبيرة من اهتمام سيد قطب كان قمينا بصاحب التنظير والتطبيق، أن يجمع كل هذا النتاج الفكري والعملي الضخم في سفر زاخر حمل عنوان “أمريكا التي رأيت” ، لكنه الكتاب الذي لم يكتب له الله أن يرى النور ولم يصل لأسماعنا ولا أبصارنا بعد أن طوي في رفوف  التغييب ما يعد خسارة حقيقية.

اقرأ أيضًا: أمريكا بعيون قطبية

بين الفكرين

ثم بالنظر لمنهجية العرض وأسس البناء التي يتناول في كل مرة فيها سيد قطب الحديث عن أمريكا، تجعل من مقالاته وأفكاره الرائدة تراثًا فكريًا غنيًا بالحقائق التي يجدر بنا تأملها والاستفادة منها؛ لفهم واقعنا اليوم وإدراك البون الشاسع بين فكر يمجد ما يصفه بعضهم بـ “فردوس العصر” أمريكا ويستعظمها كقوة لا تقهر في الأرض.

وفكر يبصرها بنظارة الحقيقة كـ”هبل العصر” أو الإمبراطورية الكافرة التي تقوم على الغرور والكبر والصلف والعنجهية والغطرسة مصيرها لا يتعدى مصير كل دول الكفر على طول محور التاريخ ، إنه ذات مصير “الأفول والاندثار” كما نظّر لذلك ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

اقرأ أيضًا: أمريكا دولة الوهم

متانة البناء

ولكن ما شد انتباهي بحق في دراسة سيد قطب ليس تلك الدرجة من الصحة التي اتسمت بها خلاصاته، ودقة موائمتها لواقع أمريكا في نهاية الأربعينيات حينما كتب أفكاره؛ التي تبلورت من معايشته الحيّة للواقع الأمريكي على امتداد سنتين فقط من إقامته في أمريكا، ولكن بالأحرى درجة موائم خلاصاته لواقع أمريكا اليوم ونحن في الألفية الثانية، وصلاحية وصفه لهذا الواقع بعد كل هذه السنين التي مرت.

ما يؤكد بأن دراسة سيد أضحت بمثابة القاعدة السليمة وبنية المفاهيم القويمة التي يمكن لأي باحث أو مفكر أن يستند إليها إذا ما أراد أن يتعرف على الأمة الأمريكية ما وراء الأطلسي وإذا ما كان يريد فهم طبيعة الصراع الغربي الإسلامي ومآلته تحت وطأة هيمنة “أمريكية” ليست عسكرية ومادية فحسب بل أيضا فكرية وسياسية.

ثمرات المعايشة الحيّة

المفاهيم لا تترسخ في قراراتنا بمجرد القراءة أو المذاكرة كما تترسخ بالمشاهدة الحية والمعايشة العميقة، ولأن التجارب تصقل الإنسان وتحفر فيه القناعات التي لا تتزعزع إلا بضربات الحقيقة التي تثبت غير ذلك أو على الأقل تدفعه لتغيير بعض نتائجه التي وصل إليها، مع طول الملازمة، فإن معايشتي للواقع الأمريكي كطالبة جامعية ومقيمة لسنوات طويلة في أرض الهنود الحمر -السكان الأصليين-.

أولئك الذين أبيدوا بأبشع ما يكون على أيدي الرجال البيض النصارى المهاجرين من أوروبا إلى الأرض المكتشفة أمريكا، كل هذا وأكثر يؤزني أزا لأن ألخص دراستي الشخصية لواقع مستعر بالحقائق الصادمة والشهادات المؤثرة التي عايشتها بنفسي وحللتها تحت ضوء أنوار شريعتنا الإسلامية الغراء وخلصت إلى أنها تنبض بنفس نبض سيد قطب، وتبصر بنفس نظارته للحقيقة.

غياب ذلك الكتاب

ولأن تراث سيد قطب الفكري في هذا الباب غيّب حين غاب كتابه “أمريكا التي رأيت” كان تتبع بقايا ميراثه في ثنايا المجلات القديمة وعلى رفوف المكتبات الكئيبة، يعد مهمة شاقة لكثير من المسلمين -فضلًا عن الباحثين-، في وقت تزداد الحاجة إليه لاتساع الشريحة المفتتنة بأمريكا وحضارتها وقوتها مع جهل كبير -في ذات الوقت- بنقاط ضعفها وفسادها وتناقضاتها.

