أبو زرعة الرازي والتحديث حتي الممات
هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ أبو زرعة الرازي الحافظ الإمام الثقة. مولده بعد نيف ومائتين في مدينة الري، ولها ينسب.
طلبه للعلم
طلب العلم وهو صغير وارتحل في طلبه إلى الشام و الحجاز ومصر والعراق وخرسان. وسمع من موسى بن إسماعيل والقعنبي وأحمد بن حنبل وخلاد بن يحيى وعمرو بن هاشم وقبيصة بن عقبة وغيرهم.
قال صالح بن محمد جزرة: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث. قال أبو زرعة: كتبت بالري قبل أن أخرج إلي العراق عن نحو ثلاثين شيخًا، منهم عبد الله بن الجراح وعبد العزيز بن المغيرة وغيرهم. وقال أيضا:
رأيت فيما يرى النائم كأني في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكأني أمسح يدي علي منبر النبي صلى الله عليه وسلم موضع المقعد والذي يليه والذي يليه ثم أمسكته، فقصصته على رجل من أهل سجستان، فقال: أنت تُعنى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وكنت أذ ذاك لا أحفظ كثير شيء من مسائل الأوزاعي ومالك والثوري وغيرهم ثم عنيت به.
ثناء العلماء عليه
قال أحمد بن حنبل: ما جاوز الجسر أحد أحفظ من أبي زرعة. وقال عبد الواحد بن غياث: ما رأى أبو زرعة بعينه مثل نفسه أحدًا. وقال عمرو بن سهل بن صرخة: ما ولد في خمسين ومائة سنة مثل أبي زرعة. قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي. وقال إسحاق بن راهوية: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي فليس له أصل.
وفاته رحمه الله
قال أحمد بن إسماعيل (ابن عم أبي زرعة): سمعت أبا زرعة يقول في مرضه الذي مات فيه:
اللهم أني اشتاق إلي رؤيتك، فإن قال لي بأي عمل اشتقت إلي؟ قلت: برحمتك يا رب.
قال الحافظ أبو جعفر محمد بن علي التستري ورّاق أبي زرعة: حضرنا أبا زرعة (من الاحتضار)، وكان في السَّوق، وعنده أبو حاتم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان، وجماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، قال: فاستحيوا من أبي زرعة وهابوه أن يلقنوه. فقالوا: تعالوا نذكر الحديث.
فقال محمد بن مسلم بن وارة: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح”، وجعل يقول: “ابن أبي”، ولم يجاوز. وقال أبو حاتم: “حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح”، ولم يجاوز. والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة وهو في السَّوق:
حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
وتوفي أبو زرعة رحمه الله. قال محمد بن مسلم: رأيت أبا زرعة رحمه الله في المنام، فقلت: ما فعل بك ربك؟ فقال: قربني وأدناني وقربني وأدناني حتى هكذا، وأومأ بيده، ثم قال لي: يا عبيد الله تدرعت بالكلام؟ قلت: لأنهم حاولوا دينك، قال: ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله. قال محمد بن مسلم: فوقع في نفسي في النوم أن أبا عبد الله سفيان الثوري، وأن أبا عبد الله مالك بن أنس، وأن أبا عبد الله أحمد بن حنبل.
المصادر
- الجرح و التعديل لابن أبي حاتم
- سير أعلام النبلاء للذهبي
معتقدات أئمة العلم وحُفّاظ الحديث: (الثوري، وأبي زُرعة، وأبي حاتم).. تقضي بالنهي عن تكفير أهل القبلة وعن الخروج على الأئمة والقتال في الفتنة والسماع لأهل البدع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
ففي إطار حديثنا عن جهود السابقين من جهابذة العلم وما بذلوه من جهود حثيثة لمجابهة التطرف والإرهاب في عصورهم، وسعياً لوضع خريطة واضحة المعالم تستقي مبادئها من جهود الأوائل وتستوعب ما سبقنا من تجارب، وأملاً في وضع مناهج عقدية تتربى عليه أجيالنا القادمة في الأزهر ومعاهد العلم وتنعقد عليها قلوب أبنائنا وتكون سبباً في إصلاح البلاد والعباد، ومن خلال قناعتنا بأن آخر هذا الزمان لن ينصلح إلا بما صلُح به أوله.. يأتي حديثنا هنا عن معتقدات أئمة الهدى: (الثوري)، و(أبي زُرعة)، و(أبي حاتم).. لكن بعد إلقاء الضوء على سيرتهم وما أسفرت عنه جهودهم العلمية في خدمة أمتهم ودينهم ودنياهم.
فالثوري، هو: الفقيه الكوفي أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق، سيدُ العلماء العاملين في زمانه، وأحدُ أعلام الزهد عند المسلمين، وإمامٌ من أئمة الحديث، وواحدٌ من تابعي التابعين، قال عنه سفيان بن عيينة: “ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري”، كما قال عنه بشر الحافي: “سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما”، وقال الذهبي: “هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه”، ومما قاله عنه: “قد كان سفيان رأساً في الزهد والتأله والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من أئمة الدين”.. نشأ الثوري في الكوفة وتلقّى العلم بها، ونوّه الكثيرون بذكره منذ صغره لفرط ذكائه وحفظه حتى إنه جلس وحدّث وهو ما زال شاباً، وسمع من عدد كبير من العلماء حتى صار إماماً لأهل الحديث، طلبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ومِن بعده ابنه المهدي لتولي القضاء فتهرّب منهما وأعياهما، إلى أن غضبا عليه وطورد حتى توفي متخفياً في البصرة سنة161هـ.
وأبو زُرْعَة، هو: الإمام الثقة سيد الحفاظ، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي.. كان أحمد يعظمُه، وإذا جالسه ترك أحمد نوافله واشتغل عنها بمذاكرته، وقد رُوى عنه أنه قال: (صح من الحديث سبعمائة ألف حديث، وهذا الفتى –يعني: أبا زرعة– يحفظ ستمائة ألف حديث).. أفاد الذهبي في السير 13/ 66: أنه طلب العلم وهو حدث، وارتحل إلى الحجاز والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان، وكتب ما لا يوصف كثرةً، حتى قال عن نفسه: (كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف)، وقال إسحاق بن راهويه: (كلُّ حديث لا يعرفه أبو زُرعة فليس له أصل)، قال ابن أبي شيبة: (ما رأيت أحفظ من أبي زرعة) يعني: في الحديث.. وقال علي بن الجنيد: (وكذلك سائر العلوم) ويشهد لذلك قوله: (أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث).. قال أبو بكر الخطيب: (كان إماماً ربانياً، حافظاً متقِناً مُكْثِراً صادقاً)، وقال يونس بن عبد الأعلى: (ما رأيت أكثر تواضعاً من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان، وبقاؤهما صلاح للمسلمين)، وقال: (إن أبا زُرعة أشهر في الدنيا من الدنيا)، وعن الذهلي: (لا يزال المسلمون بخير ما أبقى الله لهم مثل أبي زُرعة، وما كان الله ليترك الأرض إلا وفيها مثل أبي زُرعة، يُعَلّم الناس ما جهلوه)، وقال القاسم بن صفوان: سمعت أبا حاتم يقول: (أورع من رأيت أربعة: آدم بن إياس، وأحمد بن حنبل، وثابت بن محمد الزاهد، وأبو زُرعة) قال القاسم: فذكرته لعثمان بن خرزاذ فقال: (وأنا أقول أحفظ من رأيت أربعة: محمد بن المنهال الضرير، وإبراهيم بن عرعرة، وأبو زُرعة، وأبو حاتم).. وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: “هو الإمام حافظ العصر.. كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاء ًوديناً وإخلاصاً وعلماً وعملاً”.. وقال أبو يعلى الموصلي: “جَمَعَ حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، وكتبنا بانتخابه بـ(واسط) ستة آلاف حديث”.. وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة: “كان من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى”.. وجاء عن الحافظ ابن رجب الحنبلي أنه “أحد الأعلام، وحفاظ الإسلام، وكان من الصلاح والعبادة والخشية بمحل عظيم”، وأورد عن أبي حاتم قوله: (ما خلّف أبو زُرعة بعده مثله: علماً، وفقهاً، وصيانة، وصدقاً!”.
تلك هي بعضُ شهادات جهابذة العلم له.. ناهيك عما خلفه من مؤلفات، قام بحصرها وتوثيقها د: سعدي الهاشمي في دراسته عن أبي زُرعة.. توفي أبو زرعة سنة 264هـ وقد سمعه ابن عمه يقول في مرضه الذي مات فيه: (اللهم أني اشتاق إلي رؤيتك، فإن قال لي: بأي عمل اشتقتَ إلي؟، قلت: برحمتك يا رب)، وبعدها رآه محمد بن مسلم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك؟؛ فقال: قربني وأدناني وقربني وأدناني ثم قال: (ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله)، قال محمد بن مسلم: فوقع في نفسي في النوم: (سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل).. رحم الله الجميع بقدر ما قدموا للإسلام والمسلمين.
وأبو حاتم الرازي، هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، الإمام الحافظ الناقد الكبير، أحد الأعلام وشيخ المحدثين، كان –كما في السِّير 13/ 250– من بحور العلم، طاف البلاد وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف، وجرّح وعدّل، وصحّح وعلّل، وهو من نظراء البخاري ومن طبقته، تتلمذ على مشايخ كُثر يتعذر استقصاؤهم، قيل إنهم بلغوا: قريباً من ثلاثة آلاف، وقد حدّث في رحلاته بأماكن، وارتحل بابنه ولقي به أصحابَ ابن عيينة ووكيع، وقال النسائي: (إنه ثقة) وكذا قال عن أبي زُرعة، وقال الخلال: (أبو حاتم إمام في الحديث)، وقال أبو نعيم: (إمام في الحفظ والفهم)، وقال الخطيب: (كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات مشهوراً بالعلم مذكوراً بالفضل)، وقال اللالكائي: (كان إماماً حافظاً متثبِّتاً) وكان قد ذكره في شيوخ البخاري؛ وقال الخليلي: (كان أبو حاتم عالماً باختلاف الصحابة وفقه التابعين ومَن بعدهم، سمعت جدي وجماعة سمعوا القطان يقول: ما رأيت أجمع من أبي حاتم ولا أفضل منه)، وكان أحمد الرقام قد روى عن أبي زُرعة قوله لأبي حاتم: (ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك؛ فقال: إن عبد الرحمن ابني لحريص، فقال: مَن أشبه أباه فما ظلم)، قال الرقام: (فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه، فقال: ربما، كان يأكل وأقرأ عليه! ويمشي وأقرأ عليه! ويدخل الخلاء وأقرأ عليه! ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه)؛ وقال ابن كثير في البداية: (أبو حاتم أحد الأئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل)، وقال الذهبي في العبر: هو (حافظ المشرق.. بارع الحفظ واسع الرحلة، من أوعية العلم.. كان جارياً في مضمار البخاري وأبي زُرعة)، وقال أحمد بن سلمة النيسابوري: (ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث من أبي حاتم الرازي، ولا أعلمَ بمعانيه)، توفي رحمه الله سنة 277.
أ-مجمل معتقد الثوري، وفيه “الصبر تحت لواء السلطان جارَ أم عَدَل” والجهاد معه، كما فيه الرد على أهل الإرجاء والتشيع والتكفير:
كتب الثوري لشعيب بن حرب فيما ينفعه الله به ويكون سبباً في نجاته: “القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود”، وذلك في إشارة إلى ردِّ ما قالته الجهمية ومن تبعهم من الأشاعرة وغيرهم، من: (أن القرآن ليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه، قد ألهمه الله جبريل فبلَّغه محمداً صلى الله عليه وسلم ونزل به عليه)، زعماً منهم أن الكلام اللفظي المنزل والمكون من صوت وحرف يتنزه عنه كلام الله تعالى، وهذا أمر شرحه يطول.. ويقول الثوري في ردِّ ما تكلم به أهل الإرجاء في تهوينهم من شأن العمل، وما فاه به الخوارج في تكفيرهم مَن ترك شيئاً منه، وما أكثر هؤلاء وأولئك في زماننا: “الإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة”، وفي جوابه عمن لديه شك في إيمان الصحابة وعدالتهم، ولا يَقْدرُهم قدرَهم من جميع فرق التشيع، يقول الثوري رحمه الله جواباً عن سؤال شعيب (وما موافقة السنة؟)–: “تقدُمَةُ الشيخين: أبي بكر وعمر، يا شعيب؛ لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان وعلياً مِن بعدهما، يا شعيب؛ لا ينفعك ما كتبتَ حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله.. ولا ينفعك ما كتبتَ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن كلاًّ من عند الله”.
والحق أن الثوري كان حاسماً في آرائه حول الفرق التي عاصرته، فقد رُوي أن واحداً جاءه فسأله: “رجلٌ يُكذِّب بالقدر، أصلي وراءه؟، فقال سفيان: (لا تقدموه)، قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره، قال: (لا تقدموه، لا تقدموه)، وجعل يصيح”، كما سَمِع ابن المبارك سفيان يقول: “الجهمية كفار، والقدرية كفار”، وكان المُؤَمَّل بن إسماعيل قد نقل عنه قوله: “خالفتنا المرجئة في ثلاث؛ نحن نقول: (الإيمان قول وعمل)، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ونحن نقول: (يزيد وينقص)، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: (نحن مؤمنون بالإقرار)، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله”.
وفي جوابه عمن يلوكون بألسنتهم الحداد الحكام من أهل السنة –مسفهين ومنفرين ومهيجين ومحرضين ومحقرين، بل ومكفرين إياهم أحياناً ومخرجيهم من الملة– يقول الثوري ناصحاً شعيباً ومِن ورائه كلَّ من يصلح له الخطاب: “يا شعيب؛ لا ينفعك ما كتبتَ حتى ترى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، والجهادُ ماض إلى يوم القيامة، والصبرُ تحت لواء السلطان جار أم عدل”.. ثم يختم كلامه في ثقة لا تطرق إليها أدنى ريب فيقول: “يا شعيب: إذا وقفتَ بين يدي الله فسألك عن هذا، فقل: يا رب، حدثني بهذا سفيان الثوري، ثم خلِّ بيني وبين ربي”إ.هـ.
ب- معتقد أبي زُرعة وأبي حاتم الرازييَن يقضي: بالكف عما شجر بين الصحابة، وبالنهي عن تكفير أهل القبلة وعن الخروج على الأئمة والقتال في الفتنة والسماع لأهل البدع والضلال:
وذلك فيما رواه بسنده عنهما أبو القاسم اللالكائي، قال: “أخبرنا محمد بن المظفر المُقرئ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن حَبَش المُقْرِئ قال: حدثنا ابن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار –حجازًا وعراقاً وشاماً ويمناً– فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدَر خيره وشره من الله، وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهم الخلفاء الراشدون المهديّون.. وأن العشرة الذين سمَّاهم رسول الله وشهد لهم بالجنة، على ما شهد به صلى الله عليه وسلم، وقولُه الحق، والترحم على جميع أصحاب محمد والكف عما شجر بينهم.
وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيفَ؟، أحاط بكل شيء علماً (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.. الشورى/ 11)، وأنه تعالى يُرى في الآخرة، يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء، والجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً، والجنة ثوابٌ لأوليائه والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله.. والشفاعة حق، وأن ناساً من أهل التوحيد يخرجون من النار بالشفاعة حق، وعذاب القبر حق، ومنكر ونكير حق.. والبعث من بعد الموت حق، وأهل الكبائر في مشيئة الله، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم ونكل أسرارهم إلى الله.
ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان”، تأمل: (في كل دهر وزمان)، كذا بما يحسم أمر الخلاف على الخروج عليهم بالجور و”الفسق والظلم وتعطيل الحقوق”، ويؤكد صدق مقولة من ذهب إلى أن “الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم” كذا قاله عياض فيما نقله عنه النووي في شرح مسلم 12/ 181 مجلد6.. ويواصل أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم كلامه فيما يحكيه عن أبيه وعن أبي زُرعة، فيقول مؤكداً:
“ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونَتّبعُ السنة والجماعة ونجتنبُ الشذوذ والخلاف والفُرقة، وإن الجهاد ماض مذ بعث الله نبيه عليه السلام إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك.. والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله.. والمرجئة والمبتدعة ضُلاّل، والقدرية المبتدعة ضلال، فمن أنكر منهم: أن الله يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر، وأن الجهمية كفار، وأن الرافضة رفضوا الإسلام، والخوارج مُراقٌ –يعني: للحديث، وفيه ما يؤكد عدم جواز توليهم أمور المسلمين كما هو الحاصل في زماننا وإن أخفوا ذلك وفعلوا الأفاعيل– ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة، ومن شك في كفرهم ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله، يقول: (لا أدري مخلوق أو غير مخلوق) فهو جهمي، ومن وقف في القرآن جاهلاً عُلِّم وبُدِّع ولم يُكَفّر.
قال أبو محمد: وسمعت أبي يقول: (وعلامة أهل البدع الوَقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة: تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار، وعلامة الجهمية: تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة القدرية: تسميتهم أهل الأثر مجبرة، وعلامة المرجئة: تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية، وعلامة الرافضة: تسميتهم أهل السنة ناصبة، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء.. قال: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع ويغلِّظان في ذلك أشد التغليظ، وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار –وما أكثرها في زماننا وفي جل بلدان المسملين– وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين، ويقولان: (لا يُفلح صاحب كلام أبداً).
قال أبو محمد –عبد الرحمن بن أبي حاتم–: (وبه أقول أنا)، وقال أبو علي بن حبش المقري –الراوي عن أبي محمد–: (وبه أقول)، وقال شيخنا ابن المظفر –الرواي عن ابن حبش–: (وبه أقول)، وقال شيخنا –يعني: اللالكائي المصنف–: (وبه أقول)، وقال الطُرَيثيثيُّ –راوي اعتقاد (شرح أصول السنة) عن اللالكائي–: (وبه أقول)، وقال شيخنا السُّلَفي –هو الراوي عن الطُّريثيثي–: (وبه نقول)”إ.هـ.. هذا، وقد روى ابن قدامة المقدسي جزءًا من هذا المعتقد بإسنادين مختلفين في كتابه (إثبات صفة العلو)، كما روى الذهبي جزءًا منه بسنده في (سير أعلام النبلاء) ج13 ص84.
جـ- وفيما انفرد به أبو حاتم ما يؤكد أيضاً: ترك الكتب المبتناة على غير أثر، وعدم الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة:
يقول أبو حاتم الرازي فيما رواه اللالكائي ورآه في بعض كتب أبي حاتم مما سُمَع منه: “مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والشافعي.. ولزوم الكتاب والسنة، والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، والثوري وحماد بن زيد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وترك رأي الملبِّسين المُمَوِّهين المزخرِفين المُمخرِقين الكذّابين.. وكلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه ليس بمخلوق بجهة من الجهات، ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفراً ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر.. والاتباع للأثر عن رسول الله وعن الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان، وترك كلام المتكلمين وترك مجالستهم وهجرانهم، وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار.
واختيارنا أن الإيمان قول وعمل، إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان.. وجميع فرائض الله التي فرض على عباده: العمل به من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، ونؤمن بالمساءلة في القبر وبالكرام الكاتبين، وبالشفاعة المخصوص بها صلى الله عليه وسلم، ونترحم على جميع أصحاب النبي، ولا نسب أحدا منهم.. ونعتقد أن الله على عرشه بائن من خلقه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا نقاتل في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولى الله أمرنا، ونرى الصلاة والحج والجهاد مع الأئمة، ودفع صدقات المواشي إليهم، ونؤمن بما جاءت به الآثار الصحيحة بأنه يخرج قوم من النار من الموحدين بالشفاعة.. وفقنا الله وكل مؤمن لما يحب ويرضى من القول والعمل، وصلى الله على محمد وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين”إ.هـ باختصار.
د-الأئمة الثلاثة –على غرار نظرائهم– يحذرون من (البدع وأهلها وبخاصة ممن أصلوها وضعوا فيها الكتب)، كونهما أساس كل مصيبة تحل بالأمة ومصدر كل فتنة:
ومن يتأمل كلام الثوري والرازيين في معتقدهم يَلحظ التأكيد على هجر البدع، وذكر سمات أهلها وضرورة التحذير منهم والتغليظ عليهم وترك مجالستهم، وعدم التأثر بكتبهم التي هي مما يوحي به شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول غروراً، وتخالف آثار أئمة السلف الماضين.. كما يَلحظ أن اللالكائي نفسه الذي ساق هذه المعتقدات أكد على هذا، ذلك أنهما –البدع وأهلها– أضر على الإسلام والمسلمين من أعداء الإسلام، إذ في ظل أجوائهما تجدُ الأفكار الهدامة والآراء المخالفة والفتاوى المغلوطة التي: تحرف الكلم عن مواضعه، والتي: تحرم الحلال وتحل الحرام، وتسبيح الأعراض والدماء، وتوقع منفذيها تحت مسمى الخوارج ومن (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، والتي: تنسف ضوابط الجهاد المشروع فتبيحه تارة بـ(غير إذن الوالدين) وتارة بـ(دون إمرة) وثالثة (وراء إمام غير ممكن).. بل وتجد من يُشعل الفتن ويدير الحروب تحت (رايات عُمِّيَّة)، وهي –كما سبق أن ذكرنا– التي الأمر فيها معمى لا يستبين وجهه كما قاله أحمد والجمهور، والتي بحقها قال عليه السلام كما في مسلم (1848): (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قُتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب للَعَصبة ويقاتل للعَصبة فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها، فليس مني)، وذاك ما يفسر أن جلَّ ضحايا هذه الحروب مسلمين أو معاهَدين ومستأمنين، وحسبك من كل ذلك تحذير نبينا الوارد في قوله المتفق عليه: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله كما في البخاري (3166): (من قتل معاهَداً لم يرِح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً).
لأجل هذا وغيره من مفسدات الدين ومتبعات الأهواء والخصومات، كان التحذير من البدع والمبتدعين، ففي بداية كتاب اللالكائي (شرح أصول السنة)، وعقب ما عقده تحت باب: (ما روي عن النبي في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم، وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة، والوعيد في مفارقة الجماعة)، وما أدرجه تحت هذا الباب من نصوص في ذلك هي من الأهمية بمكان.. جاء كلامه عن (سياق ما روي عن النبي في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم، والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة)، فذكر في ذلك النصوص من القرآن والسنة، ثم ذكر تحته من أقوال الأئمة فيما ذكر، قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إياكم وما يُحدِثُ الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرَّة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب)، قيل: يا أبا عبد الرحمن: فإلى أين؟ قال: (إلى لا أين، يمكث في مكانه، يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع)، يعني: لأن كل مكان فيه من البدع والشر ما فيه.. وصدق فوالله إن لِفِعْل شياطين الإنس في ذلك من الأخطار ما لا يُقَدَّر قدرُه، وما لا يساوي فعل الشيطان شيئاً بجواره.
كما ساق اللالكائي فيما ساق، قول عمر ابن الخطاب: (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا)، وقوله: (اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني أرد أمر رسول الله برأيي اجتهاداً مني، ووالله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل –في صلح الحديبية– والكتاب بين رسول الله وأهل مكة، فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: بل اكتب باسمك اللهم؛ قال: فرضي صلى الله عليه وسلم وأبيتُ عليهم، حتى قال: يا عمر تراني قد رضيتُ وتأبى، قال: فرضيتُ).. وقول سهل بن حنيف بصفين: (يا أيها الناس! اتهموا رأيكم، فو الله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد من أمر رسول الله لرددته) –يعني: لأن الأمر فوق طاقتنا، ومرادهما: أنه إذا اختلف عقلك ورأيك وفهمك مع دين الله فلا تتهم الدين كما يفعل المعتزلة، إذ إنهم يقولون: الأصل عندنا العقل، والدين يقاس عليه، فما وافق العقل فهو دين الله وما خالفه فليس ديناً، فإن كان حديثاً ردوه، وإن كان آية أولوها تأويلاً يتناسب مع العقل، فجعلوا الميزان عقولهم، والدين يعرض على العقل بعد ذلك، بخلاف منهج أهل السنة والجماعة، فإن الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال هو كتاب الله وسنة رسوله بفهم السلف، فما وافق ذلك فهو دين الله، وما خالفه فلا يمكن أبداً أن يكون ديناً إذ لا يسوغ لمؤمن بحال أن يقدم آراءه وعقله على كتاب الله وصحيح سنة نبيه، والأمر بالطبع ينسحب على أصحاب الأهواء ممن يظنون في أنفسهم أنهم دائما على الحق المبين وأنهم يمثلون الإسلام خلافاً للغير الذي يجب عليه أن ينفذ أوامرهم ولو في المعاصي والعياذ بالله، بل قد يصل الأمر أن يأتوا بالآي المخاطب بها الرسول وأصحابه ليسقطوها على أنفسهم ظناً منهم أن سواهم هم من أهل الكفر والنفاق والتردد والشقاق، بينا القاعدة في كل ذلك وقد علَّمَناها رسول الله: أن (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وأن (الطاعة في المعروف)، وأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)– قال أبو العالية:
(إياكم وهذه الأهواء التي تُلقِى بين الناس العداوة والبغضاء)، وقال: (ما أدري أي النعمتين عليَّ أعظم: أن أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوىً)، وعن الشُّعبي: (إنما سُميت الأهواء، لأن تهوي بصاحبها إلى النار)، وعن أبي الجوزاء: (لأن يجاورني في داري قردة وخنازير، أحب إليّ من أن يجاورني أحدٌ من أصحاب الأهواء)، وعن الحسن: (أهل الهوى بمنزلة اليهود والنصارى)، وعن الأوزاعي: (أن إبليس لقي جنوده يشاورهم كيف يأتون بني آدم، حتى قال: لآتينهم من قِبَل ذنب لا يستغفرون منه، فبث فيهم الأهواء) فهي إذاً باب الشيطان إلى الإنسان، ولذا صح في ذلك قول سفيان الثوري: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها)، وهذا ما أجمع عليه أئمة السلف، قال ثابت بن العجلان: (أدركت أنس بن مالك، وابن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، ومجاهد، وابن أبي مليكة، والزهري، ومكحول، والقاسم.. وعد ناساً كثيرة وقال: (كلهم يأمرونني بالجماعة، وينهوني عن أصحاب الأهواء)، وكان الحسن البصري يقول: (لا تجالسوا أهل الهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم)، وقد دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث واحد؟، فقال: (لا)؛ قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟، قال: (ولا آية، تقومان عني وإلا قمت) فلما سئل عن ذلك قال: (إني كرهت أن يقرآ آية، فيحرفانها فيقرّ ذلك في قلبي)، وعن أبي قلابة بحق أهل البدع والأهواء: (لا تجالسوهم ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن عليكم أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون فتهلكوا) وهذا من فقهه في الدين، ومما وصى به أبو قلابة أيوب السختياني: (احفظ عني أربعاً.. وذكر منها: ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك) أي: لا تسمع لهم ولا كلمة؛ لأنك لو سمعت هلكت، قال أبو قلابة: (ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف)، ولا غرو؛ فهم بين نقمتين، الأولى: الانحراف عن المنهج العقائدي، والثانية: أنهم يتصورون أن عقيدتهم هي الحق، فتحملهم هذه العقيدة الباطلة على الخروج بالسيف.
هذا، ومما أثر عن عمر بن عبد العزيز في واحدة من أهم علامات أهل البدع والأهواء، قوله: (إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة)، وعن محمد بن النضر الحارثي قوله: (من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووُكِلَ إلى نفسه)، وعن التحذير من البدعة وصاحبها قال قتادة موصياً الأحول: (يا أحول، إن الرجل إذا ابتدع بدعة، ينبغي لها أن تُذكر حتى تُحذر)، وإنا والله لنجد في زماننا ما هو على العكس من ذلك، وتلك هي الفتنة بعينها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي التأكيد على ما سبق، يقول يحيى بن كثير: (إذا لقيت صاحب بدعة في طريق، فخذ في غيره)، ويقول ابن المبارك موصياً: (إياك أن تجالس صاحب بدعة)، ويقول الفضيل بن عياض: (من أتاه رجل فشاوره، فدله على مبتدع فقد غش الإسلام، واحذروا الدخول على صاحب البدع؛ فإنهم يصدُّون عن الحق)، وقال: (لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة)، وقال: (لا تجلس مع صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه)، وقال: (صاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، فمن جلس إلى صاحب بدعة ورَّثه الله العمى)، وقال: (علامة النفاق: أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة)، أي: يترك مجلس أهل السنة ويجلس مع أهل البدعة، وقال: (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وينهَون عن أصحاب البدع)، وقال: (طوبى لمن مات على الإسلام والسنة، فإذا كان كذلك فليُكثر من قول: ما شاء الله)، وقال: (لا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل).
وعن الحسن البصري: (صاحب البدعة لا يَقبلُ الله له صلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، ولا جهاداً، ولا صرفاً، ولا عدلاً)، وعنه: (لا يقبل الله من صاحب البدعة شيئاً)، وعنه: (ثلاثة ليست لهم حرمة في الغيبة، وذكر منهم: صاحب البدعة الغالي ببدعته)، وعنه: (ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة).. وعن إبراهيم بن ميسرة قوله: (من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)، وعن عبد الله بن عمر السرخسي قوله: (أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك، فقال: والله لا أكلمك ثلاثين يوماً)، وعن ابن المبارك: (لم أر مالاً أمحق من مال صاحب البدعة)، وقوله: (اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يداً فيحبه قلبي)، وقوله: (صاحب البدعة على وجهه الظلمة، وإن ادَّهن كل يوم ثلاثين مرة).. وعن إبراهيم النخعي: (ليس لصاحب البدعة غيبة)، وعن عطاء الخرساني قال: (ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة)، وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب السختياني: أسألك عن كلمة، فولى أيوب وهرب وهو يقول: (لا؛ ولا نصف كلمة، لا تسألني عن شيء) مرتين، ويشير بأصبعيه، وعن مالك بن أنس إمام دار الهجرة، قوله: (كلما جاءنا رجل أجدل، تَركْنا ما نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله).
تلك هي عقيدة الإسلام ووصايا أئمته، ومن ورائهما الحِفَاظ على أسس الدين وأصوله التي انبنى عليها والتي أجمع عليها الماضين الأوائل من أئمة السلف ممن شهد الرسول لهم ولمن تبعهم بإحسان بالخيرية.. فهل من مشمر للسير على هداهم والتجرد في اتباعهم حفاظاً على دين الله ونهج رسوله؟.. هذا ما ينبغي على كل مسلم أن يشغل في الإجابة عنه فكره وعقله، وأن يجعله واقعاً عملياً في حياته.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رحم الله علماء المسلمين و أدخلنا وإياهم الجنة