مترجم: «القومية البيضاء» تدمّر الغرب
هذا المقال ترجمة لمقال: “White Nationalism Is Destroying the West” لكاتبته: . الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
في الرابع عشر من يوليو، 2016، وبينما كانت العائلات الفرنسية تتنزه على جانب البحر في مدينة “نِيس”، هجم رجلٌ تونسي بشاحنة عملاقة على حشدٍ من الناس الواقفين، مؤديًا إلى مقتل 86 شخصًا. أعلن عمدة مدينة “كان” بعدها بشهر عن أنّ “البوركيني” (مُصطلح جامع للباس السباحة المُفضّل من النساء المتدينات) سيُحظر من شواطئ المدينة. ووصفه مسؤول بالبلدية بـ”التمجيدي للحركات الإرهابية التي بحالة حرب معنا”.
أُولى ضحايا القانون كانت امرأةً فرنسية من الجيل الثالث أمرتها الشرطة أن تخلع نقابها، بينما بقي المارّة يصرخون: “عودي إلى بلدك”. ورغم ذلك، دافع الكثير من السياسيين والمفكّرين الفرنسيين عن قرار الحظر. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وصف البوركيني بأنّه “تحرّش”. أمّا آلان فينكلكروات، الفيلسوف الفرنسي شهير، وصف البوركيني بأنّه عبارة عن “عَلَم”. ولكن ما قدّمه هؤلاء كدفاع عن قيم الليبرالية العلمانية كان في الواقع هجومًا عليهم، لقد كان قانونًا يتنكّر على شكل قانونٍ طبيعي، بينما في الواقع، كان يستهدف فئة دينية معيّنة.
عندما تطرأ الهجمات الإرهابية والهجرة المتزايدة معًا، وعندما ينتمي الإرهابيون إلى نفس الجماعة العرقية أو الدينية كتلك التي ينتمي إليها المهاجرون، فإنّه يمكن لخليط الخوف والزينوفوبيا أن يكون خطيرًا ومدمِّرًا. دُمج الخوف من الجهاديين (الذين يشكّلون خطرًا أمنيًا واقعيًا) مع الخوف من اللاجئين (الذين لا يشكّلون خطرًا بشكلٍ عام) في أوروبا بطريقةٍ تسمح لشعبويي اليمين المتطرّف بانتهاز هجمات الدولة الإسلامية واعتبارها كإنذار لإغلاق الأبواب في وجه اللاجئين الذين فرّ الكثير منهم من الدولة الإسلامية بأنفسهم، ولممارسة التمييز الوقح ضد مواطنين مسلمين أصدقاء.
ولكن هذا لا يحصل فقط في البلدان الأوروبية. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت السياسات “الوطنية” المُعادية للهجرة الشيء العادي الجديد في الديموقراطيات الليبرالية من أوروبا وصولًا إلى الولايات المتّحدة. جدليّات التشريع حول سياسات الهجرة والحدّ من التطرّف تركّزت بشكلٍ حاد على المسلمين وصوّرتهم كعدوٍ حضاري ثابت غير متوافق بالأساس مع قيم الديموقراطية الغربية.
إلّا وأنّه خلافًا للتحذيرات المتتالية عن الغزو الإسلامي وشيك الحدوث الصادرة عن الكتّاب التحذيريين (Alarmist Writers) والسياسيين، فقد ضُخِّم خطر أسلمة الغرب بشكلٍ مبالغٍ فيه. الإسلاميون ليسوا حتّى على حافّة الحصول على السلطة في أيّ ديموقراطية غربية أو حتّى الفوز بأي تأثير سياسي مهم في الانتخابات.
لا يمكن قول نفس الأمر عن القوميين البِيض الذين يحتشدون اليوم من “شارلوتسفيل” بفيرجينيا وصولًا إلى “درسدن” الألمانية. تشكّل القومية البيضاء أيديولوجيةً أكثر خطرًا على الغرب، فقد أثبت أنصارها والمتعاطفون معها تاريخيًا وحديثًا أنّه بإمكانهم الفوز بنسبة كبيرة من الأصوات، كما فعلوا هذه السنة في فرنسا وألمانيا وهولندا، بل وحتّى الفوز بالسلطة، كما فعلوا في الولايات المتّحدة.
قادة اليمين المتطرّف على حقّ أنّ الهجرة تخلق مشاكل، إلّا أنّ ما يغفلونه هو أنّهم هم المشكلة الأساسية. الخطر الأكبر على الديموقراطيات الليبرالية لا يأتي من المهاجرين واللاجئين، بل من رد الفعل العنيف ضدهم من طرف أولئك الذين ينشرون الخوف من الغرباء لإضعاف القيم والمؤسسات التي تجعل مجتمعاتنا ليبرالية.
لم تختفي الحركات المعادية للسامية والمهاجرين من أوروبا بعد تحرير “أوشفيتز” (معسكر اعتقال في ألمانيا النازية) كما لم تختفي مجموعات العنصريين البيض التي اختبأت تحت غطاء السياسة الأمريكية منذ إعلان تحرير العبيد. ما تغيّر الآن هو أنّ هذه المجموعات أُبرِزَت إلى النور عبر سياسيين أذكياء راغبين بحشد الغضب ضد المهاجرين واللاجئين والأقليات العرقية لمصلحتهم الخاصّة. اختبر القادة مثل “دونالد ترامب” و”ماري لوبين” وجهات نظر العالم حول هذه المجموعات، وبشكلٍ مباشر أو بالتلميح فقد شجعوهم على الإدلاء بآرائهم الكارهة لهذه المجموعات بشكلٍ علني. وكنتيجة، فقد أصبحت هذه الأفكار-الهامشية مسبقًا-أفكارًا رئيسية للتيار الآن.
التيار الصاعد جلي الآن. علّق الحزب الحاكم في هنغاريا إعلاناتٍ معادية للسامية في مواقف الحافلات واللوحات الإعلانية، وربحت حركة للنازيين الجدد 7% من مجموع الأصوات في انتخابات اليونان عام 2015، كما ربحت حركة ألمانيا اليمينية المتطرّفة الصاعدة-والتي تنضوي على عضوٍ انتقد نصب الهولوكوست التذكاري واصفًا إيّاه بالعار- 13% من مجموع الأصوات في انتخابات الشهر الماضي.
في فرنسا والدنمارك، كافح القادة الشعوبيون لملأ جعبة اليمين من جديد ولإعادة تدوير أنفسهم بطريقةٍ مناسبة لليهود والنساء والشواذ عبر تصوير المسلمين كالعدو الرئيسي لجميع الفئات الثلاث. لكن تظل أهدافهم الرئيسية هي نفسها: إغلاق الحدود وترحيل الأجانب غير المرغوب فيهم.
يقبع الخوف الثقافي والديموغرافي من تناقص أعداد السكّان الأصليين وتزايد المهاجرين في قلب أيديولوجيات هذه الأحزاب. في أمريكا، يقلق النائب الجمهوري “ستيف كينج” من مقاطعة “آيوا” عن “استحالة استعادة حضارتنا عبر أولاد أشخاصٍ آخرين”. وفي أوروبا، يقلق اليمين عمّن يربّي الأطفال الألمان والدنماركيين الجدد وحقيقة أنّهم ليسوا ألمانًا أو دانماركيين بيضًا. وهي مخاوف ناشئة عن الداروينية الاجتماعية ومعممة بواسطة الكاتب الألماني “ثيلو سارّازين” في كتابه الأفضل مبيعًا لعام 2010 “ألمانيا تُلغي نفسها”، والذي حذّر فيه من أنّ المسلمين المتعلّمين هم بالكاد قادرون على استبدال عِرق الألمان الأكثر ذكاءً وفق المزاعم.
يخشى قائد أحدث حزب يمين متطرّف في هولندا من أنّ أوروبا لن تكون موجودة “كمجتمعٍ من أناسٍ ذي بشرةٍ بيضاء مسيحيين أو ما قبلهم، يعمل بقانونٍ مبني على نظام القانون الروماني” بعد بضعة عقود. ويقول: “إذا ذهبتُ إلى المتحف، فيمكنني أن أرى أناسًا مثلي في هذه الصور. إلّا أنّ الأمر لن يكون هكذا بعد 50 سنة”.
كانت فرنسا أكثر من أي بلدٍ آخر مصدرًا لهذه الأفكار.
في فبراير 2016، نزلت مجموعات فرنسية لليمين المتطرّف في مدينة “كاليه” ليتظاهروا ضدّ مخيّم كبير للاجئين مقامٍ هناك معروف باسم “الغابة”. جاء أعضاءٌ من حركة “بيغيدا” الكارهة للإسلام أيضًا. اشتبك المتظاهرون مع الشرطة المحلّية وأُعتُقِل مظلّي كان يلبس علمًا فرنسيًا مزينًا بجانبهم. وفي يومٍ من الأيام أُحرقت شاحنة طبيّة عليها شعار إيصال المساعدات إلى “الغابة”، كما طُعنت إطارات سيارات المتطوعين العاملين هناك.
التقيتُ بعد بضعة شهور بقادة مجموعة محلّية معادية للمهاجرين تُدعى “أعيدوا أخذ كاليه (Retake Calais)”. وعندما سألتهم عمّا إذا أرادوا رؤية المهاجرين يغادرون البلدة، أجابوا أنّ إغلاق المخيّم-والذي تمّ تجريفه منذ فترة-لن يساعد، ويقول أحدهم: “إنّهم يرسلونهم جميعًا إلى القرى الصغرى في فرنسا، في غضون سنتين، جميع القرى ستكون ميّتة”، وأضاف صديقه: “إنّه الاستبدال العظيم”، مقتبسًا عنوان كتابٍ صادرٍ في 2010 عن الكاتب الفرنسي “ريناود كامو” الذي يصوّر صورة مظلمة عن الاحتلال الديموغرافي للغرب، “إنّهم يريدون استبدالنا”.
كما يشرح “كامو” في كتابه: “في البداية يكون لديك شعبٌ ما، ثم وفي غضون جيلٍ واحدٍ فقط، لديك في مكانه شعبٌ آخر أو عدة شعوب أخرى”. إنّه يرى الأمر مخزيًا أن “تكون امرأة منتقبة تتحدث لغتنا بشكلٍ سيء وجاهلة بالثقافة الفرنسية معتبرة بشكل رسمي امرأة فرنسية، تمامًا مثل رجل فرنسي أصلي شغوف بالكنائس ذات الطراز الروماني ومطّلع على الخفايا اللفظية والنحوية لمونتين وروسو”. إنّ مجموعاتٍ مثل “بيغيدا” هي مجموعات بطولية في عيون السيّد “كامو”. إنّه يحيّ المجموعة كـ”جبهة تحرير” تقاتل “غزوًا استعماريًا جاريًا” حيث يكون الأوروبيون البيض هم “السكّان الأصليون المغزوون”.
لدى السيّدة “لو بين” قائدة حزب اليمين المتطرّف في فرنسا مخاوف شبيهة. وهي ترى حقّ الجنسية منذ الولادة كمحرّك الاستبدال. ورغم أنّها لا تستخدم المُصطلح المفضّل من طرف كثيرٍ من الجمهوريين في الولايات المتّحدة “أطفال المرساة (Anchor Baby)” إلّا أنّها تُصرّ كما قالت لي في المقابلة في مايو الماضي، على “أننا يجب أن نوقف حقّ الجنسية منذ الولادة”.
هذا النقاش طويل الأصل ويعود إلى “قضية دريفوس”، حيث حذّر الكاتب الفرنسي المعادي للساميّة “موريس بارس” أنّ المهاجرين يريدون فرض أسلوبهم في الحياة على فرنسا وأنّهم من الممكن أن يتسببوا في “دمار أرض أجدادنا”. كتب بارس في 1900: “إنّهم في تعارضٍ مع حضارتنا”. لقد رأى الهوية الفرنسية متأصلةً بصفاء في سلالته وقال: “انا أدافع عن مقبرتي”.
إصدار اليوم من هذا النقاش هو: إذا كنتَ ذا دمٍ أجنبي وكنتَ لا تتصرف بشكلٍ مناسب، فحينها لن تحصل على جواز سفر.
عَبَرَ مصطلح “الاستبدال العظيم” الأطلسي ووجد موطئ قدم لدى أناسٍ كانت لديهم دومًا فكرة تفوّق الجنس الأبيض. حذّر قائد اليمين المتطرّف في ألمانيا “جيرت فيلدرز” عام 2015 من “جموعٍ من الشباب في العشرينيات من عمرهم يغنون ‘الله أكبر’ على امتداد أوروبا”. وصنّف وجودهم كـ”احتلالٍ يهدد رفاهيتنا وأمننا وثقافتنا وهويتنا”.
بعد عامٍ من هذا، حضر السيّد فيلدرز مؤتمر الجمهوريين الوطني حيث ترّأس ندوة شواذ مؤيّدة لترامب مع اليمينية المتطرّفة “مينو يانوبولوس”، وقبل أن يبدأ حديثه أمام صورٍ لرجالٍ عاريي الصدور معلّقة على الجدار، وقبّعات “اجعلوا أمريكا عظيمةً مجددًا” وأعلام “لا تدس عليّ”، قُدّم السيّد فيلدرز كـ”أمل الحضارة الغربية”.
يمكن أن تكون كاليه وشارلوتسفيل بعيدتين عن بعضهما بـ4000 ميل، إلّا أنّ الأفكار المحفّزة لليمين المتطرّف في كلا المكانين هي نفسها. عندما نزل العنصريون البيض في شارلوتسفيل في أغسطس الماضي، هتف الجمهور: “لن يستبدلنا اليهود” و”لن تستبدلونا أنتم” قبل أن يقوم واحدٌ من أعضائهم بقتل امرأة بسيارة ويقوم آخرون بضرب رجلٍ أسود. لقد عادوا الأسبوعَ الماضي حاملين مشاعلًا ليهتفوا نفس الشعارات.
تمامًا مثلما أنّ لدى ترامب الكثير ليقوله عن هجمات الدولة الإسلامية دون أن يكون له أيّ تعليق على جرائم الكراهية ضد الهنود والسود والمسلمين، فإنّ الأوروبيين المتطرّفين سريعون لإدانة أيّ عنف صادر عن مسلم ولكن يشعرون نادرًا بأنّهم مكرهون على إدانة أي هجوم على المساجد أو احتشادات للمتطرّفين اليمينيين قرب الكنائس عشية يوم الغفران.
القيام بهذا قد يعزل جمهورهم عنهم. يقول “ألكسندر غولاند” الشريك المؤسس لأحدث حزب في البرلمان الألماني أنّ بديله لألمانيا ليس “الذراع البرلماني لبيغيدا” على الرغم من أنّه يعترف في مقابلة أنّ “الكثير من الناس المحتشدين مع بيغيدا في درسدن قد يكونون أعضاءً أو أصدقاءً أو مصوّتين” للجماعة. تمامًا مثل ترامب، فإنّ غولاند وماري لو بين لن يعترفوا بتاتًا بكونهم عنصربيين بِيضًا، إلّا أنّهم أكثر من سعيدين بالعواء لهم وقبول دعمهم.
تجاهل أولئك القلقون من أنّ أوروبا التي بلا آلهة وأنّ أمريكا الصديقة للمهاجرين قد لا تكونان قادرتين على تحمّل خطر الإسلاميين المتطرّفين خطرًا أكبر: العنصريون البِيض.
أيديولوجيتهم خطيرة بشكلٍ خاصّ لأنّهم يقدّمون أنفسهم كسكّانٍ أصليين مدافعين ببسالة عن وطنهم الأصلي. ولأنّهم يبدون كمثل معظم المواطنين، فإنّهم يحصلون على تعاطف من جموع الشعب بطريقةٍ لم يمكن أبدًا للإسلاميين الحصول عليها. القومية البيضاء هي من نَواحٍ كثيرة مرآة للتطرّف الإسلامي. يتشارك كلاهما حنينًا كثيرًا إلى شكلٍ أصفى من الهوية: واحدٌ إلى دولة إسلامية من العصور الوسطى، وواحدٌ إلى أمّة بيضاء صافية غير ملوّثة بدماء المهاجرين.
إذا تابع نفوذ العنصريين البِيض النمو، فإنّهم سيسعون إلى عرقلة حقوق المهاجرين والأقليّات وتخطّي المحاكم والدساتير على اعتبار كونها غير ديموقراطية لأنّها لا تعكس التفضيل الافتراضي لكلمة “الشعب”. نموّهم يهدد بتحويل البلدان التي فكّرنا فيها يومًا بكونها أيقونات التحرريّة إلى ديموقراطيات فقط بالاسم.