اختيارات المحرر

صدمة الجوع وفخ الاستثمار: كيف حمت سياسات أبي بكر المالية الأمة من فخّ التبعية؟

الحمد لله الذي جعل الحقّ أصلاً وسنداً، وسيرة الأوائل منهلاً لنا ومقصداً. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الأطهار، الذين حملوا أمانة الرسالة والقيادة بصدق وإخلاص، وعلى رأسهم الصدّيق الأكبر، الذي كان أثبتهم وأعدلهم في زمن الفتن والمحن. وبعد…

اليوم ونحن نرى تأثير المال على الحكومات والساسة وأصحاب القرار، لا يلوح في الأفق أصدق من سيرة رجل كُتب له أن يقود الأمة بعد صدمة الفقد الكبرى: أبو بكر الصدّيق (رضي الله عنه). لم يواجه أبو بكر جيش الروم فحسب، بل واجه “الخطر الداخلي” الذي يتهدد صميم وجود الدولة، وتحديداً في مواردها المالية.

تعالوا لنقرأ سيرة هذا القائد العظيم، لا من زاوية الورع الفردي فحسب، بل من زاوية “سياسات بناء الدولة“. لنرى كيف حوّل أبو بكر الأمانة المالية من مجرد عبادة إلى عَقد سياسي سيادي، وكيف أسّس لمبدأ أنّ المال العام ليس مكافأة للقائد، بل ركيزة لا يجوز المساومة عليها؛ درساً لمن يظنون اليوم أنّ السيادة تُشترى بالنقود، بينما أصلها يُصان بـ حماية المنظومة المالية للدولة.

لنتبين هذا الدرس في واقعنا، دعونا ننظر إلى غزة التي كسرت شوكة المحتل عسكرياً، والتي تقف اليوم لتواجه أخطر اختراعاته: “الاحتلال الناعم” الذي يسعى لتقويض فكرة المقاومة والتحرير بالمال، بعد أن فشل في تصفيتها بالنار. فبعد أن سقطت أوهام “الاحتلال العسكري” على أبوابها، بدأت تفاوض العالم على فكرة أدهى وأخطر:  “التبعية الاستثمارية  المُوشَّحة بوعد الإعمار.
لقد حذّرنا في مقال سابق نُشر تحت عنوان [مستقبل غزة… من الاحتلال العسكري إلى التبعية الاستثمارية] من أن تُستبدل كرامة الدم بعقود من التبعية، وأن تُباع السيادة بثمن “إمارة تشبه دبي” تُشيّد فوق ركام التضحيات.

والسؤال اليوم ليس عن حجم الأموال التي ستُضَخّ، بل عن حجم السياسة المالية الحصينة التي ستحميها. ففي زمن الأزمات، لا يُختبَر نجاح القادة (أو الخطط) بالخُطب الحماسية، بل بـ “سياسات”  تحدد المسافة بين قدرة الدولة على الإطعام ووقوعها في فخ الإذعان.

أولاً: قتال مانعي الزكاة — السيادة المالية الخارجية

الزكاة: السيادة المالية الخارجية

كان موقف الصدّيق في قتال مانعي الزكاة مزيجاً عجيباً من الرأفة بالضعيف والشدة على المُتَرَدِّد. فهذه الشدة لم تكن موجهة ضد المانعين فحسب، بل كانت حاسمة أيضاً لمن رأى في الزكاة مجالاً للتساهل أو التنازل داخل صفوف القيادة نفسها. 

فعندما وقف أبو بكر أمام صحابة عظام كعمر بن الخطاب، يجادلونه باللين والرأفة، متسائلين: “يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‘أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله… فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‘؟” (متفق عليه)، لم يكن رده مجرد اجتهاد في النص، بل كان حسماً إيمانياً عاطفياً نابعاً من صميم ولائه للرسالة.

لقد عُرف عن الصدّيق كثرة بكائه ورقة قلبه حتى ظنّه البعض ضعفاً، لكنه لم يُظهِر ذرة تردد واحدة في حماية إرث النبي ﷺ وكمال رسالته. كان موقفه كالصخر: “والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عِقالاً {وفي رواية: عَنَاقاً} كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه” (رواه البخاري ومسلم)

هذه العاطفة لم تكن غضباً شخصياً، بل غِيرة على كمال الرسالة.  أدرك الصدّيق بعبقريته المبكرة أنَّ التجزئة في الدين هي البداية الحتمية لانهيار الدولة.  فإذا قَبِل التنازل عن ركن مالي (الزكاة)، فإنه يفتح الباب للتنازل عن الركائز السيادية الأخرى، واحدة تلو الأخرى.

أصرَّ أبو بكر على قتالهم لأنه رأى في منع الزكاة ليس فقط عصياناً دينياً، بل تدميراً لـ “قاعدة الموارد” التي تقوم عليها دولة الإسلام وجيشها، وتكفل بها فقرائها. كان يرى المستقبل بوضوح:
دولة لا تملك مصدر دخلها المستقل، هي دولة ستضطر حتماً للاعتماد على جهات خارجية تمولها بشروط، أو ستنهار داخلياً تحت وطأة الجوع والتشرذم.

إنَّ إصراره على العِقال (حبل الناقة) ليس أمراً بسيطاً، بل هو إقرار لمبدأ حماية الحد الأدنى للموارد السيادية. فالتنازل عن “العقال” اليوم يعني التنازل عن “القرار” غداً.

الزكاة بين التبعية المحلية والسيادة العالمية

هنا يكمن الدرس الأعظم لمواجهة فخ “التبعية الاستثمارية” الذي تناولناه سابقاً. إنَّ التنازل الذي حاربه أبو بكر الصديق في القرن السابع، هو ما يُفْرَض اليوم على الدول والكيانات الضعيفة في منطقتنا.

الإشكالية في كيانات مثل غزة اليوم ليست في زكاة أهلها القليلة، بل في غياب “سيادة الزكاة العالمية” للأمة بأكملها. أبو بكر حارب لفرض الزكاة كـ ركيزة سيادية، وهذا المبدأ يجب أن يُترجم اليوم إلى منظومة تكافل سيادية تجمع زكاة المسلمين الأغنياء حول العالم وتوجهها إلى جيوب “الفقراء والمجاهدين” في بقاع الأمة كافة.

المجاعة في السودان

عندما نُحوّل الزكاة من فريضة محلية إلى “صندوق سيادي تكافلي” ضخم يُصرف على المحتاجين في غزة والسودان وغيرهما، نكون قد أسقطنا شرعية التمويل المشروط. لأنَّ إضعاف مؤسسة الزكاة المركزية عالمياً هو الباب الذي تدخل منه المنح المقيّدة لقرارات الدول. عندما تعجز الأمة عن إطعام فقرائها بـ مالها الخاص المُوَحَّد، تفتح الباب لرأس المال الإقليمي أو الدولي ليقوم هو بدور “الإطعام” و”الإعمار”، لكن بـ دفتر شروط يمس القرار الوطني.

سياسات أبي بكر علّمتنا أنَّ حماية استقلال القرار لا يتم بالقتال فحسب، بل بتفعيل منظومة مالية سيادية شاملة. لقد كان موقفه إعلاناً للحرب على أول مظهر للتبعية المالية الناشئة عن التنازل عن الموارد، ويجب أن يكون اليوم إعلاناً للعمل على صيانة سيادتنا المالية الجماعية.

ثانياً: الخليفة الأجير — السيادة المالية الداخلية

السياسة المالية ليست فقط عن كيفية جباية المال (الزكاة)، بل عن كيفية إنفاقه وإدارته داخل دائرة القيادة. موقف أبي بكر من راتبه؛ أخذ راتباً قليلاً، ورفض ما زاد عن حاجته وحاجة أهله، وأرجع المتبقي لديه من مال المسلمين قبل وفاته، لم يكن له تأثير اقتصادي كبير على دولة بحجم المدينة، لكن تأثيره الرمزي والأخلاقي كان هائلاً. 

لقد كان هذا الموقف تأسيسًا فريدًا لـ مبدأ القدوة الذي لا يرتكن على قوة الإيمان والنزاهة الشخصية للقائد فحسب، بل على سنّ سياسة الفصل المطلق بين مال القائد ومال الدولة حتى لا يُساء استخدام السلطة إذا وقعت في الأيدي الخطأ.

بعد أن حسم أبو بكر معركة السيادة المالية الخارجية بقتال مانعي الزكاة، حسم المعركة الداخلية الأهم: معركة النفس ضد المال العام.  ففي اللحظة التي تولى فيها الخلافة، وقف ليقول: “قد علمتم أنَّ مهنتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وقد شُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال (بيت مال المسلمين)، ويحترف للمسلمين فيه”.

لقد كانت هذه الكلمات إعلاناً سياسياً واجتماعياً حاسماً:

أولاً: أنه فصل بين ماله الخاص (الذي كان يُغنيه) والمال العام للدولة.

ثانياً: أنه حدّد راتبه بما يكفيه هو وأسرته وفق نصيب الرجل المهاجر العادي، بلا كماليات أو امتيازات استثنائية (امتيازات المنصب).

هذا الموقف لم يكن مجرد ورعٍ فردي يُنقل في كتب الزهد، بل كان تأسيسًا لمبدأ مؤسسي لا يُمكن لأي قائد يأتي بعده أن يتجاهله: 
القيادة السياسية وظيفةٌ وخدمةٌ تتطلب التفرغ، وليست منصباً للإثراء أو لجمع الامتيازات.

لقد حوّل الخليفة الأول نفسه إلى “أجير للأمة”  لا مالكاً عليها. وقد ترسخ هذا المبدأ عندما أصرَّ على الاستمرار في حلب أغنام جيرانه بعد توليه الخلافة، قائلاً: “لعمري، لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يُغيّرني ما دخلت فيه عن خُلُق كنت عليه”.
إنّ القائد الذي لا يستكبر عن حلب الشاة، لن يستحل أموال الأمة.

وقد بلغت سياسة أبي بكر المالية ذروة الحسم عند وفاته. عندما أرسل إلى الخليفة من بعده (عمر بن الخطاب) يُرجِع إليه كل ما تبقى في حوزته من بيت المال، قال كلمته الخالدة: “إني لا أستحل لنفسي من مال الله شيئاً”.

لقد قام أبو بكر هنا بعملية تطهير مالي ذاتي للدولة قبل رحيله، مؤكداً أنَّ المنصب العام ينتهي معه الحق في استخدام ماله. وفي هذا الموقف، لم يكن يتحدث عن مئات الملايين؛ بل كان يتحدث عن الجانب الرمزي للقرار، فالقائد الذي لا يُسوّغ لنفسه درهماً واحداً زائداً، هو القائد الذي لا يمكن رشوته أو مساومته.

ففي زمن تتآكل فيه الدول من الداخل بفعل الفساد المالي، يثبت هذا الموقف أنَّ القدوة هي أول خطوط الدفاع عن ثروة الأمة، وأنه لا يمكن بناء سيادة خارجية قوية مع فساد داخلي مستشرٍ.

ثالثاً: جمع القرآن — السيادة المعرفية وحماية الأمانة الكبرى

جمع القرآن

إنَّ إتمام منظومة السيادة عند أبي بكر لم يكن ليتم فقط بحماية مال المسلمين وحماية القائد من الفساد، بل بحماية أصل الرسالة وذاكرة الأمة. لقد جاء قراره بجمع القرآن بعد موقعة اليمامة، حيث استشهد عدد كبير من حفظة القرآن الكريم، خوفاً من ضياع الذِكر والأمانة المعرفية.

فالتهديد عند الصدّيق لم يكن مادياً فحسب، بل وجودياً. أدرك أبو بكر بعبقريته الفذّة أنه لا قيمة لمال أو قرار سيادي لدولة تفقد “ذاكرتها المقدسة” أو “منهاجها المؤسس”. إنَّ هذا القرار ليس مجرد إنجاز ثقافي، بل هو أول مشروع استراتيجي تمويلي ضخم لحماية هوية الأمّة.

وهنا يكمن الدرس المعاصر: إنَّ أخطر ما يأتي به “الاحتلال الناعم” اليوم هو محاولة تجريف الذاكرة والمناهج، لشراء صمت الأجيال القادمة. فإذا كان أبو بكر قد أنفق المال والجهد لحماية المصحف، فإننا اليوم مدعوون لإنفاق المال لحماية المحتوى الفكري من الضياع الاستثماري؛ لأنَّ القائد الذي يبيع الوعي اليوم سيبيع أرضه وكرامته غداً.

سياسات عملية

إننا ندعو إلى ترجمة موقف الصدّيق، رضي الله عنه، إلى ثلاثة محاور عمل استراتيجية:

  1. السيادة المالية الجماعية (مبدأ قتال مانعي الزكاة):

يجب تأسيس هيئة سيادية تكافلية إقليمية (أو عالمية) هدفها الأساسي دعم الكيانات والدول الإسلامية التي تتعرض للضغط المالي. هذه الهيئة لا تعمل كـ “منظمة خيرية” تقليدية تتبع المزاج المالي للمانحين، بل كـ “مصرف سيادي” يضمن تمويل الدفاع والتنمية للمناطق المتضررة دون شروط سياسية.

  1. ميثاق النزاهة القيادية (مبدأ الراتب الموقوف):

إنَّ حربنا ضد التبعية الخارجية لن تنجح ما لم تُحسم معركة الفساد الداخلي. يجب إلزام قيادات الحركات والتجارب السياسية الناشئة بتطبيق ميثاق للنزاهة القيادية يحدد سقف الرواتب ويفرض الإفصاح العلني، ليكون جداراً منيعاً ضد الفساد الذي يجعل دولنا فريسة سهلة للتمويل المشروط.

  1.  صندوق الأمانات المعرفية (مبدأ حماية الذاكرة):

يجب تخصيص نسبة ثابتة من الموارد المالية (كالزكاة أو الاستثمار) لـ “الحماية المعرفية”. يتم هذا عبر تأسيس “صندوق الأمانات المعرفية”  الذي يُموّل:

  • البحث العلمي والمراكز الفكرية التي تقاوم الردة الفكرية العلمانية.
  • تطوير المناهج التي تحافظ على الذاكرة والهوية في المناطق المتضررة.
  • إنشاء بدائل إعلامية قوية تضمن أن يكون صوت الأمة حراً وغير مرهون بتمويل يفرض عليه “أجندة السلام الاقتصادي“.

الخاتمة:

لقد شهدت الأمة ثبات الصدّيق الأسطوري يوم فراق النبي ﷺ، يوم أن كان صخرة الحسم التي أعادت للأمة بوصلتها العقدية. هذا الثبات لم يكن نابعاً من قسوة، بل من إدراك عميق للمسؤولية، حتى وهو صاحب القلب الأسيف الذي لا يُخفي دمعته.  كان أبو بكر الصدّيق نموذجاً للقيادة التي تُحكِّم الرسالة لا العاطفة المجرّدة، وتُقدِّم السياسة المالية الحكيمة على الامتياز الشخصي.

إنَّنا اليوم نواجه ذات المعادلة: إما قتال على العِقال، أو تسليم للقرار؛ إما نزاهة القائد التي تُحصّن الداخل، أو فساد القائد الذي يفتح الأبواب للتبعية الناعمة. فليكن موقفه من الزكاة درساً لـ وحدة المال التكافلي على مستوى الأمة، ولتكن نزاهته في الراتب درساً لـ تطهير القيادات من آفة الاستغلال، وليكن حرصه على جمع القرآن دليلاً لنا على أنَّ الذاكرة والمعنى هما أغلى ما نملك.

إنَّ من يظن أنَّ غزة التي قدمت دمها مهراً لكرامتها يمكن أن تُستبدل سيادتها بعقود إعمار، لا يفهم لا سُنن التاريخ ولا عظمة مواقف صحابة رسول الله ﷺ وعلى رأسهم الخليفة الأول، أبي بكر الصديق (رضي الله عنه). فالسيادة ليست مشروعاً يُشترى ولا سلعة تُباع، بل هي قرارٌ يُصان بـ “سياسات” حاسمة تُبنى على الزهد في المال، والغيرة على الرسالة، والقتال على الحقّ كاملاً غير منقوص.

فالدرهم الحاسم، الذي يقف بين كرامة الأمة وذلّ التبعية، لا يُشترى أبداً… بل يُصان بدم الوعي وسياسات القدوة.

علي جاد المولى

كاتب مصري ومهندس نظم مقيم في تونس، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الأزهر، وشهادة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى