معهد بروكنجز: العودة إلى لعبة الشرق الأوسط العظيمة (الجزء الأول)

يبدو أن الأحداث في المنطقة تلح علينا في إعادة قراءة تحليل  مارتن شين، أحد أهم خبراء العلاقات الدولية الأمريكية، ونائب رئيس ومدير قسم السياسات الخارجية لمعهد بروكينجز، واسع النفوذ في واشنطن، في تحليله للسياسة الأمريكية في فبراير (شباط) العام الماضي، والمعنون بـ«العودة إلى لعبة الشرق الأوسط العظيمة».

مارتن س. إنديك هو نائب مدير عام بمعهد بروكينكز بواشنطن العاصمة، وسفير الولايات المتحدة السابق إلى إسرائيل لفترتين، وهو المدير التأسيسي لمعهد سابان لسياسات الشرق الأوسط في بروكينجز. خلال الفترة الرئاسية لكلينتون، عمل إنديك كنائب وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى، ومساعد خاص للرئيس، والمشرف العام لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي.

http://gty.im/146215117

في الجزء الأول من جزئي المقال، يستعرض مارتن إنديك الخيارات المتاحة للولايات المتحدة بالنسبة للشرق الأوسط: إما سيادة مشتركة مع إيران أو طريقة العودة إلى المستقبل* والتي تعتمد على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين،
وفى الجزء الثاني يجادل عن إختياراته.

العودة إلى المستقبل – back to the future : بمعنى محاولة العودة للطرق القديمة في المستقبل، إشارة لسلسة أفلام
شهيرة بنفس الاسم.

الجزء الأول من المقال

لا يوجد مكان في العالم اليوم حيث الفوضى أكثر انتشارا وإعادة فرض النظام أولى بالاهتمام من الشرق الأوسط. “اللعبة
العظيمة” بين القوى العظمى المتنافسة ربما بدأت في أواسط آسيا ولكنها وجدت أقصى صورها تطرفا في “ملتقى طرق
الإمبراطورية”، في الشرق الأوسط. لا يمكن للولايات المتحدة أن تكف عن اللعب، طالما وجدت اهتماماتها هناك.

لطالما كانت للولايات المتحدة استراتيجية للتعامل مع الشرق الأوسط، تعرف باستراتيجية “الركائز” pillars وكانت مبنية
على العمل مع القوى الإقليمية الحريصة على بقاء الوضع الراهن كما هو: إيران، والسعودية، وإسرائيل، وتركيا. ولكن التحدي
الحقيقي كان باحتواء القوى التقدمية (التصحيحية – revisionist): مصر، والعراق، وسوريا المدعومين من الاتحاد السوفيتي.

وبمرور الوقت، خسرت الولايات المتحدة الركيزة الإيرانية ولكنها اكتسبت الركيزة المصرية، داعمة للنظام العربي السني، ولكن
مواجهة لقوى ثورية شيعية في الخليج الآن.

*ملحوظة: يقصد الكاتب بالقوى التقدمية، الثورات التي غيرت الأنظمة الحاكمة في مصر وسوريا والعراق في الخمسينات والتي ناهضت أمريكا بشكل واضح في مواجهة الأنظمة الحليفة لأمريكا وقتها: إيران وتركيا والسعودية وإسرائيل بالطبع.

في عام 1992 ، صارت الولايات المتحدة القوة المسيطرة في المنطقة، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وطرد جيش صدام
حسين من الكويت. وبعد ذلك اتبع بوش-الرئيس 41 -وكلينتون- 42 -استراتيجية مشتركة لحفظ الاستقرار تتضمن ثلاث مكونات:
1- السلام الأمريكي: حل شامل بدعم أمريكي للصراع العربي الإسرائيلي.
2- احتواء مزدوج للقوتين الثوريتين: عراق صدام حسين وإيران آية الله.
3- الاستثناء العربي: شركاء أمريكا في حفظ نظام الشرق الأوسط من القوى العربية الفاشية –الديكتاتورية-تم غض الطرف عن
معاملتهم لمواطنيهم.

ولعقد كامل عملت هذه الاستراتيجية بشكل جيد إلى حد ما بخصوص حفظ نظام المنطقة. ولكنها بدأت تتهاوى تماما عقب
أحداث 11 سبتمبر حيث قررت الولايات المتحدة استبدال الاحتواء بتغيير النظام، الإطاحة بصدام حسين بطريقة متهورة فتحت أبواب بغداد أمام إيران. توقفت عملية السلام العربية الإسرائيلية وقاومت بعناد كل محاولات إعادة استمرارها. والاستثناء العربي تولدت عنه كل الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة حديثا.

وفي خضم هذه الأحداث، انهار النظام الموجود واستبدل بدول منهارة، ومساحات غير خاضعة لحكومة مركزية، وصعود القاعدة وداعش لتصدر المشهد. ومع هذا لا يحبذ التوق إلى النظام القديم، فاستقراره لطالما اخترقته صراعات وانقلابات بشكل متكرر
ودفع ثمن هذا الاستقرار بقمع الشعوب. ولكن انهياره اظهر للعيان ثلاثة صراعات رئيسية تغذى بعضها وتنتج اضطرابات حادة في
المنطقة:

1- الصراع الطائفي بين السنة والشيعة: بدأ في لبنان ولكنه استعر بنار الحرب الأهلية في العراق لينتشر بعد ذلك في سوريا والبحرين واليمن. السعودية وإيران هما اللاعبان الأساسيان في هذا الصراع مع اتساع السيادة الإيرانية تدريجيا في بيروت ودمشق وبغداد ومؤخرا صنعاء.

2- الصراع داخل نطاق الطائفة السنية نفسها: بدأت كصراع بين القاعدة وبالتالي داعش وبين الشيوخ الملوك المدافعين عن نظام الحكم العربي السني القائم. ولكن الربيع العربي دفع بتهديد أكبر للنظام العربي المتخندق في حالة الدفاع عن الوضع الراهن وتمثلهذا التهديد في الإخوان المسلمين.

3- الصراع مع إسرائيل: منذ توقيع اتفاقيات السلام مع مصر والأردن، وقد تطور الوضع إلى صراع حاد مصحوب بانتفاضات عنيفة بشكل دوري بين دولة إسرائيل ومنظمات –وليس دول-على الحدود مثل غزة، وجنوب لبنان والآن الجولان.

استعادة النظام بدلا من هذه الفوضى هي في الحقيقة مهمة معقدة لأي قوة خارجية. ولكنها أصعب بشكل خاص بالنسبة
للولايات المتحدة لأن شعب الولايات المتحدة نفسه أرهق من القتال في حروب على الأرض* في الشرق الأوسط ورئيس الولايات المتحدة ملتزم جدا بألا يبدأ حربا جديدة. كما أن رهان الولايات المتحدة على هذه المنطقة انخفض بتوقف اعتمادها على بترول الشرق الأوسط.

*ملحوظة: حروب على الأرض: ground wars المقصود بها الاعتماد على قوات عسكرية على الأرض بدلا من استخدام الطائرات بدون طيار مثلا مما يهدد بشكل كبير الجنود الأمريكان نفسهم.

ومع هذا، لا يمكن للولايات المتحدة أن تنسحب وتترك “اللعبة العظيمة”. كما دلت التجربة في العراق، فإن الفراغ السياسي
سيمتلأ بممثلين سيئين يضمرون نية تهديد أمن الولايات المتحدة نفسها. حلفاء الولايات المتحدة طويلو المدى-إسرائيل والملوك العرب- يعتمدون على الولايات المتحدة بشكل رئيسي لضمان بقائهم وجودة أوضاعهم. وفي حين أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على بترول الشرق الأوسط، إلا أن شركائها التجاريين الرئيسيين في آسيا وحلفائها في أوروبا لا يزالون معتمدين عليه. أي تعطيل لإمدادات البترول من الخليج سيشكل ضربة قاسية للاقتصاد العالمي الذي يعاني بالفعل مما سيرتد بآثاره السلبية على الاقتصاد الأمريكي المتعافي عن قريب.

غير قادر على التخلي عن دوره في المنطقة، تعالج إدارة أوباما كل مشكلة في المنطقة على حدة: مفاوضات حامية الوطيس مع إيران لتحجيم برنامجها النووي، عمليات عسكرية محسوبة بدقة لإضعاف وهزيمة داعش في العراق والقاعدة في اليمن، مجهود فاتر العزم لاحتواء داعش في سوريا، ومجهود بائس لتحقيق سلام فلسطيني-إسرائيلي. إذ ترفض الإدارة وصل النقاط خوفا من الانجذاب إلى نفس الدوامة.

ولكن ما هم بحاجة حقيقية إليه هي استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل هذه الحقائق. وأول خطوة لتحقيق ذلك، مع وضع قيود
استخدام القوة بعين الاعتبار، لا بد للولايات المتحدة من العمل مع تحالف من القوى الإقليمية لتعويض الفارق*. وهناك خياران فقط لتحالف مثل هذا:

*ملحوظة: يقصد فارق تحجيم التدخل العسكري الأمريكي المباشر.

1- سيادة مشتركة مع إيران: جوهر هذا الاتجاه يكمن في تغاضى الولايات المتحدة عن سيادة إيران في الخليج في مقابل اتفاقها على تحجيم برنامجها النووي، وتقليص مساعداتها لحزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في غزة، والحوثيين في اليمن،وبشار الأسد في سوريا، وبدلا من ذلك تساهم في بناء نظام حكم أمريكي-إيراني جديد.

2- العودة إلى المستقبل: هذا الاتجاه سيتطلب من الولايات المتحدة العودة إلى الاعتماد على حلفائها التقليديين في المنطقة: السعودية، ومصر، وإسرائيل، وتركيا. هدف استراتيجية “الركائز” المحدثة سيكون استعادة نظام الحكم القديم المبني على احتواء إيران وصد تقدماتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن مع تحجيم برنامجها النووي. ونفس هذا التحالف مع الحلفاء التقليديين لا بد أن يكون لديه الحس الأمني الكافي للعمل بشكل فعال مع الولايات المتحدة ضد داعش والقاعدة. سيسارع القراء بشرح صعوبات كل اتجاه، يمكنني بالفعل سماع أصوات الاعتراض: اتباع المسار الأول تصرف ساذج، واتباع الثاني سيكون مثار للسخرية. ولكننا لم نعد بعد نمتلك ترف الانتقاد من صالة العرض أو اثناء لعب اضرب الخلد*. لا بد من الاختيار.

*ملحوظة: whack a mole لعبة مشهورة تتمثل في عدة فتحات يخرج منها بشكل عشوائي لعبة تماثل الخلد لا بد من ضربها بسرعة قبل اختفائه مرة اخرى. يقصد الكاتب هنا التأكيد أن ترف الانتقاد بدلا من الاختيار لم يعد مطروحا.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى