مقتطفات من كتاب حكمة الدعوة: كيف ندعو الناس بحكمة؟
عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
فُرِج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري ثم أطبقه.
يؤكد الحديث قيمة الحكمة في تحديد منهج الدعوة وتكوين أصحابها وإنشاء وقعها. ورغم ذلك، فالحكمة في واقع الدعوة القائم قضية غائبة، وبقي لنا منها في عقولنا مفهوم “اللين” المحدود، وضاعت الأبعاد الهائلة للحكمة في واقع بائس محترق بالفتن. وهنا يشرح لنا الشيخ رفاعي سرور في كتابه «حكمة الدعوة» معنى الحكمة، ويرسم لكل داعٍ إلى الله طريق دعوته. وفي مقالنا اليوم سنتناول جزءًا من كتابه القيّم الذي لا غنى عن قراءته كاملًا.
معنى الحكمة
يعرف الرفاعي الحكمة من خلال أربعة جوانب:
- الجانب الأول: قال ابن عباس:”هي معرفة القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه”. وعند الطبري: “هي العلم بأحكام الله تعالى التي لا يُدرَك علمها إلا ببيان الرسول، والمعرفة بها وما دلَّ عليها، كما أنها إصابة الحق بالعلم والعمل”. نفهم من هذا الكلام أن الحكمة مفهوم منبثق من الشرع، وتعني إصابة الحق والعمل به، أي أنها ليست كلامًا فلسفيًا من بشر.
- الجانب الثاني: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.تدل الآية على إيتاء الحكمة من الله لمن يشاء. عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا”. ويدل الحديث على أن الحكمة بالتعلم. وقول رسول الله: “الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية” دليل على ارتباط الصفة بالتكوين الإنساني. فهذا الجانب هو أن العلاقة بين الحكمة والإنسان من خلال قدر الله بالإيتاء، أو اكتساب بالتعلم، أو استعداد بالطبع الأخلاقي.
- الجانب الثالث: الحكمة هي العدل في القضاء، وهي التجربة كما قال رسول الله:”لا حكيم إلا ذو خبرة”. كما أجمع المفسرون على أن الحكمة هي السنة.
- الجانب الرابع: يقول الحسن بن علي:”إن الحكمة هي الحق في المعنى، والغاية في الإشارة”. ويقول ابن القيم: “الحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسُمّيَت الحكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما وأُوصِلا إلي غايتيهما، لذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصولًا إلى الغاية المحمودة والمطالب النافعة”.
حكمة الدعوة
اتضح من تعريف الحكمة أنها مفهوم واقعي عن أصل شرعي، يستحيل تحقيقه في فراغ عملي، أو إصداره عن عقل بشري. ومن هنا كان إنشاء الواقع الصحيح هو الخطوة الأولى في تحقيق معنى الحكمة؛ فالواقع الصحيح مقياس للحق، وذلك في قول الله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾. فالنهي جاء في صيغة استحالة حدوث الفعل في الواقع الصحيح “لا تجد”.
والواقع الصحيح دليل شرعي، كما اعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة إثباتًا شرعيًا. ولكن، ما المقصود بالواقع الصحيح؟ فالواقع الصحيح يعني (الجماعة المسلمة التي تبلغ كلمة الله، ثم تقاتل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). فإذا كان الواقع الصحيح أول خطوات الحكمة، فإن قيام الجماعة المؤمنة تكون بداية البدايات لتحقيق هذا المعنى.
قيام الجماعة المسلمة
قيام الجماعة المسلمة يقوم على الاتفاق الفكري في الأساس، ولكنه في وضع الفتن أمر صعب؛ لذلك تقوم وحدة الجماعة على الائتلاف القلبي، فإذا كانت الفتنة فكرية فإن الموقف الصحيح التوقف عن الجدل والظهور النظري للاتجاهات الحركية، كما يقتضي استفاضة الحب وتحقيق الود والتجمع بالتآلف القلبي، والتركيز على الهدف المشترك، وهو قيام المجتمع المسلم، وهذا لا يعني تجاهل قيمة الاختلاف الفكري. التآلف في الجماعة ليس عبارة عن شعارات، بل لابد أن يكون كما وصفه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”، وبعد قيام الجماعة ومواجهة الجاهلية ينشأ الإحساس بالخطر على الجماعة، كما حدث مع المهاجرين والأنصار؛ فتتآلف القلوب أكثر وتزداد الجماعة ترابطًا. وعندما تنضبط الجماعة المسلمة تكون هذه أول مراحل إنهاء فتنة الفكر، وبداية العمل على الهدف الرئيسي.
تكوين الفرد المسلم المفكر
بعد عرض الرفاعي لفكرة تكوين الجماعة المسلمة، ينتقل إلي تكوين الفرد المسلم المفكر الواعي، فوجود المسلم المفكر تفكيرًا صحيحًا هو الأساس المتين في بناء هذه الجماعة. والتفكير الصحيح ينتج عن الفهم لكلام الله وسنة رسوله. وترجع قيمة الإنسان في فهم الإسلام إلى الاتفاق بين الحق في الإسلام وبين فطرة الإنسان التي فُطِر عليها مائلةً للحق. وهناك مقياس آخر متمم للفطرة، وهو الربانية. يقول ابن القيم في شرح «الربانيون»: “إنهم يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها”، ويقول: “إن تربية النفس في أربع مراحل، من أتمهن صار من الربانيين:
- أن يجاهد على تعليم الهدى.
- أنيجاهد على العمل بعد علمه.
- أن يجاهد على الدعوة وتعليمه من لا يعلمه.
- أن يجتهد على الصبر على مشاق الدعوة وأذى الناس.
منهج التربية
تبدأ أحكام منهج تربية الدعاة إلى الله وإعداد الفرد المسلم لقيام الجماعة المسلمة كما بدأت في عهد الرسول، ذكر منها الشيخ رفاعي التالي:
١- التهجد: وهو أول ما أمر الله بيه نبيه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)﴾. وفي التهجد عدة فوائد:
- الإخلاص،وهو أن يبتغي بدعوته وجه الله تعالى. وممارسة التهجد تنشئ الإخلاص في أنه عمل لا يراه أحد، فتحميه من الرياء.
- التميز،فالتهجد عمل لا يقدر عليه إلا من لديه عزم وقوة، وفيه حماية من الغرور؛ لأنه تميز يمن به الله على عباده.
- الإرادة،وهي إرادة البدء والاستمرار، التي تعينه على البدء في العمل في الواقع، والاستمرار في العمل.
- الاتزان النفسي؛حيث ييحقق الداعية المستضعف صفة الاتزان النفسي والتقوي بالله، وأنه متصل بالله القادر على كل شيء.
٢- الصيام: وهو مثل التهجد، ويقوي إرادة الامتناع عند الداعية.
٣- الإنفاق: وفيه حماية من صفة البخل، حيث تتحقق له الحماية من البخل والجبن أيضًا وإحلال الكرم والشجاعة محلهما.
٤- الذكر: وتتحقق فيه عدة عناصر، منها:
- إكبار الله عز وجل في مواجهة الجاهلية بضخامتها وإمكانيتها.
- الانشغال بالله،حيث أن الداعية الصادق يعيش كل لحظاته لله.
- الاطمئنان القلبي،وهو ضرورة لمواجهة كل الشدائد التي تحيط بالداعية.
- فيالذكر حماية لقلب وعقل الداعية من آثار الاختلاف الشديد بين تصوره للواقع، والواقع الجاهلي الذي يعيش فيه.
وبالالتزام بمنهج التربية وتحقيق صفة الربوبية يكون المسلم حكيمًا، وتنشأ دلائل الحكمة في أسلوب وسلوك الدعاة وتصرفاتهم السليمة، من هذه الدلائل:
- أن يصبح المسلم بذاته دليلًا على الحق،كسعد بن معاذ عندما حكم على يهود بني قريظة فقال رسول الله: “حكمت بحكم الله فوق سبع سماوات”.
- أن يستطيع المسلم تجريد النص من الخطأ في الفهم أو تحريفه في الكلام،مثل سيدنا علي عندما رفع الخوارج المصاحف على أسنة الرماح وقالوا (نريد حكم الله)، فقال: “كلمة حق يراد بها باطل”
- من دلائل الحكمة ذاتية التصرف،مثلما فعل أبو بصير الذي أعاده الرسول لقريش بسبب نص صلح الحديبية، فقام بقطع الطريق على قوافل قريش ما أدّى لإلغاء هذا النص.
أما عن دلائل الحكمة من الناحية الأخلاقية، فهي في ضبط النفس، والتواضع، والتحكم في الغضب، ولين القلب، وكراهية المدح، وضبط حب التميز في الإنسان بتوجيه هذا الحب للآخرة.
قضية تقييم المسلم للمجتمع الجاهلي
بعد توضيح الرفاعي لطريقة تربية الداعي إلى الله وتكوينه فكريًا، يعرّج على قضية في غاية الأهمية، وهي علاقة المسلم بالمجتمع الجاهلي الذي يعيش فيه، نكتفي هنا بعرض جزء منها وهو تقييم المسلم للمجتمع الجاهلي.
فقيام الجماعة المسلمة يفرض على المسلم تقييم هذا الواقع الذي قامت فيه؛ لأن التصور الذي لا يصل بصاحبه إلى حد تقييم الواقع لا يصل إلى حد الصواب. وتقييم الجاهلية له أساسان: أساس عقدي يقوم به وجود الجماعة في الواقع، وأساس حركي تتم به مواجهة الجماعة لهذا الواقع. فالجاهلية ليست وضعًا ساكنًا، بل وضعًا يملك كل خصائص الحركة وإمكاناتها، والعلاقة بينها وبين الإسلام يرسمها خط مشتعل للتضاد الحركي بينهما.
فالجاهلية دعوة تأثير وتأثر، التزام وتمسك، إصرار ومفاصلة، حركة قتال وإنفاق، كل هذه خصائص للجاهلية تسيطر بها على الإنسان. ولعل هذه الملامح تكون واضحة لأصحاب التربية النظرية الهادئة! هؤلاء الذين يفترضون أن الجاهلية ستتركهم يربون جيلًا إسلاميًا ويُنشئون تجمعًا قويًا. والخطأ هنا عند أصحاب هذا الفهم تصورهم أن الصراع هو صراع بين الإسلام والجاهلية على السلطة، وأن تخليهم عن هذه الفكرة سيتيح لهم فرصة للوجود؛ فهم يغفلون أن الصراع هو رفض الجاهلية للإسلام نفسه، ولو تمثل في صورة فردية.