وخاصة وقد ترسخت عادات جاهلية في مجتمعاتنا على طول خط الانحراف؛ الذي ضرب بنيان هذه الأمة وامتد منذ العصر الأموي مرورًا بسقوط الدولة العثمانية، واندثار مشروع الخلافة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى.

ثم اشتداد أدوار الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا الذي أصبح فيه اسم دولة “إسرائيل” في أرض الإسراء والمعراج لا يعني شيئًا عظيمًا، بل يدفع بالتسابق المحموم لتحقيق التطبيع مع اليهود المذموم من حكومات زعمت يوما ما المقاطعة لكل ما يتصل بالصهيونية، وكذا تمدد الأذرع الأمريكية كالأخطبوط لكل زاوية في عالمنا الإسلامي وكل ما هو إسلامي، فقد أضحينا نشاهد المنبهرين بثقافة أمريكا يتقلدون أوسمة الاحترام والتقدير ويضطهد كل من يحتقر أمريكا  أو يوصم بالجهل والتخلف والرجعية وربما الإرهاب!

 تصحيح موازين القياس

 

وللأسف فإن الميزان الذي نزن به القيمة الحقيقية لأية حضارة -في عصرنا الحالي- لم يتعد الميزان المادي البحت وتحت تأثير سلطة الثقافة الغالبة، مما يجعل من الجانب الإنساني، مجرد طيف يتراءى عند الصدمات النفسية التي تظهر بين الحين والآخر لتكشف لنا حقيقة بشاعة الحضارة الأمريكية وثقافتها المهترئة.

ذلك أن الجانب المادي هو في حقيقته وسيلة لتحقيق القيم التي نؤمن بها كبشر، فكلما ارتقت قيمنا الروحية كلما كان تسخير الجانب المادي لصالح البشرية وكلما كان العكس أصبح ذلك التسخير لتدمير البشرية.

فالقيمة هي الغاية وليس الوسيلة، لهذا بدل أن نفتتن بقدرات أمريكا المادية ومخترعاتها التقنية وأسلحة دمارها الشامل، دعونا ننظر في غاياتها ومنطلقاتها، كي نستطيع أن نقيم بالفعل حضارة أمريكا الحقيقية.

لنلق نظرة لحجم الدمار الذي صنعته أمريكا في الأرض، لعدد الأبرياء الذين سحقتهم بأسلحتها المدمرة لحجم الاستنزاف لخيرات ومقدرات الشعوب بغير وجه حق. فوظفت قواها المادية والتقنية والعلمية لهدر كرامة الإنسان على العكس التام من حضارة الإسلام الماجدة التي تعد الحضارة الوحيدة التي عرف معها البشر الرقي على أعلى سلم في مستويات العطاء والنبل والعدل.

اقرأ أيضًا: ماذا قدمتم أيها المسلمون لتكونوا الأجدر لحكم العالم والاستخلاف في الأرض؟

ثم دعونا نطوي هذه التفاسير العقلية والحجج المنطقية، وللننظر في الوحي القرآني كيف يلخص لنا بشكل عجيب حقيقة أمريكا، ولسنا بحاجة لسرد كل الآيات التي تتناول هذا التشخيص العميق لحال دولة عظمى كافرة مهيمنة في عصرنا الحالي بل تكفي آية واحدة لتقدم لنا الجواب الوافي على سر قوة أمريكا؛ التي ينبهر بها قومنا، والتي تنذر بالنهايات البائسة والتعيسة -بلا شك- حين قال -تعالى- في كتابه العزيز:( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)[1]

الفرق في قراءاتنا للواقع

هنا يتجلى الفرق بين قراءة الواقع بخلفية مدركة واعية بالسنن الإلهية، تسندها نصوص الوحي، وخلاصات العلماء، والتجارب التاريخية، وخلفية غارقة في سلطة الثقافة الغالبة، لا تقوى على الخروج من مستنقعها؛ لشدة انغماسها فيه.

ويصف هذه الحالة ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرون من مقدمته حينما يقول: أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب: في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب.

فإذا غالطت بذلك، واتصل لها اعتقادًا. فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به… حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغالب عليها: فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير”[2]

وهذا بلا شك يقدم لنا جزءًا من تشخيص مرير لحال أبناء الأمة المسلمة اليوم في ظل صراع بات يطحن كل ما يتعلق بالقيم الإنسانية والأخلاقية والأدبية بلا رحمة ولا هوادة وبسرعة تدعو للترقب والوجل.

ولو أن هؤلاء المنبهرين بثقافة الأمريكيين تعمقوا في الجانب الكالح لهذه الثقافة بالنظر في إحصائيات جرائم القتل والتحرش وتجارة المخدرات والفاحشة والفساد الذي ضرب بجميع الأسس الاجتماعية والاقتصادية، تثبته تلك التقارير التي تعرض النسب الصارخة لتصاعد كل المنحنيات التي تعكس درجة انهيار المنظومة الأخلاقية في الأمة الواحدة، لأدركوا أن القيمة الحقيقية لأي أمة من الأمم هي في مبادئها وممارستها الأخلاقية لا مخرجاتها المادية فقط.

أهمية الطرح

وما يجعل هذا الطرح على درجة من الأهمية هو تنامي المد العلماني في بلاد المسلمين، وتبني جانب كبير من العلمانيين العرب كما الأعاجم الآن نفس التوجهات الأمريكية بالنسبة للإسلام والعالم الإسلامي، ومحاولة، بل السعي الجاد لفرضها على الشعوب المسلمة بالتدرج الماكر تارة وبالصدمات اللئيمة تارة أخرى.

والنتيجة حركة تغريب قوية يخضع لها العالم الإسلامي هي الهدف الثاني الأكثر أهمية بعد النجاح في إسقاط مشروع الخلافة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى.

وفي الواقع لا يتعلق الأمر كثيرا بما تقتضيه الموضوعية الفكرية أو انعكاسات التطوير الفكري للآراء والمذاهب الفلسفية؛ لكي تتواءم مع متطلبات حركة التغريب ومتغيرات الواقع الحديث، إنما الأمر يتعلق بشكل أدق بقوم رأوا في الانتماء للعلمانية والديمقراطية السبيل الوحيد لتحقيق ذواتهم  وأهدافهم الدنيوية.

فلا نعجب للسرعة التي كسب فيها هؤلاء الشهرة والصيت الواسع وحازوا على أعلى المناصب في أجهزة الثقافة والإعلام والتعليم وغيرها من ميادين مرتبطة ارتباطا وثيقا بمركبات هذه الأمة، يدعون للحرية والتحرر من الروابط الدينية وفصل الدين عن الدولة وأيضا محاربة الحركة الإسلامية بحجة التطرف والإرهاب في حين تنغمس أقدامهم في مستنقعات الانبهار بثقافة الغرب والتبعية والانهزامية وإن تظاهروا بغير ذلك. 

تيار الصحوة الإسلامية

وقد واجه هذا التيار تيارًا آخرًا أكثر دراية بمكونات هذه الأمة وبمقوماتها، يدفع باتجاه تحقيق صحوة إسلامية جديدة، لا شك أن سبيلها الوحيد لإحراز النصر هو السبيل الذي يحصل فيه  الصدام بين الرؤية الإسلامية للوجود التي تضع بعين الاعتبار تلبية الحاجات الإنسانية الدنيوية المادية والروحية بالنظر إلى تحقيقها بهدف الفوز في الآخرة، وبين الرؤية المادية البراجماتية الغربية عموما والأمريكية خصوصا.

تلك الرؤية التي تنبني  على الأسس المادية البحتة والمصلحة الشخصية والمنفعة واللذة واللهث خلف الشهوات والعاجزة تماما عن الإجابة عن الأسئلة المصيرية للوجود وهنا تبرز نقطة الفارق الكبير بين المسلمين والغرب الكافر، وتكشف درجة الضعف الذي تعاني منه المجتمعات الغربية من تأخر وتخلف على مستوى الروح!.

ورغم ذلك فإن هذا الاستقطاب الغربي المادي والشهواني قد جذب شريحة كبيرة من أبناء الأمة بعد عقود طويلة من الضخ والحقن والتخدير والتضليل والتمييع، وكل وسيلة مباشرة وغير مباشرة هدفها في الأخير التغريب الحقيقي لأبناء الأمة المحمدية.

ولأن السنن قد خطت لنا مصير هذه الحقائق فإن هؤلاء العلمانيون والديمقراطيون سيكنون العداء الألدّ للفكرة الإسلامية ولمن يحملون مهمة الدعوة إليها والجهاد ما يدفعنا بشدة لضرورة دراسة الظاهرة الأمريكية وفهمها بكل تفاصيلها ثم ضخ هذه المفاهيم لأبناء الأمة الإسلامية كي نواجه مد التغريب بمد دعوة أصيل لا يهزم.

سنن تتحقق ومسلك النجاة ينفتح

ثم بالنظر في خط تطور حركة العلمانية في عالمنا الإسلامي والتي أصبحت أداة التغريب الأولى التي تتسلل تدريجيا لتحدث التغيير المنشود من الغرب، فإن النتائج اللا مناص منها هي أن دعاة هذا التقارب بين الإسلام والعلمانية سينضمون في نهاية المطاف إلى معسكر الغرب بقيادة أمريكا.

ولأجل تحقيق هذا الانسلاخ التام كان لابد من حرب على الإرهاب وحرب على المناهج الدينية والتيارات الدعوية ومؤخرا بتنا نراه تدخلا سافرا حتى في التقاليد الإسلامية والتراث الاجتماعي.

إن ما يدعونا لتعميق النظر في أسباب هذه الهزيمة النفسية للثقافة والقوة الأمريكية؛ هو أننا بتنا نشاهد نتائج الجهود لكل دعاة هذا التيار، والتي باتت تهدد مركز الأمة الإسلامية في بلاد الحرمين.

وبات جليا أن في كل عصر لدينا رفاعة طهطاوي جديد وجمال الدين الأفغاني جديد، وظيفتهم تأويل المعطيات الشرعية لتوافق الغايات الأمريكية عبر آلية حقن اللفظ التراثي بالمضمون الغربي تمهيدا لتبيئته كما فصل ذلك تفصيلا لائقا الشيخ إبراهيم السكران في كتابه سلطة الثقافة الغالبة.

وللأسف فقد نجح هؤلاء الدعاة في زرع مركب النقص في أبناء الأمة الإسلامية حتى لا يقوم لهذه الأمة قائمة ولا تشهد يومًا نهضة حسبما شخص مالك بن نبي بدقة.

وتستمر في الكمون تحت قمع الحكام المستبدين والمجرمين تساس كما تساس الأنعام، في حين نحن مطالبين بالعودة إلى مثاليات الإسلام الأولى التي قام عليها ذلك الجيل المتفرد من الصحابة، والذي تميز بخصائص حققت الوجود الإسلامي في العالم ليس بانبهارها بالإمبراطوريات الكافرة المجاورة والمهيمنة آنذاك، بل باستنادها على مفاهيم راسخة من القرآن والسنة.

من صدق الإيمان والجدية في أخذ هذا الكتاب بقوة، من صدق الجهاد في سبيل الله وتحقيق معنى الأمة الواحدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،  من سعي لإقامة العدل لله لا في سبيل حظوظ نفس أو استبداد أو قمع، من تقديم تلك الصورة الفاخرة لأخلاقيات الموحدين التي تعكس روعة الأثر والسلوك الذي حفره الإسلام في النفوس المؤمنة، ثم ذلك الحفظ للغزل الذي لا يكون إلا بحفظ البيعة لله وللرسول وحفظ الأمانات وحفظ للعهد.

الهدف الأهم

إننا اليوم بحاجة لأن ننتشل هذه الأمة من الحضيض لنصعد بها من جديد إلى القمة الشامخة بقوة مذهلة تماما كما أذهلتنا قوة السقوط التي عرفتها هذه الأمة منذ انقادت للهيمنة الغربية على رأسها الأمريكية.

إننا بحاجة لوضع حد نهائي لذلك التفلت البشري من التكاليف الذي امتد على طول الزمان، وتسخير جميع القوى لإعادة ترسيخ المفاهيم السليمة لهذا الدين، بالحجم المطلوب كمًا وكيفًا.

والذي لن يؤت أكله إلا بعودة كاملة لدين الله العظيم، حين تقفز النفوس من هامش النسيان إلى قلب الحركة والأحداث تستشرف الخير والبر… تنتقل بكُليتها… قلبًا وقالبًا… من حمأة الجاهلية إلى قمة الإسلام وذروته… حينها يشع كوكب اسمها في فضاء الصادقين ولا نسأل بعدها عن بركات الفتح المبين؛ لأنها ستكون مبهرة!

التخلف العقدي وتأثيره على أمتنا

وإني على ثقة تامة أننا سننجُ من هذا الكيد والمكر الكبار؛ ذلك أننا شاهدنا النماذج الراقية في عصرنا الحديث الأقرب لذلك الجيل المتفرد في العطاء والتفاني في خدمة الدين.

ولأن نخبة من أبناء هذه الأمة قد نجحوا في تشخيص حال الأمة وحددوا مضرب الألم، ألا وهو التخلف العقدي الذي ترزأ تحته أمتنا الإسلامية، والذي هو الأصل وراء كل تخلف علمي وثقافي وحضاري واقتصادي وعسكري وفكري، نخر في أركان هذه الأمة منذ عقود فأنى لها أن تعود قبل أن نعالج هذا النقص. والتشخيص السليم هو أساس العلاج الناجع.

ولن يكتمل هذا العمل إلا إذا وازته قوة تدفع الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على كل المستويات الفكرية والاقتصادية والعسكرية، وقوة أخرى تسد الثغرات وتعوض الخسارات التي أحدثها الغزو الفكري الأمريكي الغربي وتستدرك ما يمكن تداركه من خلل ونقص؛ بسبب تداعيات هذا الغزو لعقود من الزمن. فهي بحق مرحلة المقاومة والجهاد، مرحلة البناء والاستدراك مرحلة وحدة الصف والهدف.

وحينما يكون الحادي هو المنهج القائم على مبدأ التوحيد الخالص لله والذي يستقي أنواره من الكتاب والسنة فإننا نتحدث عن تحقيق عبقرية الإسلام المذهلة بشكل هو الأقرب لمرحلة صدر الإسلام الأول.

ذلك أن معطيات عصرنا اليوم هي الأشبه بمعطيات ذلك العصر حينما دخل نور الإسلام على قريش وهم في ذروة الجاهلية فأنتجت لنا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مع عشرات الصحابة من حوله، دولة إسلامية عظمى امتد ثراها إلى الصين وروسيا والأندلس وأدغال إفريقيا بعد أن كانت مركزا صغيرا لا يكاد يذكر في المدينة المنورة.

وتحقيق هذه العبقرية التي يحملها الإسلام، سيكون الحل الجذري لمشاكلنا ونوازلنا وكوارثنا، ثم الهدية الأروع ليس فقط لأمة محمد بل للبشرية جمعاء؛ ذلك أن حضارة الإسلام هي الوحيدة التي حفظت هذا العالم من الطغيان والظلم ورسخت فيه مفاهيم العدل والازدهار بحق على كل المستويات الفكرية والمادية والروحية.

وهو ما فشل في تحقيقه الغرب بقيادة أمريكا بل على العكس حقق الدمار لكل ما يتصل بالحضارة حين أمعن في كفره.

أمريكا التي رأيت

ولأن وعد الله ماض وسننه تتكرر لا تحابي أحدا، سنسافر معا في هذه الرحلة التي أدون فيها أهم ما عايشته في بلاد الصلف والكبر والغرور “أمريكا”  لعلنا نمزق ذلك القناع الذي خدع الكثير من المسلمين المنبهرين بهذه الدولة المحاربة، وشغلهم عن حقيقة بشاعتها، ونستفيد من حقائق واقعنا لنوظفها توظيفا سليما يرتقي لمستوى الحدث الذي ينتظرنا ألا وهو عودة الخلافة الإسلامية على منهج النبوة كما وعدنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ولا أخال هذه المرحلة ستكون إلا مع سقوط القوة الأمريكية “العظمى ماديا” لتحل محلها قوة الحق والعدل والإسلام الأعظم “روحيا” ليحق الله الحق بكلماته، وهو ما أرى أماراته تتلألأ في الأفق القريب بإذن رب غالب، فمن يجرأ على تحدي قدر الله!.


المصادر:

[1]  سورة الأنعام الآية 44

[2] ابن خلدون ، المقدمة ، تحقيق عبد الله الدويش – دار يعرب – دمشق، الطبعة الأولى 1425 هـ (1/283).=+

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى