
صفحات من دفتر الالتزام: موقعك من هذه الأمة
- الاستقامة لها ثمراتٌ ولها غاياتٌ… ثمراتها تظهر عليك وعلى أمتك، وغاياتها تتلخص في غاياتك لنفسك ولأمتك…
لا يمكن لمن عرف درب الاستقامة أن يعيش بمعزلٍ عن هموم الأمة. بل إن الاستقامة تدفعك دفعًا لتَحمِلَ مسؤوليتك كفردٍ في أمتك.
تأمل في سير الصحابة والصالحين، كان لاستقامتهم كل الأثر في أمة الإسلام، شهد التاريخ بركات هذه الاستقامة لتصل إلى آفاق الأرض تبسط عدالة الإسلام في ربوعها وتُعلِّم البشرية كيف صنع الإسلام من هممٍ بشريةٍ لم تختلف عن البشر إلا بإيمانها ودينها.
هكذا كنْ.
كن صاحب الأثر في أمتك، من يتحسس الثغرات فيسدها… من يبحث العلاجات فيكون سببًا في تحصيلها، كن المصلح فإن الأمة بحاجةٍ ماسةٍ اليوم للمصلحين… لجهود كل الملتزمين… من أدرك الداء وعلم أين الدواء، من عرف لِمَ خُلق وعلم دوره في الحياة…
إن الأمم تُخلق وتندثر ولكن، يبقى أثر حضارتها في التاريخ يؤكد صلاح عملها أو فساده، ولم تتمكن أمةٌ في تاريخ البشرية من تحقيق قمة العدالة والازدهار في العالم كما حققتْه أمة الإسلام، خير أمةٍ أُخرجت للناس.
ولكن هذا الإنجاز وهذا السبق لم يكن دون قلوبٍ مؤمنةٍ واعيةٍ مسؤولةٍ تواقةٍ باذلةٍ ومسابِقةٍ…
ليكن لك موطِأُ قدمٍ في مسيرة هذه الأمة… ليكن لك أثرٌ لا ينمحي. لتكن لك بصمتك، ليكن لك الدور الفعال في نهوضها من جديدٍ وترميم بنيانها وتمهيد الطريق لقيادتها الأممَ مرةً أخرى.
لا تنظر بتشاؤمٍ لمشهدٍ يكسوه الظلام اليوم، ظلام النفوس البشرية التي حملت الإسلام اسمًا لا عملًا، مَنْ رَكَنَتْ ركونَ المتخاذِل وتركَتْ طريق النور الذي يوصِل لسعادة الأمم.
لا تستصغِر جهدًا يُبذل منك فإن نهوض الأمة يكون ببركات الجهود المتضافرة، فلو عقِل الناس هذه الحكمة، لما استصغر أحدٌ إماطة الأذى عن الطريق.
قد تقول، وماذا يمكنني أن أقدم أنا العبد الفقير في بحرٍ متلاطم الأمواج تقوده قُوًى عالميةٌ جبارةٌ، قد أحكمت قبضتها على أمتنا المكلومة ونجحت في تقويض كل فرص الصعود والتحرر من جديدٍ.
أقول، عليك إذًا بدراسة سنن قيام الدول وزوالها عليك بالإحاطة بأسرار النصر والهزيمة، فما زالت تنظِّم هذا الكون سننٌ ربانيةٌ تواتَرَتْ في تاريخ الوجود،ما زالت تتكرر مع كل قومٍ وزمنٍ ليكون المآل معها بفضل الله نصرًا لأهل الاستقامة وخزيًا وذلةً لأهل الطغيان والغفلة.
واعلم أن الله لم يكلفْك بتحمُّل مسؤولية قيادة الأمة بل حمَّلك ما تستطيع تحَمُّلَه، الإصلاحَ ما استطعت، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها أما النهايات فقد تكفل الله بها، (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). [1].
فكِّر ماذا ينقص الأمة في هذه الحِقبة التي توالت فيها النوازل، من ضعفٍ في كل النواحي… من مهانةٍ في عيون سائر الأمم، من استضعافٍ للمسلمين، وابحث ماذا يمكنك أن تقدم.
أحصِ قدراتك وطاقاتك، ابحث ما يمكنك أن تكتسبه من علومٍ ومهارات في سبيل عطاءٍ أفضل، ارسم خارطة أهدافٍ لك، تطمح لتحقيقها، وإياك وشعور البَخس.
إن العمل قد تراه بسيطًا ولكنَّ صِدقَ نيتك قد يجعله مشروعًا عظيمًا، ينفع المسلمين، وتذكر أن رأس مال صفقتك هو الإخلاص.
لا يمكننا أن نحصر المشاريع والأهداف التي يمكنك العمل عليها، فهي كثيرةٌ ومختلفةٌ تختلف بحسب قدرتك وما تَهَيَّأَ لك من الأسباب، بحسب موقعك وما تهيأ لك من الوسائل…
فأنت أدرى بما يمكنك تقديمه، ولا يمكن لأحدٍ آخر أن يدلك على ما يمكنك فعله، لأنك الأقدر على معرفة ذاتك وقدراتك، ابحث عنه أنت حتى تعطيه كُلَّكَ، لا تنتظر أن يَدُلَّك عليه أحدٌ فلن يكون أشد شوقًا منك إلى أدائه ولن يترسخ كقناعةٍ عنده أكثرَ مما هو عندك.
ولأُسَهِّلَ لك السبيل لهذا الإنجاز العظيم ألا وهو التأثير في أمة الإسلام لتتجاوز محنتها، فإني أختصر لك الأمر في طريقين، الأول: أن تبحث عن عملٍ نافعٍ صالحٍ قد انطلق العمل عليه فعلًا، وخلْفَه تسهر هِمةٌ أو هِممٌ مدرِكةٌ، فتنضم إليه بِهِمتِك لتقوى سوقُه ويشتدَّ أكثر ويكون إثمارُه أقرب. والثاني: أن تبحث عن عملٍ نافعٍ صالحٍ، يكون له الأثرُ في هذه الأمة. يمكنك العمل عليه لوحدك أو دعوة من يعينك عليه.
أما الأولى فتحتاج منك البحث والتبصر في العاملِين… وأما الثانية فتحتاج منك التفكر والتلمس لحاجات المسلمين التي يمكن أن يكون لك فيها الأثر.
قد يكون في ميدان العلم أو الدعوة إلى الله وتذكرة المسلمين، أو خدمة المستضعفين منهم ومساعدتهم، أو ميدان الإعلام أو ميدان الاقتصاد، أو ميدان الطب، أو ميدان التكنولوجيا، أي ميدانٍ يمكنك أن تقدِّم فيه بشرط أن يكون الهدف من العمل فيه هو خدمة أمة الإسلام، هو تقوية بنيان أمة الإسلام… هو عودة أمة الإسلام لقوتها وازدهارها وحريتها، فأقبل عليه مخلِصًا لله مستعينًا به متوكلًا عليه ولا تبالِ بعدها لما يمكن أن تحصِّله، فإنما أجرك على الله ولكل امرئٍ ما نوى، أحسِن العمل وأتقِنه ولاعليك بالنتائج إنما النجاح من عند الله هذه حقيقةٌ حفرَتْها التجارب في صدور العاملين، وإنها من قواعد العمل في سبيل الله.
نحن اليوم نبحث في ثمرات هذه الاستقامة، نبحث عن أهدافٍ نبيلةٍ سامقةٍ يحقِّقها الملتزم الذي أفلَتَ أو تجاوز شِراكَ شياطين الجن والإنس بصدقه في الطلب وجِدِّه في العمل ومجاهدته للنفس ومسابقته للهمم.
إذن فلتكن الغاياتُ نظيفةً من كل رياءٍ أو علوٍ في الأرض… ولْتتأمل معي، لو أن هذه الدنيا كانت تساوي جناح بعوضةٍ ما سقى الله فيها الكافر شَربة ماءٍ؟! فكيف تجعل أهدافك دنيويةً، إذًا، لابد أن تكون أهدافك أسمى وأعلى، لابد أن توظف هذه الدنيا لبلوغ العلياء، لابد أن تكون هذه الدنيا وسيلةً لا غايةً، فإنها لا تساوي شيئًا من نعيم الآخرة لمن آمن وصدَّق. فهل تشقى وتكِدُّ وتعمل لتصل إلى هدفٍ دنيٍّ زائلٍ أم تستعين بهذا الزائل لبلوغ مراتب الخلود والسعادة الأبدية.
كن ذكيًا في تحويل الإنجازات الدنيوية إلى صفقاتٍ رابحةٍ أخويةٍ، ولهذا أنت بحاجةٍ لوصفةٍ تحتاج منك الحفظ، تحتاج منك العمل، تحتاج منك الحرص المتين عليها، إنها وصفة الإخلاص والصدق والإتقان، ثلاثيةٌ متلازمةٌ، فإن أخلصْتَ عملك لله، وصدقتَ في طلبه وأتقنت إنجازه كان ذخرًا لك في الدنيا والآخرة بل ولم تحزن لبَخسٍ يصيبه في دنيا البشر أو استصغارٍ أو تحقيرٍ فأنت في النهاية، عاملٌ لله.
ولا ينفي هذا اجتهادَك في كسب الرزق في الدنيا، فإن بعض الناس لديهم خلطٌ في هذا المفهوم، يعتقد أن الركض خلف رزق الدنيا يعني ألا يفكر إلا في هذا الهم!
ونسي أو تناسى (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[2]) ونسي أيضًا أن (اليد العليا خير من اليد السفلى) [3]، ولا يتنافى العمل في سبيل الله مع كسب الرزق والعيش بكرامةٍ لا يُهان معها المسلم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم ولكني أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم فتنافسوها(حُذفت التاء للتخفيف و هي في الأصل“فتتنافسوها“) كما تنافسوها وتُهلِككم كما أهلكتهم”.[4]
ولو أنه تأمل حقًا لوجد أن السعادة الدنيوية هي حمل هَمٍّ عظيمٍ أخرويٍّ ينفعه في الدنيا والآخرة.
وأن حقيقة الإكرام أن يكرم الله العبد بطاعته، والإيمان به ومحبته ومعرفته. والإهانة: أن يسلبه ذلك، قال ابن تيمية رحمه الله: ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر، بل بالتقوى، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.
لقد وضَح الطريق إليك حقًّا…. فما خَلْقٌ أرادكَ يستدلّ
وتذكر في هذه المسيرة دائمًا أن المعاصي قيدٌ وحبسٌ لصاحبها عن الجَوَلان في فضاء التوحيد، وعن جني ثمار الأعمال الصالحة وأن الاستقامة عطيةٌ من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولكن بالقول السديد والعمل الصالح النافع، يعكِس صدق صاحبه وإخلاصه.
ثم إن الهمم المبصرة قد تُلاقي مشقةً في تحقيق أهدافها، ولكن…
إن الأمور إذا استدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل مرتجا
لا تيأسَن وإن طالت مطالبةٌ إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا
إن هذه تذكرةٌ وتوعيةٌ لعظيم المسؤولية التي علينا تحملُها اليوم بالذات، لأن أمتنا بحاجةٍ لنا بحاجةٍ لاستقامتنا والتزامنا وتفانينا في الوفاء لهذا الدين والعمل بجدٍ لنصرته وعزة المسلمين، (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [5]
(وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [6]
الهوامش
[1] الشورى 15.
[2] الذاريات 22.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه الشيخان.
[5] غافر 44.
[6] الإسراء 72