صيحة نذير: حلب والموصل والطريق إلى يالطا!
حروب طاحنة قد يشهدها العالم في الشهور أو السنين القادمة، مسرحها العالم الإسلامي، وفي القلب منه، أو انطلاقا منه، العالم العربي. هذا ما يمكن أن يحدث إذا سقطت مدينة الموصل العراقية بيد إيران ومليشياتها وكافة قوى الرفض في العالم. أما سقوط مدينة حلب فهو البداية التي تنذر بأوخم العواقب. فالمدينتان، تشكلان حجر الزاوية في صياغة النظام العالمي الجديد، ويكتنفهما ذات المصير الذي سبق وأن تجرعته فلسطين وأهلها في أوائل القرن العشرين المنصرم. فكما أدى زرع اليهودية فيها إلى تهجير ديمغرافي وإحلال يهودي معاد للأمة والدين؛ كذلك الأمر ما يجري بالنسبة لحلب والموصل. فالمدينتان مرشحتان لاستبدال ديمغرافي عقدي بآخر رافضي. وإذا حدث هذا الأمر فلا مجال للحديث عن مدينتين مسلمتين سنيتين إلا في التاريخ وبقايا الذكريات. فما الذي يجري؟
روسيا والجولة الثانية من عصر الهيمنة
في 24 من شهر نوفمبر سنة 2016 شهدت الجمعية الجغرافية الروسية حفلا لتوزيع الجوائز على الطلبة المتفوقين، بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعدد من أفراد حكومته ووزير دفاعه، سيرغي شويغو. كان من الممكن أن يمر الحفل كغيره لولا أنه شهد تصريحًا لبوتين لم يسبقه إليه أحد من زعماء النظام الدولي. أما وقائع الحدث فتقول أن الرئيس الروسي وجه سؤالا للفتى المتفوق ميروسلاف أوسكيركو (تسع سنوات)، الذي قال بأنه يعرف حدود كل دولة في العالم،: « أين تنتهي حدود روسيا؟» فرد الفتى: « عند مضيق بيرينغ مع الولايات المتحدة». أما بوتين فصحح الإجابة قائلا: «حدود روسيا لا تنتهي في أي مكان»، إلا أنه أتبع الإجابة بعبارة: « أنا أمزح». فهل كان بوتين يمزح فعلا!؟ الجواب: لا أبدا. لم يكن يمزح بقدر ما كان يقصد كل كلمة بل وكل حرف قاله.
والحقيقة أن العبارة كان من الممكن أن تصدر عن أي من زعماء الدول الكبرى، ابتداء من أعضاء مجلس الأمن الدولي، مرورا بألمانيا وانتهاء بالصين واليابان. فبعد الحرب العالمية الثانية، شاع في أوساط علماء السياسة والاجتماع، عبارة «الدولة العالم» التي يصل نفوذها وهيمنتها إلى حيث تمتد مصالحها. لكن حين يتعلق الأمر بروسيا فالمسألة تبقى ذات مضامين مرعبة، خاصة وأنها دولة توسعية متوحشة. ولعل تعليق ديمتري كاساتكين على كلام بوتين، والذي نقلته وكالة « إنتر فاكس» الروسية عن حسابه في موقع « تويتر » هو أبلغ ما يمكن الاستدلال به. إذ كتب يقول: « هل نتحدث عن الثقافة هنا أم عن أس-400؟!»، تساؤل؛ يعلم بموجبه يقينا أن روسيا لم تتوسع تاريخيا على أية أسس ثقافية بقدر ما كان توسعها الدائم يقوم على القوة العسكرية المجردة من أية منظومة أخلاقية أو قيمية أو إنسانية. ومن ينظر إلى خريطة روسيا على الكرة الأرضية سيجدها ابتلعت قرابة ثلث مساحتها في القسم الشمالي، وإذا أمعنا النظر في تكوينها الاجتماعي فسنقع على نحو 160 عرقية غير الروس الذين يشكلون حوالي 80% من إجمالي السكان.
بعد بضعة أيام من تصريح بوتين، وفي 1/12/2016، وقع الرئيس الروسي مرسوما جمهوريا حدد بموجبه العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي جاء فيها أن: «المنافسة من أجل الهيمنة على العالم واستخدام القوة أصبح التوجه الأساسي للمرحلة الراهنة من التطور العالمي»، وأن روسيا: « ستعمل على توسيع وجودها في القارة القطبية الجنوبية». هكذا تبدو حدود روسيا مفتوحة على مصراعيها لتصل حتى القارة القطبية الجنوبية، وباستخدام القوة العسكرية بعيدًا عن أية معايير أخلاقية أو قواعد قانونية، أو حتى نظام دولي لم يعد موجودا إلا شكلا بلا أثر أو بلا بديل كما تشير العقيدة إياها: « عدم وجود بديل للأمم المتحدة كمركز لتنظيم العلاقات الدولية وتنسيق السياسة».
هذه هي إذن العقيدة السياسية التي ابتُلعت بموجبها سوريا حتى غدت كما لو أنها ملك يمينها، تتصرف فيها وبسكانها كيفما تشاء، وكأنها جزء من المقاطعات الروسية. ففي 7/10/2016 صادق مجلس الدوما الروسي بالإجماع على اتفاقية مع النظام السوري تسمح بـ « وجود عسكري روسي دائم في سوريا» ..
- وجود لا يختلف قط عن الاغتصاب والضم بلا أية حسابات لحقوق أو أجيال أو أمد زمني قابل، مثلا، للتجديد أو إعادة النظر بما تفرضه تغيرات الزمن، أو حتى شروط تعجيزية؛
- وجود جرد السوريين من أي حق في الاعتراض أو التعديل أو التفاوض، في أي يوم من الأيام وتحت أي ظرف من الظروف؛
- بل وجود لم يستبعد بموجبه ليونيد سلوتسكي، رئيس لجنة مجلس الدوما للعلاقات الدولية، أن يقول صراحة بأنه: « لا يستبعد أن تعقد لجنة العلاقات الدولية في الدوما جلسة في الأراضي السورية خلال الأشهر القادمة»! كما لو أن رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست اليهودي مثلا يصرح بأنه لا يستبعد أن تعقد اللجنة اجتماعها القادم في مكة!!!
- وجود سمح لنائب وزير الدفاع الروسي، نيكولاي بانكوف، أن يصرح بكون: « الاتفاق بين روسيا وسوريا بشأن قاعدة حميميم الجوية تنص على منح العسكريين الروس في القاعدة الجوية وأفراد عائلاتهم حصانة دبلوماسية مع امتيازاتها».
- وجود يتحدث في 10/10/2016 عن نية أخرى لوزارة الدفاع الروسية تعمل على تحويل قاعدة طرطوس البحرية إلى قاعدة عسكرية روسية دائمة. فبحسب نيكولاي بانكوف فقد: « تم إعداد وثائق بهذا الشأن لتتم المصادقة عليها في البرلمان الروسي». وأنه في 21/11/2016، وبحسب فيكتور أوزيروف، رئيس لجنة مجلس الاتحاد لشؤون الدفاع والأمن بالبرلمان الروسي، فإن: « العد التنازلي لتحديث القاعدة سيبدأ فقط بعد توقيع الاتفاقية بشأنها والمصادقة عليها، وأن مدة الاتفاقية ستكون على الأغلب 49 عاما، وأن القاعدة ستكون قادرة على تقديم خدمات الدعم للسفن الحربية واستقبال حاملات طائرات وغواصات نووية».
حقيقة الأمر وخطورته؛ أن روسيا لا تتوسع فقط بل وتحقق أحلاما لا سابق لها في الوصول إلى المياه الدافئة، التي لطالما تطلعت إليها لتحرير أساطيلها البحرية من الجليد الذي يشل حركتها كلما حل فصل الشتاء، بل ويعيق حتى طموحها في تطوير قوتها البحرية التي ظلت أسيرة لسلاح الغواصات، الوحيد القادر على الإبحار .. الإبحار الإجباري الذي لا يغادر أعماق المياه. لذا فالسيطرة على سوريا وفرض ما تشاء من الاتفاقيات وتصميم مدن عسكرية صناعية بالغة التطور ليس مجرد علاقات ثنائية بقدر ما هو توسع خطر في المنطقة برمتها وحتى في العالم.
بهذه العقيدة التوسعية أعلنت روسيا عن تدخلها في سوريا، رغم أنها هي المعنية بمراقبتها تاريخيا في إطار النظام الدولي، باعتبارها مربطا دوليا من مسؤوليات الكتلة الشرقية للمناطق المتوترة. لذا فمن الطبيعي أن يكون التدخل للقضاء على الثورة السورية باعتبارها المهدد لبقاء النظام الدولي، فضلا عن أنها المعيق الأكبر لسياسات روسيا وخططها وامتيازاتها. وكان واضحا أن التركيز العسكري الروسي انصب على ما يسمى بالقوى المعتدلة في الثورة أكثر مما تعرض للقوى الجهادية لا سيما « الدولة الإسلامية» التي لا يختلف أحد منهم على محاربتها في النهاية. ولا شك أن استهداف هذه القوى يحول دون تهديدها للنظام القائم من جهة، ويستأصل، من جهة ثانية، فرصة أن تكون بديلا مقبولا للقوى الدولية والإقليمية، وفي نفس الوقت يسمح بتمرير مشروع التوسع والهيمنة الروسية الدائمة.
بهذه العقيدة أيضا لن يكون ثمة خلاف كبير بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على النفوذ خاصة إذا ما كان العالم الإسلامي هو الهدف الأعظم لجميع القوى. وفي هذا السياق بالضبط يجري تأهيل «المربط الصفوي» بشروط، باعتباره (1)الضمانة الأطول المدى، و (2) والأجدى فاعلية في اختراق العالم الإسلامي وتهديده من الداخل. وعليه فمن الطبيعي أن تكون مدينة حلب الواقعة على ذات خط العرض لمدينة الموصل هدفا استراتيجيا، ليس لإيران أو روسيا فحسب، بل لكل النظام الدولي. وقد استطاع الروس من جهة والنظام الدولي من جهة ثانية، وكذا الدول الداعمة، التلاعب في عشرات الجماعات المسلحة في حلب تمامًا كما جرى التلاعب في جماعات منطقة حوران في الجنوب. وينطبق هذا بالدرجة الأساس على أمراء وقادة ومشايخ ومنظرين ومفكرين وبلهاء، اتسموا بعمى البصر والبصيرة والحقد والتبعية، حين ظنوا، ولما يزالوا، أن المشكلة في «جبهة النصرة» في حين أن المستهدف هو كل الثورة السورية والمنطقة برمتها. وفي محصلة فتاواهم وقراءاتهم العبثية والعقيمة غدت الحدود الأمنية لـ « الدولة اليهودية» تصل إلى تخوم دمشق، مثلما غدت حلب هدفا لا مفر من إسقاطه وتأهيله ليكون ممرا لمشروع الإمبراطورية الفارسية. أما مربط الفرس الفعلي فهو مدينة الموصل بالذات.
إيران والحلقة الأخيرة في الامبراطورية الفارسية
أكثر من 60 دولة في العالم تحشد قواتها ومستشاريها واستخباراتها، وتسخر طاقاتها التكنولوجية، وأدواتها المحلية والإقليمية، وسط عشرات الآلاف من عناصر المليشيات الرافضية والقوى العراقية والكردية وبعض سقط العشائر السنية، للسيطرة على الموصل، ومنها باتجاه حلب، وعبرها إلى المتوسط، بما يسمح لها باكتمال النفوذ التاريخي لفارس الإخمينية أو الساسانية. هذا هو ملخص معركة الموصل. ولذلك انعقدت عشرات اللقاءات بين القوى العراقية والقوى الدولية والمليشيات الرافضية لتحديد مهمة كل طرف قبل الإعلان عن ساعة الصفر.
إذ أن طموح إيران يصل إلى حد الإعلان عن سعيها للهيمنة التامة على العالم الإسلامي. وأن التحضير لهذا الأمر يجري على قدم وساق. ففي 28/11/2016، وبلغة الجنرال رحيم صفوي، المستشار العسكري لمرشد الجمهورية، علي خامنئي،: فإن «القرن الحالي سيشهد تشكل حكومة إسلامية عالمية ستكون إيران مركزا لها، بعد التراجع الأميركي الكبير في الساحتين السياسية والعسكرية». ولأن مثل هذا الأمر سيعني مواجهة حتمية مع إيران؛ ومن أجل حل هذه المشكلة المحتملة، فلم يجد حسين أمير عبد اللهيان، مستشار رئيس البرلمان الإيراني للشؤون الدولية، حرجًا من القول بأن: « إيران ستواصل إرسال مستشاريها العسكريين إلى كل من سوريا والعراق»، ليس هذا فحسب؛ بل: « وإلى كل من يريد محاربة الإرهاب في المنطقة». وهو يقصد بمثل هذا التصريح محاربة كل من يعترض المشروع الإيراني، خاصة وأن نماذج «الحشد الشعبي» كـ « ثروة ورأس مال» بحسب وصف خامنئي لها، صارت مؤهلة، وتنتشر في البلدان الإسلامية كالنار في الهشيم، بدء من الخليج وليس انتهاء بنيجيريا.
لكن حتى هذه اللحظة ما زال المشروع الإيراني يواجه عقبات استراتيجية في التوسع. فحتى تصل إيران إلى البحر المتوسط، ومنه إلى شمال أفريقيا غربا، عليها العبور أولا من الخليج العربي باتجاه المحيط الهادي جنوبا، وعبر باب المندب والبحر الأحمر. وهي مسافة طويلة تعيق قدرتها على التدخل فيما لو أرادت التمدد باتجاه شمال أفريقيا. من هنا تأتي أهمية معركة الموصل وحلب.
ولعل التقرير الذي نشرته صحيفة « الغارديان – 9/10/2016» البريطانية، كان الأكثر وضوحا وتفصيلا عن المشروع الإيراني في العراق وسوريا. تقرير حددت فيه الصحيفة خط سير العبور إلى المتوسط على النحو التالي:
- ففي العراق، وبعيدا عن العاصمة بغداد بنحو 60كم، سيمر خط العبور عبر مدينة بعقوبة، مركز مدينة ديالى، ومنها باتجاه الشمال الغربي إلى الشرقاط في مدينة صلاح الدين، ثم تلعفر وسنجار.
- وفي سوريا، وانطلاقا من معبر ربيعة، بين العراق وسوريا، سيمر الخط بجوار القامشلي وعين العرب (كوباني) ثم عفرين، باتجاه مدينة حلب، ثم مدينة اللاذقية على ساحل المتوسط.
ومن باب التذكير؛ فإن هذه المناطق شهدت معارك طاحنة استهدفت بالدرجة الأساس، ولما تزل، الديمغرافية العربية السنية، سواء من قبل التحالف الدولي بقيادة أمريكا أو من قبل روسيا والنظام والأحزاب الكردية في سوريا، أو من قبل قوى الرفض والجيش ومليشيات « الحشد الشعبي» في العراق. بل أن مجلة « فورين بوليسي-30/3/2015» الأمريكية، وفي معرض تعليقها على تدخل « الحشد الشعبي» في معركة تكريت، وثناء الأمريكيين عليه، كانت أول من أشار في تقرير لها إلى أن: «أميركا توفر غطاء جويا لتطهير عرقي في العراق». وفي ذات التقرير ختمت تقول: « سواء تم التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران أم لا فإن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن معظم العراق يبدو على المدى الطويل “ولاية فارسية” تابعة لرجال الدين الإيرانيين، وأن هذا الأمر سيقود إلى المزيد من العنف الطائفي والحرب الأهلية». فهل نجحت إيران أم فشلت؟
بحسب تقرير « الغارديان»، فإن: « إيران حاليا … أقرب من أي وقت مضى لتأمين ممر بري سيوطد أقدامها بالمنطقة، ومن المحتمل أن ينقل الوجود الإيراني إلى أراض عربية أخرى». وينقل التقرير عن مسؤول أوروبي، ذي صلة، القول بأن: « الإيرانيين ظلوا يعملون بقوة لتنفيذ هذا المشروع»، وأنهم: « سيستطيعون نقل القوى البشرية والإمدادات بين طهران والبحر المتوسط في أي وقت يشاؤون عبر طرق آمنة يحرسها موالون لهم أو آخرون بالوكالة». ويلاحِظ التقرير أن: « هذا الممر الذي ظلت طهران تشقه تحت سمع وبصر الأصدقاء والأعداء، لم يستشعر خصوم إيران خطورته إلا خلال الأسابيع الأخيرة»، موضحا أن: « تركيا قد تكون شعرت أن هناك علاقة بين إيران والأكراد الذين يعتمد عليهم في تنفيذ جزء كبير من الممر وتأمينه، لذلك بدأت تتحرك بشمال شرق سوريا مؤخرا».
الطريف في التقرير أن ما تضمنه ليس سرا تخفيه إيران. فهي كالروس في تصريحات بوتين؛ تعمل بذات العقلية وتتحدث عن هيمنة وتوسع. فكما أن « روسيا ليس لها حدود» فكذلك الأمر مع إيران التي سبق واستعملت ذات العبارة التي استعملها بوتين. وهذا ما صدر على لسان الكثير من القادة الإيرانيين والسياسيين والعسكريين، وأحدثهم الوزير السابق للاستخبارات الإيرانية، حيدر مصلحي، حين قال في تصريحات لوكالة « أنباء فارس – 2/4/2015»: « إن الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود، وهي لكل الشيعة». لكن؛ ولأن التوسع يحتاج إلى بنية دعم لوجستي، فقد كان من الطبيعي أن تفصح إيران أكثر عن نواياها. فبعد قرابة شهر ونصف على تقرير « الغارديان»، وبالتحديد في 27/11/2016، أعلن رئيس هيئة الأركان الإيرانية، اللواء محمد باقري، أن: « إيران تحتاج إلى قواعد بحرية في مناطق بعيدة، وربما قد يأتي زمن يمكن لإيران أن تنشئ قواعد في اليمن أو سوريا أو قواعد بحرية عائمة»، وأنه: « يجب التفكير بجدية حول هذا الموضوع»، لاسيما وأن: « التوفر على قواعد بحرية أكثر أهمية بعشرات المرات من التقنية النووية». أما لماذا يجب التفكير بهذا الأمر؟ فلأن: «إيران أصبحت تشرف بشكل كامل على منطقة الخليج أكثر من أي وقت مضى»، هذا ما أدلى به المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد مسعود جزائري في 10/12/2016.
إذن حدود هيمنة فارس التاريخية مفتوحة شرقا وشمالا. لكنها الآن تهاجم جنوبا مستهدفةً الجزيرة العربية عبر اليمن، وعلى امتداد البحر الأحمر، بل وتفتح مع السعودية معركة على امتداد الحدود الجنوبية المتاخمة لليمن من خلال الحوثيين. ومع أنها متغلغلة في القارة الأفريقية إلا أن الهيمنة التامة لها تحتاج إلى عبور مسلح باتجاه المتوسط للسيطرة على شمال أفريقيا والتدخل وقت الحاجة. هذا الطموح الفارسي عبر عنه نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، في 14/12/2016 حين قال: « إن مشروع الجمهورية الإيرانية سيمتد إلى البحرين واليمن والموصل بعد سقوط مدينة حلب السورية»، مضيفا أن: « شعب البحرين سيحقق أمنيته، وسيسعد الشعب اليمني، وسيتذوق سكان الموصل طعم الانتصار، وهذه كلها وعود إلهية». وإلى أن يتحقق ذلك، والكلام للمسؤول الإيراني، فإن سقوط مدينة حلب هي بمثابة « الفتح المبين».
هذا « الفتح» نجم في الواقع عن أكبر عملية خداع دولي قذرة، تورط فيها الجميع ضد الجميع، بوعي أو بدون وعي. خداع وحشي أجمعَ على المناداة بتأمين خروج آمن لسكان حلب!!! وحصر حقوق الناس بين خيار القتل أو الحياة، بل أن الوحشية الدولية، بكل تشكيلاتها السياسية والقانونية والحقوقية والأخلاقية، قدمت نفسها وكأنها الأحرص على حياة الناس، في حين أن ما نفذته هو عملية إبادة جماعية وتدمير مدينة ضاربة في عمق التاريخ و تهجير لسكانها برعاية دولية تامة.
ختامًا
يمكننا أن نستحضر الحراك البريطاني باتجاه دول الخليج واعتبار « أمن الخليج من أمن بريطانيا» بأنه نوع من التنافس، لكنه تنافس محكوم بالبحث عن المال بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أكثر منه صراعًا على النفوذ. كما يمكننا استحضار فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، وميله إلى العزلة السلبية في ضوء يمينيته وعلاقته الغامضة بالرئيس الروسي. ويمكننا أيضا استحضار الأزمات المالية الطاحنة التي تضرب صميم المنظومة الرأسمالية، التي ظهرت لتُراكِم رأس المال فإذا بها تنتهي بالإفلاس ومراكمة الديون، وكذا تفكك الدولة القومية، وشيوع النزعات اليمينية وتعطيل شبه تام لمؤسسات النظام الدولي وحتى اختطافها .. لنصل بالمحصلة إلى فراغ سياسي عالمي، تسوده شريعة الغاب، بحيث يغدو حال الضعفاء مشاعا لمن هب ودب.
في هذه السياقات ومثلها يمكن فهم الإصرار التركي على التواجد في منطقة بعشيقة العراقية، على مقربة من الموصل. وهو الوجود الذي أثار عاصفة غير مسبوقة من الرفض، وجدلا بلا حدود، لدى إيران وحكومة العبادي في العراق وإجمالي القوى الرافضية، وحتى لدى روسيا قبل التفاهمات الأخيرة مع تركيا. فالحديث جرى ويجري قبل معركة الموصل، وتمحور حتى اللحظة حول السؤال: ماذا بعد الموصل؟ هذا ما طرحته القوى الدولية واليهود والأتراك وكافة وسائل الإعلام في العالم. سؤال طرح في ضوء اختلاف مصالح وأهداف القوى المهاجمة للموصل.
فالأتراك يدركون يقينا أنهم مستهدفون بالانقلابات العسكرية، وبالاقتصاد، وبالتفكيك الاجتماعي، وبالمسألة الكردية بشقيها المحلي والإقليمي، وبالنفوذ الفارسي في المنطقة، وبتحمل تبعات التطهير العرقي والديني، وبالتهديدات الدولية للمشروع السياسي. أما المشكلة الأشد خطورة فهي تلك التي تتصل بمخرجات مشروع العبور الإيراني إلى المتوسط. إذ ما لم يكن هناك ثمة يالطا جديدة يجري التفاهم على النفوذ بموجبها كما حصل في في أعقاب الحرب العالمية الثانية في مدينة يالطا سنة 1945؛ فالصدام بين الأتراك والإيرانيين واقع لا محالة، وقد يتطور إلى صدام دولي لا تحمد عقباه. أما لماذا؟
فلأن أمن العبور الإيراني يعني أن الموصل بالذات بالإضافة إلى حلب لا يمكن أن تستمرا كمدينتين سنيتين، أما العراق وسوريا فعليهما السلام. كما أن التوغل الإيراني باتجاه شمال أفريقيا، بل وفي عمق أفريقيا، فضلا عن التوغل شرقا وجنوبا نحو الجزيرة العربية، سيعني اعتراضا إيرانيا ميليشياويا مسلحا، وعابرا للحدود والبحار، للمشروع التركي، سيصب حتما في مصلحة إيران التي يجري إعدادها كمربط أمني دولي قادم بديلا عن المربط الأمني النصيري في سوريا. لهذا يصر الأتراك على التواجد العسكري المسلح في سوريا والعراق تحسبا لأي طارئ. ولئن برروا تدخلهم في سوريا بـ « مكافحة الإرهاب» إلا أنهم في العراق قالوا تارة بأنهم يتواجدون لحماية التركمان، وتارة للحفاظ على البنية الديمغرافية خاصة في مدينة تلعفر المحاذية للموصل، وتارة بموجب اتفاق سابق، وتارة أخرى بمعرفة حكومة العبادي، وتارة بموجب معاهدات قديمة. لكنهم أقروا في النهاية أنهم لا يعترفون بمعاهدة لوزان سنة 1923، التي اقتطعت منهم مدينة الموصل، وبالتالي فإن وجودهم سيغدو وجودا سياسيا صريحا.
في المحصلة؛ فإن المنطقة تشهد تناطحا للثيران، وتبدو على أعتاب تغيرات جوهرية مرعبة، فإما تقاسم جديد للنفوذ الدولي، وإما وربما حروب طاحنة. لكن أخطر ما في الأمر هو نجاح إيران في العبور البري نحو المتوسط. فإذا حصل هذا الأمر فالجزيرة العربية هي الهدف التالي حتما. أما الدول الصغيرة فيها كالبحرين والكويت فسيتم ابتلاعها بأسرع من الضوء؛ هذا إنْ لم يكن قد ابتلعت فعلا بانتظار الإعلان عن ساعة الصفر. فهل يمكن تدارك الأمر؟ نعم. لكن برحمة من الله، ثم بوعي المسلمين والحريصين والصادقين وبجهاد المخلصين في الأمة. فعليهم عبء عظيم.