لماذا يجب أن نتفاءل في الأسوأ؟

إنني أحلم بذلك اليوم الذي يعود الوعي للشعب الصومالي، فيفيء إلى رشده، ليتحرر من القبلية، والتبعية لإثيوبيا وكينيا، فيرفرف على سمائه أعلام الحرية، ويتنفس الصعداء، ويخرج من التيه والحيرة المستحكمة على أبنائه.

هذه التغريدة وضعتها على حسابي في مواقع التواصل الاجتماعي، فكان من ضمن التعليقات والردود التي جاءتني، هذا التعليق الذي استوقفني؛ “إنه حلم مستحيل، ولن يتحقق حتى يلج الجمل في سم الخياط، أخي الكريم ليس هناك معجزة تهبط من السماء، تعيد للصومال مجدها، ما شاهدنا خلال 25 الماضية لبرهان قاطع على صدق ما أقول”! يأس وإحباط، وقنوط من الواقع المزري، والحالة السيئة التي تعيشها الأمة بالتأكيد، إنه شعور ونتيجة لظروف قاسية تتمرغ فيها الأمة في الفترة الأخيرة “أنظمة حكم استبدادية فاشية … بعض أنظمة قضاء ظالمة … كثير من الأجهزة الإعلامية مزورة… جيوش مسيسة تناضل لأشخاص، ولا تضحي لمبادئ… حكام ربما لا تتجاوز أراضيهم بضع مئات من الكليومترات… وزراء سوء يزينون لأسيادهم كل قبيح… علماء سوء يحللون لسلاطينهم كل محرم… شعوب يملؤها الخوف والجبن… حالة من التفكك الاجتماعي… انحلال أخلاقي ظاهر… أجهزة شرطية لا همَّ لها إلا ملاحقة الصالحين… تعاون استخباراتي واضح مع أعداء الأمة من النصارى والصهاينة ضد إخوانهم في الدين والوطن” (أحمد عبد الحافظ)

تناحر قبلي بغيظ على رفات وأشلاء وطن وشعب منهك.. سلاطين لا ترمش لهم جفن إذا ملئت بطونهم وجيوبهم… أنهار من الدماء التي لا تتوقف لحظة في داخل البلد!! حمانا مستباحة لكل طامع! الوطن مكتوب عليه for sale ، المعادن والنفط للبيع! الأماكن الصالحة للزراعة للبيع! الموانئ للبيع! ممتلكاتنا كلها للبيع! حتى صوت البرلمان للبيع! ولاءاتنا للبيع! كل ما نملكه معروض للبيع في سوق النخاسة! وكل ذلك بثمن بخس دراهم معدودة! فإلى الله المشتكى.

ويمكن أن نقول أن يأس هذا الأخ ومن على شاكلته جاء كردة فعل للمعادلة التالية:

شعب جاهل مغلوب على أمره + طُمَّاع كراسي وقيادة عميلة + انحلال وفساد وفقر مستطير + صحوة عاجزة متناحرة متقوقعة على نفسها + مثقفين سطحين (أو مأجورين كأبواق للأنظمة الوظيفية القائمة) دورهم شحن الشبكات العنكبوتية بسبِّ الواقع دون تحركٍ للتغيير = تشاؤم واستسلام! اللهم لا شماتة.

إذا كان الأمر كذلك وبهذه القساوة، فلماذا ندعو إلى التفاءل والأمل؟ ألا يكون هذا ضربا من الخيال، وأحلام اليقظة؟!

كلا بالطبع، اليأس والإحباط لا وجود لهما في قاموس الأتقياء الأصفياء، المؤمنين بربهم، وبقدرته وبوعده الصادق؛ لمن استكمل شروط النصر والتأييد.

فالمؤمن لا تزعزعه الأراجيف والقيل والقال؛ إنه موصول بحبل الله المتين، وإن ضعفت حبائل غير الله، وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام يقول لبنيه: ” يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ” (سورة يوسف: 87)  “أي: إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا؛ ولم نجد حلاً، لأن الله موجود، ولا يزال لله رحمة. لأن الذي ليس له رَبٌّ هو مَنْ ييأس، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة كبيرة، لكن المؤمن لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أن له رباً يساعد عباده. وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب؛ فسبحانه يَهبُه ممَّا فوق الأسباب.

ولماذا ييأس المؤمن؟

إن المُلحِد هو الذي ييأس؛ لأنه لا يؤمن بإله، ولو كان يؤمن بإله، وهذا الإله لا يعلم بما فيه هذا الكافر من كَرْب، أو هو إله يعلم ولا يساعد مَنْ يعبده؛ إما عجزاً أو بُخْلاً، فهو في كل هذه الحالات ليس إلهاً، ولا يستحق أن يُؤمَن به.  أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلهاً قادراً، يعطي بالأسباب، وبما فوق الأسباب؛ وهو حين يمنع؛ فهذا المَنْع هو عَيْنُ العطاء؛ لأنه قد يأخذ ما يضره ولا ينفعه”. (الشيخ الشعراوي)

 ويقول الله مخاطبا عباده المسرفين المقصرين في جنبه المرتكبين للذنوب والمعاصي بجميع مستوياتها وأشكالها وصورها: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (سورة الزمر: 53) يفتح (الله)  أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة. ويُطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية. ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين. ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان..

“ورحمتي وسعت كل شيء”

إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية. كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة. دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورَجِلِه. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم.

يعلم الله-سبحانه-عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

باب التوبة ما زال مفتوحًا

وليس بينه -وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق-ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان:

الإنابة. والإسلام. والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام… هذا هو كل شيء. بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء! ” (سيد قطب)

 ويقول سبحانه وتعالى منبها نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بعدما استشكل عليه، كيف يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر عتيا وزوجه عقيما  ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ الحجر:] 55-56 [قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون، وهذا يدلُّ على أنَّ إبراهيم لم يكن قانطًا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطًا، فنفى ذلك عن نفسه، وأخبر أنَّ القانط من رحمة الله ضالٌّ.

“أحياناً يغلق الله سبحانه وتعالى أمامنا باباً لكي يفتح لنا بابا آخر أفضل منه، ولكن معظم الناس يضيع تركيزه ووقته وطاقته في النظر إلى الباب الذي أغلق، بدلا من باب الأمل الذي انفتح أمامه على مصراعيه”. (إبراهيم الفقي)

مفهوم التفاؤل

التفاؤل قوة طاقة وحيوية، وحركة، ورؤية الأمل والنور في المصائب التي تمر بك، التفاؤل رؤية اليسر في كل عسر تقع فيه، حتى في مرضك تقول: (لا بأس طهور إن شاء الله)

إن التفاؤل والأمل روح تسري في النفس، وقوة ويقين، وترجمة واقعية للثقة بالله؛ الواثق لا يقنط، المتفائل لا ييأس، المؤمل لا يستسلم، إنه وثوق بمالك السماوات والأرض؛ القائل في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي”، إنه شعور يخوِّل للإنسان الوقوف أمام العواصف الهوجاء بكل شموخ وعزة، والقدرة على التحدي مهما كانت الظروف قاسية مؤلمة، إنه توظيف الطاقات والقدرات والإمكانات التي وهبها الله لنا، ومواجهة القدر بالقدر، ومغالبة الصعاب الجسيمة بروح المؤمن الواثق بموعد الله!

إن التفاؤل أن ترى المستقبل والنور المشرق وسط الملمات المدلهمات، وسط المحن والفتن، أن ترى النصر المحقق وأنت مطارد، تستخفي وتترقب ترقب موسى عليه السلام يوم تآمر عليه القوم، أن ترى النجاة وأنت بين فكي كماشة، البحر أمامك والعدو وراء، لا تلتفت إلى أراجيف المثبطبين، ونهيق القانطين، فاصرخ على وجوههم باستعلاء المؤمن الواثق “كلا إن معي ربي سيهدين”.

وللحديث بقية… مسلم متفائل من الصومال


إعداد: شعيب عبد الرزاق

شعيب عبد الرزاق محمد

مهتم بقضايا الأمة، بدينها وثقافتها وتاريخها وواقعها، أخدم أمتي بقلمي بفكري بعقلي، أحمل قلمًا يبني… More »

تعليق واحد

  1. مقال رائع .. لكن بدأ الكاتب برؤية أوسع تكلم فيه عن حال أمة متمثلة في وضع الصومال ..ثم ضاق المجال ليشمل الفرد … ومع روعة المقال ..كنت اتمنى أن يظل الشأن الأممي هو عماد المقال .. أعلم أن الفرد هو عماد الامة وأن صلاحه هو صلاح الامة ..لكني كنت اريد أن تضع لي خريطة لكيفية التفاؤل في خضم ما يعتري الأمة من ضعف ووهن …جزاكم الله خيرًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى