لماذا لم تعد تنشئة طفل أمرًا سهلًا؟
إذا كنتِ أمًا جديدة، تواجهين لأول مرة تحديات رعاية طفل، فضلًا عن تنشئته وتكوين قيمه ومعتقداته وأخلاقه، فلعل الخوف ينهش قلبك بقوة، ولعلك قد جال بخاطرك كثيرًا هذا السؤال: لماذا أصبحت تربية طفل أمرًا أكثر تعقيدًا من ذي قبل؟
وقبل أن نبحث عن إجابة هذا السؤال، فإني أحب أن أهنئك تهنئة حارة من القلب، لأن سؤالك يدل على أنك أم واعية، تبذل جهدًا في البحث عن حلول حقيقية، ولا تستسلم لأسهل الطرق.
كما أريد أن أشد على يديك وأوصيك بالاستعانة بالله عزوجل دائمًا؛ لأنك ما دمت قد اخترت الطرق الأكثر صعوبة فستواجهك حتمًا تحديات المجتمع، وسوف توضع أمامك عراقيل التقاليد البائدة، المتوارثة عبر الأجيال والأزمان، والحلول السهلة السريعة المغرية جدًّا لك ولطفلك أحيانًا.
وستصطدمين بأصواتك الداخلية، ومخاوفك العميقة، وقلقك وشكوكك القاتلة حول نفسك ومدى كفاءتك. وربما بدت لك تلك الحلول السريعة منطقية ورحيمة أحيانًا.
فما الذي يدفعك لاحتمال صراخ ابنتك ذات الثلاث سنوات وهي في نوبة غضب عارمة، وسط مركز التسوق المزدحم والأنظار تتوجه إليكما، وكلمات اللوم والشفقة تقال لك وأمامك، والنصائح المجدية وغير المجدية تُلقى على مسامعك حتى دون طلب؟! ولماذا تتعبين نفسك في البحث عن أفضل إجابة لتساؤلات طفلك الحساسة بدلًا من اختلاق الخرافات المضحكة حول الأمر؟ ولماذا لا تتركين طفلك أمام الشاشات ولو لبعض الوقت من أجل إنهاء أعمالك المنزلية المتراكمة أو لتهنأي بساعة إضافية من النوم؟!
لماذا تختارين الوسائل التي قد تكلفك وقتًا وجهدًا عوضًا عن الحلول السريعة المؤقتة؟ أنا هنا معك نستعرض معًا تحديات التربية في القرن الحادي والعشرين، ونعرف كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
الفرق في التربية بين الماضي والحاضر
التربية هي بناء الإنسان، ويمكن تعريف التربية بأنها: ربط قلب الطفل المسلم وعقلِه بالله عز وجل في كل أموره الحياتية. وهي أيضًا: إعداد المرء للعبودية لله تبارك وتعالى.1
وإذا نظرنا إلى التربية في ضوء التعريفات السابقة، أمكننا التوصل إلى أسباب جوهرية جعلت مهمة التربية في العصر الراهن أمرًا في غاية المشقة، فهو لا يحدث تلقائيًا كما تصورنا، بل يمكن قياس صعوبته بالنحت على الأحجار.
فالكثير من العوامل تغيرت عبر الزمن، وأصبحنا بحاجة إلى المزيد من المرونة والتكيف لنتمكن من خوض التحديات الجديدة التي تتعلق بالتربية، ولكن ما هي هذه العوامل؟
تحديات التربية
تغير شكل ومفهوم الأسرة عبر الزمن
من أسرة ممتدة (تحوي بالإضافة إلى الزوجين أقاربهما سواء الأصول والفروع) إلى أسرة نووية (مؤسسة أساسًا من الزوجين وأبنائهما فقط).2
فكلمة الأسرة قديمًا كانت تمثل العائلة الكبيرة المترابطة أبًا عن جد، المتقاربة إلى حد كبير في القيم والمعتقدات الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية، تلك القيم التي تتكامل معًا لتشكل وعي الأطفال الصغار؛ المهيأ فطريًا للتعلم عن طريق التقليد والمحاكاة، بأقل حاجة لبذل الجهود الخارجية.
أما الأسرة الحديثة في عصر التواصل الاجتماعي والانفتاح الهائل فقد تداخلت عوامل لا نهائية ومن الصعب حصرها لتشكيل وعي الأبناء، مع عدم قدرة الآباء على ملاحظة تلك العوامل والوقوف عليها؛ بسبب انشغالهم في تدبير الحاجات الأساسية المتزايدة للأسرة، وللفجوة الفكرية الواسعة بين جيل الآباء والأبناء.
عدم فقه المرأة المعاصرة بأدوارها الرئيسية والثانوية
في السابق لم تكن المرأة تنظر للعمل أكثر من كونه مجرد وسيلة لكسب المال، بالإضافة لكونه من مهام الرجل، ولم تضطر إليه نظرًا لوجود أكثر من عائل محتمل.
بخلاف المرأة في العصر الحديث فقد وقعت تحت سطوة تحقيق الذات عن طريق الخروج للعمل بدون دافع مُعتبر، وفي كثير من الأحيان بدون رغبة حقيقية في العمل ولكن خوفًا من وصم المجتمع لها، مع اعتبار مسألة تربية الأبناء أمرًا ثانويًا، وهنا يمكن إدراك حجم وحقيقة الكارثة؛ وهي عدم فقه المرأة لأدوارها الرئيسية والثانوية.
وإذا تحدثنا عن عمل المرأة في القرن الحادي والعشرين فسيكون مدعاةً للسخرية وبعيدا كل البعد عن الواقع أن نتحدث عن مدى صحة أو خطأ فكرة عمل المرأة، ولكن النقاش الأقرب للواقع هو النقاش حول طبيعة هذا العمل والقيمة الباعثة عليه؛ فالمرأة التي فقِهت دورها الصحيح في ظل منظومتها الإسلامية تدور مع هذه الهوية في كل أمور حياتها، وفي ما يتعلق بطبيعة عملها، ومدى تأثير هذا العمل على دورها الأساسي، وتبعثها قيمة الحفاظ على دينها إلى العمل الذي يشبع حاجتها للإنجاز ويتناسب مع طبيعة هذا الدور.
اتساع رقعة المقارنات
لطالما قارن الآباء عبر الأزمان أبناءهم بالآخرين؛ في التدين، وفي الأخلاق، وفي الذكاء الاجتماعي، وفي التفوق الرياضي والأكاديمي، وغير ذلك، ولكن المشكلة الحقيقية في العصر الحالي هي اتساع رقعة هذه المقارنات وعدم اقتصارها على وقتٍ وموقف محدد؛ بل هي حالة دائمة مستمرة لازمت الإنسان الحديث وأثرت عليه بشكلٍ لا واع؛ بسبب الانفتاح الاجتماعي الزائد، وسهولة الاطلاع على يوميات الآخرين وإنجازاتهم، بل ومعرفة أدق تفاصيلها أحيانًا! والشعور الدائم بعدم الرضا عن النفس، وبالطبع عن مستوى الأبناء في شتى الأمور، مما يسبب نوعًا من الضغط والتوتر الدائم في العلاقة بين الآباء والأطفال، وبالتالي على مدى جودة عملية التربية، وقدرة الأبناء على التلقي من الآباء والاستجابة لهم.
عدم اتفاق كلا الزوجين على منهج تربوي
نتيجة لتشعب المناهج التربوية وكثرتها مع قلة المختصين بها، واختلاف طبيعة كل من الزوجين واستقلال كل واحد منهما برأيه الخاص.
وهذا يؤثر كثيرا على الأبناء وعلى سلاسة عملية التربية، فنجد الأطفال مشتتين بين طريقة الأب والأم، وهذا له تأثير سلبي كبير جدا على شخصياتهم التي لا تزال قيد التكوين.
العجلة آفة العصر الحديث
لم يعد الآباء على نفس القدر من الصبر وطول البال وسعة النفس التي كان عليها آباؤهم في السابق، بسبب زيادة ضغوطات المعيشة، وطبيعة الحياة المفروضة عليهم بنتائجها السريعة، وتغيراتها المتلاحقة.
والشعورُ بالنجاح وإمكانية تحقيق نتائج مرضية شرط لا بد منه في أي عمل يعمله الإنسان، فالتاجر الذي يفقد الأمل في الربح يرى من العبث وإضاعة المال أن ينفق أمواله في التجارة، والكاتب الذي لا يرى رواجًا لفكرته وتحقيقًا لأهدافه من نشرها لن يسطر حرفًا.
وكذلك الآباء الذين لا يعرفون كم من الوقت يستغرق تصحيح مسار أبنائهم لن يستطيعوا على أمر التربية صبرًا، فالجهد التربوي حين تقاس نتائجه بالمعايير الكمية تبدو ضئيلة لأول وهلة، ويلزمه قدر كبير من التفاؤل، والصبر، وعدم تعجل النتائج.3
الاعتماد على السبب دون المسبب
التربية عملية طويلة الأجل، متصلة ومستمرة وتستغرق عمرًا حقيقيًا، ويتداخل فيها عدد لا نهائي من العوامل؛ القليل جدا منها تحت سيطرة الآباء، إذ إن أغلبها ليس كذلك.
وهي امتحان حقيقي للإنسان من الله عز وجل، فقد قال تعالى: {وَجَعلْنَا بَعْضكم لِبَعضٍ فتْنة أتصْبِرُونَ وكانَ ربك بَصِيرا} وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فِتنة والله عنده أجرٌ عظيم} أي اختبار وابتلاء من الله لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.4
ومن الملاحظ والمشاهَد في مسألة التربية أنها ليست قائمة على الأسباب الدنيوية، وأن اعتبارها مسألة دنيوية عقليةً خالصة هو بداية الفشل التام والحقيقي في التربية، وبداية شعور الآباء بالإحباط والعجز، وبداية إهمالهم لمسألة التربية كليًا.
ومما يجدر التذكير به كذلك أن العبرة في التربية هي احتساب المربي الأجر من الله عز وجل، وعدم تعلقه بالنتيجة التي ليست بيديه، وليست مطلوبة منه أصلًا، بل يبذل جهده في تصحيح مساره، والأخذ بالأسباب التي يفتح بها الله عليه، والدعاء لأولاده بصلاح الحال والاستقامة.
علمنة المناهج التربوية
ومما ابتلي به المجتمع الحديث ولم يكن موجودًا في السابق علمنة مسألة التربية، فالمناهج التربوية المنتشرة على الساحة أغلبها قد تمت استعارته من المجتمعات الغربية، ذات الفلسفة المادية البعيدة كل البعد عن الدين، وتطبيق هذه المناهج على أرض الواقع مع انتظار أن تكون النتيجة دينية إسلامية هو ضرب من الأمل البليد!
إننا بحاجة لمناهج تربوية حديثة تتصدر الساحة، ذات مرجعية إسلامية صحيحة، ولمربيِّن بخلفية معتبرة من العلم الشرعي والتأهيل التربوي. وبحاجة أيضًا إلى أصحاب رؤى متكاملة، عميقي الفكر والنظر، يستطيعون القيام على هذه المناهج وتحمل مسؤولية تطبيقها ونشرها.
بعد استعراض العوامل السابقة وقراءتها بتمعن نستطيع القول إن التربية في الوقت الحالي بحاجة لجهود مضاعفة عما كانت عليه في السابق، وإلى بذل الجهد من الآباء والمربين في طلب علم إضافي متجدد، وفي النمو والتطور الدائم، وأن يكونوا على قدر كبير من الإخلاص لله عز وجل.
فما الحل إذن؟ وكيف ننجو بأبنائنا وسط هذه التعقيدات؟
كيف أضع خطة لتربية طفلي؟
نقصد بخطة التربية تحديد الرؤية، إضافة إلى وضع نظام يتم تحقيق هذه الرؤية من خلاله، ورؤية المربي هي بوصلته الخاصة، وهي النقطة التي يرجع إليها كلما جد عليه جديد، وتحديدك لهذه الرؤية هي الطريقة الوحيدة لقيامك على أمر تربية أبنائك، بأكثر الطرق سلاسة ويسرا في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجه المربِّين.
والرؤية التربوية هي الإجابة عن سؤال: كيف أرجو لطفلي أن يكون؟
فأنت لا تربين طفلك بعشوائية، بل لأجل غاية محددة هي أن يكون مسلمًا عابدًا متعبدًا لله في كافة الظروف والمواقف.
والشيء الذي يضمن لك بالفعل تحقق هذا الهدف هو وضع منهج يمكن تطبيقه عمليًا. ويمكنك الاستعانة بالإرشادات التالية في تفعيل هذا المنهج:
- اكتبي هذه الرؤية بخط واضح وبأفضل صياغة ممكنة، وضعيها في مكان تعودين إليه دائمًا، فالكتابة خير وسيلة لتعزيز المدخلات بعقلك، ورؤيتك للمكتوب بصفة مستمرة تجعل محاولاتك دائمًا تتطلع إلى الهدف.
- معرفة أين أنت من انطباق هذه الرؤية على نفسك، والسعي لتزكية نفسك أولًا، لتكوني قدوة لطفلك. فطفلك يتأثر بشعورك تجاه الحدث، وقناعاتك الداخلية أكثر من أي شيء آخر.
- استصحاب هذه النية في المواقف المختلفة، يساعدك كثيرًا على تفادي ردود الأفعال غير المطلوبة لأنها لا تتفق مع هذه الرؤية.
- التعلم الدائم والدعاء المستمر.
الطفل السعيد
وأخيرًا فالطفل السعيد ليس هو الأكثر ذكاء وتفوقًا دراسيًا، وليس الذي يفوق أقرانه بمهارة أو أكثر، ولكن الطفل السعيد هو الطفل الذي تشكل لديه الوعي التام بنفسه وبمن حوله، والذي يستطيع تحديد الاختيارات المتوافقة مع هويته في المستقبل، ورفض ما دون ذلك.
أسأل الله لكل أطفال المسلمين أن يكونوا كذلك.
المراجع
- مقالات في التربية، د.محمد الدويش ↩︎
- الأسرة وتحديات القرن الحادي والعشرين، مدونات الجزيرة ↩︎
- مقالات في التربية، د.محمد الدويش ↩︎
- تفسير ابن كثير ↩︎
مفيد جدا
مقال ممتاز.جزاكم الله خيراً
مقال مميز أفكاره واضحة ومنظمة❤️
ممتاز
نظرة موفقة وهادفة
مقال رائع!