الذين يبيعون تاريخنا في سوق النخاسة

لست أكتب في هذا المقام، منتقدًا التصريحات التي أطلقها أحدهم بشأن المسجد الأقصى مرة، أو بشأن صلاح الدين الأيوبي مرة أخرى، فقد كفاني هذا الأمر عشرات الباحثين والمختصين الذين تعهدوا هذه الادعاءات بالنقد العلمي الموضوعي ففندوها، وإني وإن كنت أثمن مجهودات هؤلاء الباحثين في الزود عن تاريخنا، إلا إني أضن بوقتهم ومجهودهم على التصدي لكل دعوى هدفها الإثارة الإعلامية الرخيصة، مصيرها الطبيعي الاضمحلال والفناء، وأعجب كيف يتفنن البعض في إجهاد عقل الأمة وضميرها بمسائل فاسدة مفتعلة، فلا أجد من تفسير إلا أنها محاولة لإلهاء الأمة عن قضاياها العاجلة، وسعيها الدائم لبلوغ مجتمع الرشد.

بصورة عامة فإن هذه التصريحات تأتي في سياق الهجمة العامة التي تشنها جماعة الاستكبار، بالمصطلح القرآني، أو الفاشية، بمصطلح علم الاجتماع السياسي المعاصر، على عناصر الهوية الإسلامية، مستخدمة في ذلك جماعة من المرتزقة، الذين تقدمهم أجهزة الإعلام الفاشي للجمهور في صورة المفكر والمثقف والمبدع والمتنور، وإذا كان نعوم تشومسكي يرى أن المثقف الحقيقي هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة، فإن هؤلاء المرتزقة ليسوا إلا مثقفين زائفين يحملون هوان الأمة بين يدي جاهل مستبد، وشعارهم نقد التاريخ يدلسون به على البسطاء، وأولى بهم أن يسموا ما يقومون به بيع التاريخ في سوق النخاسة لمن يدفع لهم الثمن الأكبر، سواء بالدولار أم باليورو أم بالشيكل أم بغيره.

ويتفنن المثقفون الزائفون في “إعادة كتابة التاريخ”، الإسلامي عامة، والقطري خاصة، بأساليب مختلفة، لتحقيق أجندات بعضها أيديولوجي وبعضها الآخر عرقي أو طائفي، وبعضها لمن يدفع الثمن الأعلى، بينما تحتاج الأمة اليوم، لهؤلاء المثقفين الحقيقيين، الذين يعيدون قراءة وكتابة تاريخ الأمة، انطلاقًا من حاجات هذه الأمة الثقافية والاجتماعية.

تاريخ في خدمة الأيديولوجيا

التاريخ الأيديولوجي هو أسوء أشكال تشويه التاريخ، فالمؤلف الأيديولوجي لا يرصد حدثًا تاريخيًا ويستخرج منه رؤية فكرية، بل يعكس الأمر، فيقدم رؤيته الفكرية كحقيقة مُسلَّمة لا تقبل النقد، ومن ثم يعيد رواية الحدث التاريخ بما يتوافق مع طرحه الأيديولوجي، ومن ثم يخلص إلى أن الحدث التاريخي، بتوائمه مع أيدولوجيته، إنما يؤكد صحة هذه الأيدلوجيا.

وهذا النوع من التاريخ، هو المفضل لدى الكثير من التيارات العلمانية العربية، والنماذج التي يمكن أن نقدمها عن التناول الأيديولوجي للتاريخ الإسلامي والقطري، قد تحتاج إلى مجلدات، فجميعهم يلجأ إلى التاريخ الأيديولوجي بغض النظر عن المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، لذلك سوف تجد التاريخ الأيديولوجي يتكرر في كتابات ميشيل عفلق، منظر حزب البعث، عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابات الليبرالي التونسي هشام الجعيط بشأن السيرة النبوية، وكتابات اليساري المصري محمود إسماعيل عن الفرق الإسلامية والجماعات الباطنية.

نموذج من التاريخ الأيديولوجي

يمكن اعتبار كتاب محمد سعيد العشماوي المعنون “مصر والحملة الفرنسية”، نموذجًا للتناول الأيديولوجي للتاريخ القطري المصري، فالكتاب الذي صدر في أوج أزمة الاحتفال بالحملة الفرنسية على مصر عام 1999، يعيد فيه مؤلفه رواية الحملة الفرنسية على مصر، حيث يرحب المصريون بالغزاة الفرنسيين باعتبارهم محرريهم، ويتعايش الطرفان في وئام وسلام واحترام متبادل لا تنغصه إلى تلك الهوجات، التي يقودوها الأوباش والجهلة، ويعني بها الكاتب ثورتي القاهرة الأولى والثانية، أو ينغصها جريمة قتل قائد الاحتلال كليبر، على يد قاتل مأجور يدعى سليمان الحلبي، ويختتم روايته بالتشمت في الفوضى التي حلت في مصر بعد جلاء الفرنسيين، مبينًا أن هذا جزاء وفاق للمصريين الذين كفروا بنعمة الاحتلال الفرنسي.

ثورة القاهرة الأولى بقيادة الأزهر

هذا الكتاب نموذج متكامل يجمع كافة سمات التاريخ الأيديولوجي، فهو يستند إلى دعوى التغريب التي يؤمن بها العشماوي، ويروج لها في كتاباته باعتبار أن الحضارة الأوروبية هي وليدة الحضارة المصرية الفرعونية عن طريق طرف ثالث هو الحضارة الرومانية، وبالتالي فإن التغريب هو في واقع الحال رجوع إلى الأصل، بينما يرى أن الإسلام عنصر دخيل، يمثل قيم البداوة والبدائية للعرب الذين حملوه إلى مصر على أسنة رماحهم، ليفسدوا عليها مصيرها الطبيعي كجزء من الحضارة الغربية.

من ناحية أخرى، وكأي تاريخ أيديولوجي يحاول المؤلف أن يزين قصته ببعض الاقتباسات المنقولة من بعض المصادر أو المراجع، للتدليس على القارئ بأنه يعتمد على منهج علمي، فهو يستند إلى مصدر وحيد هو “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” للجبرتي، دون الالتفات إلى غيره من المصادر العربية أو الفرنسية، وهذا التصرف يتفق مع خصائص العلموية للتيارات العلمانية، وتحدرها الأخلاقي-باعتمادها مصدرًا وحيدًا للمعرفة دون النظر في باقي المصادر المعرفية-.

وأخيرًا، يشن العشماوي هجومًا استباقيًا على أي شخص تسول له نفسه نقد كتابه، بادعاء أن هذه القصة التي يحكها هي التاريخ كما حدث، بدلالة استناده فيها إلى شهادة الجبرتي، وأن أي معارضة لهذه القصة فهو نتاج الثقافة السمعية المشوهة والتي تجعل من أصحابها أسرى خيالات مريضة على حد تعبيره.

تاريخ في خدمة العرقية والطائفة

على مدار التاريخ مَثَّل مفهوم الأمة الإسلامية، المظلة الجامعة لشعوب هذه المنطقة، ونظر للنزعات العرقية على أنها شعوبية ومن بقايا الجاهلية المذمومة، وبينما اختار غير المسلمين الالتزام بعقائدهم، فإنهم اختاروا الاندماج الثقافي في المجتمع الإسلامي. ولكن انهيار البنية الفوقية لمفهوم الأمة الإسلامية الواحدة ممثل في مفهوم الخلافة، فتح الباب للنزعات العرقية والطائفية والمذهبية، وفتح معها الباب لنوع جديد من التاريخ، هو التاريخ العرقي أو الطائفي.

هذا النوع من التاريخ، يعيد تفسير التاريخ لتعظيم الدور الإيجابي أو لتحجيم الدور السلبي للعرقية أو الطائفة التي يخدمها، وقد يقوم بالعكس في حال ما إذا تعهدته عرقية أو طائفة منافسة، ولذلك فهو يفتقر إلى الموضوعية، بل قد يتسم بالتحيز الشديد، وبالتالي فهو لا يخضع للأصول العلمية، وكثيرًا ما يعتمد على التاريخ الشفهي في حال ما إذا كان يتناول حدثًا قريبًا زمنيًا. ومن أمثلة هذا النوع من التاريخ، ما كتب في تمجيد ما يسمى بالثورة العربية الكبرى مثل “يقظة العرب” لجورج أنطونيوس، أو كتابات تامر عارف التي تؤرخ للفاطميين والمذهب الإسماعيلي.

من نماذج التاريخ الطائفي، الكتاب المعنون “الأقباط في القرن العشرين”، لمؤلفه رمزي تادرس المحرر بجريدة مصر، الجريدة المحسوبة على الطائفة القبطية المصرية. صدر الكتاب عام 1910، وهو العام الذي بلغ فيه الشقاق بين المسلمين والأقباط في مصر ذروته، بعد اغتيال بطرس غالي على يد إبراهيم الورداني، فاستغل الفرصة عدد من المتطرفين الأقباط للتصعيد والدعوة لمؤتمر لمناقشة أوضاعهم، وهي الدعوة التي لقيت عطف من قبل المندوب السامي البريطاني يومئذ.

وفي هذا الجو، خرج الكتاب المذكور، والذي أخذ الكاتب على عاتقه فيه، التأكيد على أسطورة أن الأقباط هم المصريين الأصليين، وتعظيم دور الطائفة القبطية في التاريخ الحديث، والدفاع عن بعض الشخوص القبطية المدانة بالخيانة الوطنية، مثل بطرس غالي والجنرال يعقوب. وقد جمع الكتاب جميع ملامح التاريخ الطائفي، من تعصب وانعدام للموضوعية، وعلى الرغم من مخالفته للكثير من المصادر التاريخية التي حررها أقباط حول تاريخ طائفتهم، ناهيك عن مخالفته للمصادر التاريخية الأخرى مثل الوثائق الحكومية وصحف تلك الفترة، وما وجه له من نقد من قبل المؤرخين، إلا أنه لا يزال يطفو على السطح ويتم الترويج له في كل مرة تشعر فيها جماعة الاستكبار المهيمنة داخل الطائفة القبطية بالتأزم في مقابل أبناء طائفتها، مستخدمة الكتاب في نقل غضب أبناء طائفة الأقباط إلى جيرانهم المسلمين.

تاريخ في خدمة من يدفع أكثر

وهناك من المثقفين المزيفين من يضعون فوق صدورهم لافتة عريضة مكتوب عليها مؤرخ للإيجار، فمن يدفع أكثر سوف يحصل على تاريخ حسب طلبه. ولهذا النوع من التاريخ سمات عامة، فهو في الغالب يتمحور حول شخص بعينه، بينما يتم تحييد الأمة في الصورة، ليصبح التاريخ كله يدور حول الشخص، كما أنه تاريخ تقديسي أو تدنيسي، يجنح للمبالغة في الشخص موضوع التاريخ، ولذلك فهو يفتقد للمنهجية العلمية، وربما يأتي العمل التاريخي كله دون الإشارة إلى مصدر واحد يستند إليه الكاتب، إذ أنَّ هذا النوع من التاريخ غير موجه في الأساس إلى قارئ مخضرم، ولكنه موجه للقارئ العام، لذلك تراه هذا النوع من التاريخ يشيع بين الصحفيين والإعلاميين، الذين يعتمدون في إقناع المتلقي على بلاغة أقلامهم أو حضورهم على الشاشة، وليس على المنهج العلمي الموضوعي.

من نماذج هذا النوع من التاريخ، كتابات إلياس الأيوبي، التي كتبها بإيعاز من الملك فؤاد، ملك مصر، والذي تبنى مشروعًا كبيرًا لإعادة كتابة تاريخ مصر، ليصبح تاريخ أسرة محمد علي. فقدم إلياس الأيوبي ضمن هذا المشروع كتابين، “محمد علي: سيرته وأعماله وأثاره”، و”تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا” في مجلدين. وفي هذين الكتابين، يصل إلياس الأيوبي إلى أعلى درجات التاريخ مدفوع الأجر، فمثلًا في كتابه عن محمد علي، يحاكي الأيوبي السير الشعبية في توظيف الأقدار لدلالة على قدوم البطل، فيجعل الأحلام والعرافين يخبرون أم محمد علي بقدره العظيم، وتبشرها بأن يملك مصر وغيرها من الأقطار، وتبلغ به الجراءة أن يقارن بين طفولة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كيتيم، وزواجه من ثيب، وبين طفولة محمد علي كيتيم وزواجه هو الآخر من ثيب، ويمضي الكتاب على هذا النحو، فمحمد علي الشريف المؤيد دائمًا، وخصومه يتمتعون بجميع صفات الخسة والغباء وباؤوا بغضب من الله.

نحو إعادة الاعتبار لتاريخنا

ليس ثمة شك أن على المثقفين الحقيقيين من أبناء حركة التجديد الإسلامي، أن يعملوا على تخليص تاريخنا من هيمنة المثقفين الزائفين، حتى يعود التاريخ إلى دوره الحقيقي، كعامل تشكيل للهوية الإسلامية، وليس مجرد قصة تُروى في عمل درامي لا يشاهدها سوى ربات البيوت والمتقاعدين. ولكن هذا السعي يلقى معارضة شديدة من المثقفين الزائفين، ومن المنتفعين من تزوير تاريخنا، بل ويلقى معارضة داخلية من داخل صفوف حركة التجديد الإسلامي. فالبعض من أبناء هذه الحركة، يجنحون إلى تصور تاريخنا كتاريخ لملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم لا يدرون أنهم بذلك يقدمون السلاح للعدو، الذي ينتقد ما يقدمونه من تاريخ لأنه لا يتفق مع سنن الله في التاريخ والمجتمعات.

وما تاريخنا إلا تاريخ بشر، فيهم من تحركه القيم النبيلة ويقوم دون دينه وأمته، وإن كان لا يخلو من نقيصة في طبعه أو في سيرته، وفيهم من فرط وخان وقدم مكسبه الشخصي على مصلحة الأمة، وهو في ذلك إنسان يخضع لنفسه الأمارة أو تتنازعه وساوس شياطين الإنس والجن. تاريخ الإسلام يا سادة ليس فيلم كرتون يرتدي فيه الشرير الملابس السوداء، ويرتدي في الطيب الملابس البيضاء، بل تاريخ بشر يختلط فيهم الأبيض والأسود، بل وجميع الألوان. لن تتحقق الفائدة من التاريخ، حتى يقرأ بمنهج موضوعي، لا بمنهج التحيز، منهج يخدم الساعين للمستقبل باستشراف سنن الله في التاريخ، ويقف بهم على ما قاد المجتمعات للانحطاط، وما كان سببًا لاستمرار الرفاهية والنمو، من عوامل العقيدة والثقافة والاقتصاد والسياسة وغير ذلك. أما هؤلاء الذين يكتبون التاريخ بمنطق ما كان ينبغي أن يكون، فلا هم أصابوا تاريخ ولا هم دعموا المستقبل.

د. وسام عبده

أكاديمي وكاتب ومترجم من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى