5 أسئلة تشرح لك، القوة البحثية لمراكز الفكر الأمريكي
إذا كنت تظن بأن المعركة التي نخوضها الآن هي معركة متعلقة بـميزان القوة المادية فقط، فـلابد أن تعيد النظر من جديد، وإن كنت تعتقد بـ أن القرارات التي تُتخذ لدي عدوك لا علاقة لها بمراكز الأبحاث والدراسات وغير مبنية على معلومات دقيقة تستبق القرار بخطوات متعددة، فلابد أن تُكمل قراءة هذا التقرير.
أما إن كنت تعتقد بـأن المعركة متكاملة وأن الحديث عن القوة المادية للنظام العالمي بمعزل عن الدعم الفكري والبحثي والمعلوماتي الذي توفره لهم مراكز الأبحاث والدراسات هو محض وهم وأن القوة البحثية هي أخطر ما ينبغي لفت انتباهنا وأنها هي المحرك الأساسي للقرارت فـها هنا ستجد ما يهمك بالفعل.
ماذا نقصد بخلايا التفكير؟
لمراكز الفكر (خلايا التفكير) -(بالإنجليزية: Think tanks) – أو بيوت الخبرة دور كبير في رسم وصناعة السياسات في العالم خصوصًا في الولايات المتحدة ومثلها دولة الاحتلال (إسرائيل)، حيث غالبًا ما ترتبط الحكومات والوزارات وحتى الأحزاب والشخصيات السياسية بمراكز تتكون من باحثين ومتخصصين يقدمون المعلومات والإرشادات بشأن اتخاذ القرارات، وهي منظمات في العادة غير ربحية تهدف لتقديم المشورة لمن يطلبها وفي مناقشة قضايا معينة.
ستة من الأشخاص الذين شاركوا في هذه الدّراسات دخلوا الحكومة في عهد الرئيس بوش الأب في مراكز حساسة
بعض هذه المراكز تُنشِئها الحكومات وأجهزة الاستخبارات وتكون تابعة لها بشكل ما، وبعضها الآخر مراكز خاصة يشكلها باحثون أغلبهم من السياسيين السابقين، وتقدم استشارات مدفوعة الأجر للحكومات والأحزاب والشخصيات، كما توفر بعض هذه المراكز بعض خدماتها وأبحاثها للجمهور سواء بشكل مدفوع أو بشكل مجاني.
مراكز التفكير في واشنطن
لا يمكن أن تترك أمريكا هذا الأسلوب الدقيق في التفكير دون أن تنهجه وتعده نبراسًا للاتخاذ القرار أيًا كانت درجة خطورتها، حيث تصدرت الولايات المتحدة قائمة دول العالم من حيث مراكز الفكر بإجمالي (1830) مركزًا، تلتها الصين بإجمالي 429 مركزًا ثم بريطانيا (287)، وألمانيا (194) والهند (192) وفرنسا (177)، والأرجنتين (137) وروسيا (122)، واليابان (108)، وكندا (99).
من ضمن المراكز البحثية الأمريكية هناك 9 مراكز تعد من أهم المراكز البحثية وأكثرها نفوذا وتتراوح ميزانيتها ما بين 3ملايين إلي ثلاثين مليون دولار
وتطلق جامعة بنسلفانيا مؤشرًا لأهم مراكز الفكر الموجودة في العالم كل عام، ويشمل المسح أكثر من 6000 مركز بحثي تنتمي إلى أكثر من 51 دولة وبعشرين لغة مختلفة، حصدت أمريكا فيها مراتب متقدمة ضمن المراكز الخمسة “الأولى والثالثة والرابع” .
اقرأ أيضا: كيف قامت الخلافة الأمريكية؟
ما الذي تفعله خلايا التفكير في بلاد سام؟
تقدم الكثير، حسب تنوع وتخصص هذه المراكز، إلا أننا نستطيع أن نجمع الخدمات في النقاط التالية:
- تقويم السياسات السابقة، ووضعها في إطارها التاريخي والسياسي السليم وتحديد الآثار بعيدة المدى للسياسات المتبعة تجاه الأصدقاء والأعداء على حد سواء، فيما يتعلق بمصالح أمريكا ومكانتها الدولية خاصةً.
- طرح الأفكار والآراء الجديدة، واقتراح السياسات البديلة، خلال المدة التي تسبق مباشرة انتقال السلطة من إدارة إلى أخرى، أو بعد حدوث حوادث كبرى أو بروز ظواهر جديدة أو مستجدات ( مثل 11 سبتمبر، وقضايا الإرهاب)، وذلك كي تكون تلك الأفكار والمقترحات تحت تصرف صانعي القرار السياسي الجدد، ومن الأمثلة على ذلك:
- قيام كل من معهد بروكينغز ومعهد دراسات الشرق الأوسط بنشر دراستين عن أزمة الشرق الأوسط خلال السنة الأخيرة لفترة رونالد ريغان الثانية تحت عنوان (نحو سلام عربي- إسرائيلي) والثانية كانت بعنوان (مصالح الغرب وخيارات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط) فبراير 1988 .
- ما حدث بعد انتخابات عام1980، عندما تبنت حكومة رونالد ريجان مطبوعة مؤسسة هيرتيج (Heritage Foundation) عنوانها “تفويض للتغيير” كبرنامج عمل للحكم.
- صدور تقرير سنة 1992 أعده معهد الاقتصاديات الدولية ومؤسسة كارينجي للسلام الدولي (Carnegie Endowment For International Peace) يقترح إنشاء مجلس أمن اقتصادي وقد وضعت إدارة كلينتون التي تسلمت الحكم فيما بعد هذا الاقتراح موضع التنفيذ بإنشائها المجلس الاقتصادي وهذا الجهاز مازال يعمل إلي يومنا هذا.
- استحداث تكتيك ” الفوضى الخلاقة” في الولاية الثانية للرئيس الأمريكي جورج بوش من خلال بيوت الفكر الأمريكي.
- التأثير في الرأي العام وفي صناع السياسة والقرار السياسي من خلال عقد الندوات والمؤتمرات ونشر الكتب والدراسات، وإصدار النشرات والمجلات ونشر التقارير وإعداد البرامج الإذاعية والتلفزيونية وتقديم التحليلات، لتبرير سياسات معينة أو نقدها أو لترويج أفكار جديدة وتعميمها، وبذلك تتعزز المكانة الأدبية لمراكز التفكير والمفكرين.
- إمداد وسائل الإعلام وبرامجها بالخبراء والمحللين القادرين على تحليل الأحداث والتنبؤ بها، خاصة في أوقات الأزمات.
- القيام أحياناً بإجراء الاتصالات السرّية مع جهات أجنبية لحساب الحكومة الأمريكية ومحاولة جس النبض قبل طرح بعض المبادرات السياسية وبلورة مواقف ومصالح الأمة المشتركة، وتجسيد ذاكرتها الجماعية، وتنمية قدرتها التراكمية في مجالات الفكر والسياسة والإعلام.
- هذه الخدمات وغيرها تقوم بها مراكز التفكير الخاصة والمهتمة بقضايا السياسة بصورة عامة ولكن هناك مراكز أخرى ذات اختصاصات مختلفة (كالصحة، والنشاطات الاجتماعية، والتعليم، … الخ )، وغيرها من المجالات المتنوعة.
اقرأ أيضا: تحليل لدراسة كارنيغي “تصاعد التمرد الإسلامي في مصر”.
ما الدور الذي تلعبه في السياسة الأمريكية؟
ومن مجمل ما تقدم يمكننا أن نستنتج أن للمراكز البحثية الاستراتيجية الأمريكية أو ما تسمى ببيوت الفكر أو (صوامع التفكير الاستراتيجي) أثر ملموس وواضح على السياسة الخارجية الأمريكية وطبيعة توجهاتها والأدوات التي تستخدمها في تنفيذها وعلى هذا نؤكد ما جاء في الفرضية الرئيسة التي طرحناها في أعلاه واستنتجنا الآتي من كل ما سبق:
تأكيد تواصل مراكز البحوث و الدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة مع مواقع صناعة القرار ومواقع العمل السياسي والدبلوماسي لتبادل الأفكار والخبرات و تبني المشاريع والدراسات التي تتعلق بالاستراتيجية الأمريكية وبأمن الولايات المتحدة القومي.
- تبني الإدارة الأمريكية عدد ليس بقليل من المشاريع والتكتيكات الاستراتيجية التي تطرحها مثل هكذا مراكز وتعد بمثابة مراجعات لتقييم عمل الإدارة الأمريكية وإضافة إلى تقديم المقترحات من قبل هذه المراكز إلى الإدارة الأمريكية .
- استقطاب و استخدام الطاقات الأمريكية ذات الخبرة العالية والإبداع في المجال الوظيفي في حلقات ودوائر صنع القرار لتشارك في مختلف المراحل في مجالات عديدة لإثراء البحوث والدراسات والندوات والحلقات الدراسية التي من شانها أن تخدم صانع القرار الأمريكي.
- تمكين الطاقات البحثية من الخروج خارج المواقع البحثية الأكاديمية ودعمها للتحرك والاحتكاك بدوائر صنع السياسة والقرار السياسي و الدبلوماسي الأمريكي.
- تشجيع الاتصال و تبادل الخبرات فيما بين مراكز ومؤسسات البحوث أفقياً و عموديا وداخليا و خارجيا مع مراكز السلطة وصنع القرار في الولايات المتحدة.
ما حجم النفوذ والقوة التي تتمتع بها مراكز الفكر الأمريكي؟
استفحلت هذه المراكز الآن وباتت تتصدر مراكز القوى في واشنطن وباتت هي الحكومة وهي صاحبة القرار وما الرؤساء إلا واجهة لهم، ولك أن تعرف مثلا أن كثيراً من رواد قطاع مراكز الفكر على علاقة وطيدة بالسياسيين الأمريكيين أو بالأحرى بالسياسة بصورة عامة في الولايات المتحدة، فهم إما أنفسهم صناع القرار والسياسة السابقين أو سيصبحون صناع السياسة في المستقبل. لأن تقاليد السياسة الأمريكية تحتّم قيام كل رئيس جديد بتعيين حوالي (4000) شخص في مناصب سياسية وإدارية وقضائية هامة، من بينهم (600) شخص كوزراء ومستشارين ونواب وزراء ومساعدي وزراء وموظفين في البيت الأبيض وحوالي (1000) شخص كسفراء وقضاة وحوالي(2200) شخص كمستشارين وأعضاء في اللجان المختلفة التي يتم تشكيلها لمتابعة القضايا المختلفة والهامة. وفي العادة تأتي غالبية هؤلاء من مراكز التفكير والأبحاث ومكاتب المحاماة الاستشارية الخاصة المتواجدة في العاصمة واشنطن .
وقد حذر أيزنهاور الرئيس الأمريكي قبيل نهاية ولايته من هذه القوة القادمة بشراسة، ومشددا على خطورة التحالف بين المجتمعين الصناعي الثقافي العسكري، فـ على الديمقراطية الأمريكية، ومما قاله أيزنهاور في هذا الخطاب:
علي أن أقول صراحة إن هناك الآن مجموعة صناعية عسكرية مالية سياسية وفكرية تمارس نفوذاً غير مسبوق في التجربة الأمريكية. ومع أننا نتفهم الظروف التي أدت لنشأة هذه المجموعة فإننا لابد أن نحذر من وصولها إلى مواقع التأثير المعنوي والسياسي والعملي على القرار الأمريكي، لأن في ذلك خطراً شديداً على المجتمع الأمريكي قبل أن يكون خطراً على غيره…..ومن سوء الحظ، أن الثورة التكنولوجية التي تتدفق نتائجها على عالمنا اليوم، تساعد أطراف هذا المجمّع الخطر، وتزيد من قدراتهم وتمكنهم من السيطرة على برامج الإدارة ومخصصات إنفاقها، خصوصاً أن قوة أموالهم توفر لهم تأثيراً فادح التكاليف على مؤسسات الفكر والعلم …..علينا أن نحذّر من اكتساب نفوذ لا سابق له عبر ذلك الارتباط بين المجمع الصناعي العسكري والقوات المسلحة. علينا أن لا ندع ذلك الارتباط للمجمع الصناعي – العسكري بالقوات المسلحة يعرض حريتنا و مسيرتنا الديمقراطية للخطر.
وبذلك يمكن التعرف على حجم النفوذ الذي تتمتع به هذه القوى داخل مراكز الأبحاث ومؤسسات التفكير الأمريكية عبر التمويل الذي تقدمه فنرى مؤسسات وشركات مثل لوكهيد مارتن وشيفرون وروكفلر وفورد وسيتي غروب وأسماء مثل روبرت مردوخ وغيره تقف على رأس قائمة الممولين لهذه المراكز وبالتالي فإنها ستقدم دراسات ورؤى تخدم توجهاتهم ومصالحهم .
وهذا ما أكدته “نيويورك تايمز”، في تحقيق لها اذ قالت “إن أكثر من 10 مراكز بحثية بارزة في واشنطن تلقت عشرات الملايين من الدولارات من الحكومات الأجنبية في السنوات الأخيرة، فيما عملت هذه المؤسسات على دفع مسئولي الولايات المتحدة إلى تبني سياسات غالبًا ما تعكس أولويات المانحين، وتقول الصحيفة إن الأموال الأجنبية حولت كبار مؤسسات الفكر إلى أذرع ضغط للحكومات الأجنبية على الإدارات الأمريكية”
وهذا ما كشفه في العام 2008 الكاتب جون بيركنز قرصان مالي عالمي جاب الدول لإخضاعها اقتصاديًا من بوابة الدراسات المالية والفكرية وكيف يمكن أن تقدم مشاريع لهذه الدول ومنح وعطاءات مثل محطات طاقة والمطارات وشبكات طرق وشبكات اتصالات، عبر قروض ذات فائدة كبيرة تعجز الدول عن سدادها وعليه تصبح الدولة ملكًا لها وتفرض عليها :
- الموافقة على تصويت ما في الأمم المتحدة.
- السيطرة على موارد معينة في البلد المدين.
- إقامة قاعدة عسكرية بأراضيها.
- إغماض العين عن غزو بلد مجاور.
- المساعدة في غزوه لوجستيًا تارة وماديا تارة أخرى.
ما علاقتنا نحن في كل هذا؟
بالرغم من وجود مراكز بحثية كثيرة في بلادنا إلا أن معظمها مراكز مشبوهة لا تصب في صالح هذه الأمة؛ فهي إما مدعومة من الأنظمة تعمل لصالحها أو هي مراكز تعيد إنتاج القيم التي يريد الغرب تثبيتها فينا، وأحسنها حالا اختارت لنفسها أن تنعزل عن المعركة الحقيقية ضد منظومة الاحتلال الدولي، وأما المراكز الغربية فمتابعتها يساعد على فهم تصورات أعدائنا وطريقة تفكيرهم لكنها لا تصلح أبدا أن تكون مصدر التلقي والمعلومات لدى الشباب ولا يصح التعامل مع نتائجها على أنها مسلمات، فضلا عن كونها قد تأسست أصلا لخدمة أعدائنا.
ويجب أن يعرف الشباب – إذا كانوا فعلا جادين في معركتهم – أننا في معركة صعبة شاقة تحتاج إلى نفس طويل جدا وتحتاج إلى خطوات متأنية وثقيلة، والمعركة لن تتزن إلا إذا تمكنا من مواجهة المنظومة القائمة باستقلال تام في كل شيء وقمنا بسد كل الثغور التي تأتينا سهام العدو منها واستخدمنا نفس الأدوات التي يتم مواجهتنا بها، لذا نحن في أمس الحاجة لمراكز فكر ودراسات تعمل على إنتاج فكري مميز من تحليلات خاصة، أو تنظيرات، أو متاباعات للتقارير الخارجية التي يتم ترجمتها التعليق عليها، وذلك حتى يساعد شباب الأمة في بناء فكر صحيح وتصور ثاقب حول هذا الواقع المعقد الذي يعيشونه وليقوم بدوره في التوعية ونشر المعرفة وتفتيح أذهان شباب أمتنا نحو الحق.
للتائهين من شبابنا في هذا الواقع الحقير الذي لم نشارك في رسمه، اعلم أن ما أنت فيه من مأساة، وما أصابك من حيرة ومعاناة لن يكون الخروج منه إلّا بالعلم والمعرفة والتفكير، ومغادرة ركب التبعية والتبرير، وطرح ما يدور في خلدك من تساؤلات وجب أن يكون لها تفسير.
إنك اليوم تعيش في تنظيرات الأمس! وإن ما نُظِّر له للمعركة منذ ثلاثين أو أربعين سنة، قد أنتج لنا هذا الواقع الذي تتجرع اليوم مرارته، ألا إن حقائق الغد – والله – لن تكون إلا نتاجًا لتنظيرات اليوم.
فلو قيل لي أن معركة التغيير ستستغرق ١٠ سنوات بالضبط، لما شككت لحظة أن ثماني سنوات كاملات منها أو ربما أكثر، سيتم إنفاقها فقط في امتلاك رؤية هذا التغيير، رؤية لها ثلاث محاور لا يغني فيها محور عن الآخر :
– رؤية للواقع المنحط الذي نعيش فيه
– ورؤية للواقع الآخر الذي سنعلن أننا منتقلون إليه
– ورؤية بالطريق الذي ينقلنا من هذا إلى ذاك.
وامتلاك ربع الرؤية يمكن أن تحصله من القراءة والدراسة والتأمل، وأما ثلاثة أرباع هذه الرؤية فتكمن في العمل بهذا الربع، ومن يظن أن رؤيته ستكمل بلا عمل فلن يصل، كمن يظن أنه يمكنه الوصول بلا رؤية مطلقًا!
اللهم نورًا من بين يدينا ومن خلفنا نرى به الحق حقًا والباطل باطلًا يا كريم.
المصادر
*اقتباسات من كتابات م. أحمد سمير
*البيان التأسيسي للإعلان عن مركز منهاج للدراسات.